عبدالواحد الحميد وسنوات جيل من الجوف
للمكان ذاكرة لا تكاد أن تنمحي، ولذا كتب أناس عن أماكن وإن كانت غير محبّبة، ومن أبرز الأمثلة أدب السّجن، وذكريات الحرب، وعذابات المنفى. وإنّ الذكرى لتلّج على المرء حتى يثبتها على الورق؛ فكأنّها تطالب بحقّها في الرّواية، ونصيبها من الحياة، ومكانها الذي يتجاوز حدود المكان.
ومن سير المكان الجميلة، ما كتب عن بلاد ومواضع بأقلام أهلها ومن عاش فيها، فبعضهم كتب وهو ممدود الصّلة بدياره، ومنهم من دوّن ذكرياته وهو بعيد عن مرابعه اختيارًا أو اضطرارًا، وكم في المكان من ذكريات، وخواطر، وأزمنة تزيدها السّنون طيبًا وعبقًا، ويزيدها البعد لذاذة وشوقًا.
وأتصوّر أنّنا في المملكة العربيّة السّعوديّة، لدينا إرث ضخم من ذاكرة المكان لمّا يخدم كما ينبغي بعدُ، فكثير من حواضرنا وبوادينا لها تاريخ عريق، وقصّة تستحق التّوثيق، ولو نفر لهذا العمل الثّقافي المهم حملة الأقلام؛ لأنتجوا لنا مجموعًا عذبًا تغترف منه الأجيال، ونفاخر به غيرنا؛ فلسنا أهل نفط فقط.
فمن هذا الباب كتاب جميل عنوانه: سنوات الجوف: ذكريات جيل، تأليف د.عبدالواحد بن خالد الحميد، صدرت طبعته الأولى عام 1439=2017م، عن مركز عبدالرّحمن السّديري الثّقافي، ويقع في (315) صفحة، ويتكوّن من إهداء، وشكر، ومدخل مقتبس، ثمّ مقدّمة، وبعدها خمسة عشر عنوانًا. ويمتاز الكتاب بطباعة مريحة، وألوان رائعة، وعلى غلافه الأمامي صورة المؤلف إبّان دراسته في المرحلة المتوسطة، وهي تشع بالثّقة والتّفاؤل.
من حسنات الكتاب ضمن حسنات كثيرة، أنّه اكتفى بسرد ذكريات اجتماعيّة وثقافيّة دون أثقال سياسيّة، أو ثارات ماضية، وتجاوز الخلافات الفكريّة مع الإشارة إليها كتوثيق دونما تفصيل مملّ كما يفعل البعض بحثًا عن صيد، أو تنفيسًا عمّا يضطرم بداخله؛ وليس السّياق مناسبًا للسّجال.
وفي الكتاب تسويق أنيق لكتب مركز السّديري الثّقافي الذي يتولى المؤلف رئاسة هيئته العلميّة، ولهذا المركز مطبوعات جميلة، وإصدارات متنوعة، وفيه موظفون لطفاء، تواصلت هاتفيًا مع أهل الجوف منهم، وقابلت في الرّياض الأستاذ محمد صوانه، والأستاذ جهاد أبو مهنّا، وأنعم بهما وأكرم.
ثمّ نسب المؤلف الفضل لأصحابه، وأثنى على من خدم المنطقة وأهلها، وعلى من أفاده شخصيًا، ومع صراحته، فلم يقل جميع ما لديه؛ لأنّ في فمه ماء، وأتمنّى أن يزول هذا الماء، ويكمل د.الحميد مسيرة السّرد في كتاب آخر؛ بحيث يشمل تجاربه العمليّة في المواقع المتنوعة التي شغلها، وكان له فيها خبرات قمين به نشرها، وجدير بأجيالنا الإفادة منها.
كذلك يلمح القارئ في الكتاب حب المؤلف للجوف حبًا خالط الشّغاف، وجعله لا ينقطع عنها عامًا واحدًا حتى إبّان دراسته العليا في أمريكا، وهذه خصيصة جميلة، وخلّة حميدة، فحب الجزء يؤدي لحب الكل، وبعض من ضاقت عقولهم لا يستوعب هذا المعنى، ويحشر النّاس في زاوية مع أو ضد، مع أنّ المرء يسعه أن يحب مدينته، وعائلته، وقبيلته، وبلده، وأمّته، في آن واحد دونما تعارض.
أيضًا يظهر من السّيرة تأثر الجوف بمحيطها، فهي شماليّة، نجديّة، شاميّة، وبالتّالي أخذت من كلّ جوار شيئاً؛ سواء في أسماء الأشخاص وهو بيّن في أسماء الكرام الذين وردت بعض أخبارهم، أو من خلال بعض الكلمات والتّعابير والأمثلة، فضلًا عن بعض العادات والتّراتيب، وأخيرًا يبرز الأثر في الاهتمام الثّقافي، والفكري، والسّياسي.
كما يبدو أنّ أسرة د.الحميد مرتبطة بالشّعر، والثّقافة، والإعلام، وما أكثر من اشتغل من أهله بهذا العالم ابتداءً من والده، وصولاً إلى أحد أبناء أخيه، والمسيرة مستمرة بإذن الله، والعلم أفضل إرث يخلّفه المرء وراءه للقريب والبعيد. وقد تنقل المؤلف في مواقع ثقافيّة وإعلاميّة كثيرة، ومارس الكتابة بأنواعها، وله مع الكتابة شغف قديم يتنامى.
وفي الكتاب إشارات سريعة لغليان عقدي الخمسينات والسّتينات، وتبرز فيهما فلسطين والجزائر، حتى أنّ للجزائر في وجدان الجوف وأهلها موقع خاص بدا واضحًا في التّفاعل مع مقاومتها لفرنسا، وصيّر علمها مرفرفًا على البيوت والمتاجر، فضلًا عمّا لفلسطين من مكانة دفعت أهل الجوف ليتعاطفوا مع ثوار فيتنام نكاية بالأمريكان الذين لا يكفون عن مساندة الصّهاينة، ومن الطّبيعي أن يتأثر الشّبان خلال تلك الفترة بأفكار قوميّة وعروبيّة تتكفل الأيام بإنضاجها، وترشيدها.
ومن المحزن الواضح في سرد كاتبنا، ما عانته منطقة الجوف من إهمال تنموي، فهي عند بعض المسؤولين من الأطراف، والأماكن النّائية، ولدى صحيفة مكيّة لا تعدو كونها قطعة من البادية! مع أنّ الجوف مثل حائل تجتمع فيها الحضارة مع البداوة، وتمتزجان في نسيج بديع.
وأشار المؤلف لزملاء الدّراسة من أهل الجوف، ومنهم وزيران سابقان، وكتّاب وأدباء ومسؤولون، والذي يعرف الجوف وأهلها، يعلم يقينًا أنّهم يتصفون بالذّكاء وحدّة الذّهن، مع السّماحة وجمال الصّورة والأحدوثة، والكرم الكبير حتى أنّ ضيفهم ينتفخ بطنه من الشّبع وكثرة الطّعام، وبعض أهل الزّراعة يأنف من بيع محصوله من حلوة التّمور وغيرها.
وإذا كانت مصر هي أم الدّنيا؛ فلدى أهل الجوف رأي آخر، لأنّ ” عرعر” هي أم الدّنيا عندهم، بسبب الحضارة التي نالتها من وجود شركة خط أنابيب التّابلاين، والفرصة مواتية للمنطقة الآن كي تكون مثل المنطقة الشّرقية وأرامكو والنّفط، وذلك من خلال الفوسفات ومصانعه وشركاته، وكم ستكون التّنميّة الشّمالية باهرة نافعة.
وإذا كانت عرعر كذلك، فإنّ الرّياض حظيت بمنزلة الأبوين للدّنيا، ورأى فيها الفتى اليافع مالم يعهده من صنوف التّقدم والمدنيّة، وحين حطّت به رحال الدّراسة الجامعيّة في المنطقة الغربيّة، اكتشف أنّ جدّة الخير فعلًا غير! وكم في السّفر من فوائد لمن قدر عليه، وأحسن إدارته.
لا يخلو الكتاب من قصص، ووقائع نادرة، فمن عجوز تأكل ثعلبًا، إلى معلّم أوروبي مفتون بالنّباتات، وآخر مغرم بالآثار والفلك. وفيه كلمات قصيرة تعطي معاني كبيرة مثل “كبكم”، و “شيطان”، وأخبار طريفة عن مكتبات الجوف، ومدارسها، وحفلاتها، ومبارياتها، وسوق البحر، والذّهاب للمدرسة في البرد، والمطر، والوحل، وأحاديث السّوق، وحكايات الكبار، وديفيد الذي غدا قنيفد، ودراسة الّلغة الفرنسيّة في المرحلة الثّانويّة، وأوّل سباق للهجن في المملكة حين أقيم في الجوف.
ويتردّد كثيرًا اسم جامع الشّيخ فيصل المبارك أحد أبرز علماء نجد في الجوف، وورد ذكر تجار العقيلات، وحسّونة، وفيه أخبار عن دراسة فتيات صغيرات مع طلّاب المرحلة الابتدائيّة، وقيادة السّيارة اضطرارًا من بعض النّساء، وتغيير اسم الحي من الشّعيب إلى الشّعب باتّفاق بين المؤلف وعمّه وهما في مقتبل العمر.
ويخبرنا د.الحميد عن متابعة الشّباب لإذاعات إقليميّة ودوليّة، وانتظارهم لخطب عبد النّاصر وحفلات أم كلثوم، مع الاستمتاع الكبير بالبّر، والصّيد، ومغامرات الرّكوب في سيارات النّقل؛ فضلًا عن اهتبال الّليالي المقمرة؛ لأنّ الجوف كانت حينها بلا كهرباء، ولا شبكة مياه، وأمّا البث الإذاعي المحلي الصّافي، والتّلفزيون، وخدمة الهاتف، فأحلام بعيدة المنال إذذاك.
ويرى أبو أريج أنّ السّعادة شعور وليست مادّة، وتعظم لديه مع جيله قيمة الجوار، وأثر المرحلة الثّانوية الذي يخبو في زماننا، ويستعذب بهجة موسمي رمضان والعيد، مع هامش الحرية الممنوح خلال الأعياد. وينصح الكاتب الشّباب أن يعتنوا بأهدافهم، مع التّخطيط لبلوغها، إضافة إلى المتابعة والإصرار، والإعراض عن المثبّطين المغرمين بالنّقد.
ومع أنّ الاقتصاد علم صعب في مضمونه، ولغته، ومصطلحاته، إلّا أنّ المؤلف تغلّب على مشكلة تخصّصه، وأفاد من القراءات الأدبيّة والثّقافيّة في صباه وشبابه، واستبان أثر هذا البناء الّلغوي والأسلوبي فيما كتبه، حتى أنّ القارئ لا يجد فيه موضعًا عسيرًا، وتلك مزيّة تجعل مطالبتنا للكاتب د.الحميد بالمزيد ملّحة ومتواصلة.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الإثنين 03 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1439
16 من شهر يوليو عام 2018م
2 Comments