مواسم ومجتمع

عبث الصّغار …!

عبث الصّغار …!

الأطفال زينةُ الحياة الدنيا وبهجتها، بهم تزدان البيوت، وبضجيجهم العذب تأنس النّفوس، وكم يقاسي المحروم منهم من لوعة، وأسىً، وغصصٍ، لا يهونها إلا رجاء الأجر والمثوبة من عند الله الوهّاب.

ولأنّ الأطفال – صغار البيوت – لا يعرفون نظام المنزل، ولا يلتزمون برسومه، فهم سبب أكيد في بعض المشكلات ما بين إشعال حريق، أو إثارة جمر كامن، أو كسر زجاج، أو بعثرة أثاث، أو إفساد ذات بين، ممّا يجعل الأبوان – كبار البيوت – في مقام التّربية، وتقويم الأود، وإصلاح النّفوس، بما يحميها من مهامه الفساد والغواية؛ فينتفع منها أهل البيت أو على أقل تقدير يرتدع الصّغار بالزّواجر التي تمنع الاستفحال والشّر المستطير.

وقد كان من القضاء الماضي أن يكون لكل كبار صغار؛ ومن الواجب على صغار القوم توقير كبارهم، واحترامهم، والصّدور عن مشورتهم. ومن مسؤولية الكبار تقديم القدوة الحسنة للصغار، وهدايتهم للمحامد والمكارم، وتجنبيهم المهالك والسوءات، مع ضرورة الاحتفاء بوهجهم الذهني، ونشاطهم البدني، واحتواء طاقاتهم المتدفقة بما يجعلها إيجابية نافعة.

ومن الطبيعي أن يصاحب منع الصغار من محبوباتهم المؤذية، بعض التذمر واللجج الذي لا يأبه له المربي، ولا يلتفت إليه البتة؛ لأنّ مصلحة المجموع مقدمة على مصلحة الفرد غالباً، فكيف إن لم يكن للفرد مصلحة فيما يفعل! 

وليس تهالك الصغار على الأخطاء والانغماس فيها بدوافع الشر والإجرام دوماً، فقد يكون لخلل في التفكير، أو نقص في التجربة، أو انسياقاً وراء المجهول، وحباً للمغامرات، واغتراراً ببعض الشعارات والقناعات التي لا تصمد أمام رجاحة العقل، وهدوء الطباع، وسابق التجربة. وليس بلازم أن يكون الصغار صغار سنيٍ وأيام فقط؛ فلرّبما اكتهل المرء ولمّا يزل صغيراً بعدُ، وقد يكون الإنسان كبيراً وهو في ميعة الصّبا وعنفوان الشباب.

والصغير الذي لم يُفطم عن المخازي يصعب خلاصه منها، فتكبر مخازيه وتزداد، ويظل هو في تنامي صغاره؛ فتضج من شناعاته الأرض ومَنْ فوقها، ولا يرتاح أحد منه حتى يقلع عن غيه، أو تنقطع خطاه وتنمحي آثاره.

وكم شقي الناس بصغير يفتي من غير إجازة، ويعلم بلا حكمة، ويدعو دون بصيرة، ويحكم من غير برهان، ويعاقب ويكافئ من غير نظام، ويأمر وينهى بلا زمام من علم ولا خطام من مصلحة، ويفتئت على شريعة الله دونما حياء، ويهجم على منابر الخير وأهله بلا حجة، ويفتح الباب للمجون دون نظر للعواقب، ولا اعتبار بحالٍ أو مآل، ويسفك الدماء بلا حق، ويتلف الممتلكات والأموال لمجرد الزّهو بالخراب؛ إلى غير ذلك مما يطول سرده ولا ينقضي حصره من البلاء الذي يجر مثله في السّوء وإن خالفه في الاتجاه.

وحيث لا يرتدع الصغار عن صَغَارِهم إلا بمواقف الكبار وصبرهم، باستصحاب العزم والحزم، فلا بد من أداء الواجب المنوط بكل أحد بحسبه؛ فعلى من بسط الله يده بالسلطان والقوة أن يقيموا ما أعوج من حال الصغار؛ حتى تستقيم الأمور على سنن واضح، وقسطاس مستقيم، يأمن فيه الناس على دينهم، وأوطانهم، وأعراضهم، ودماءهم، وأموالهم.

وعلى أهل العلم واجب البيان والبلاغ بالدليل الشرعي، والحجج الدامغة، وواجب على المحتسبين الاستمرار في حسبتهم من سبلها ومنافذها التي تمنع الشر، وتمكن الخير، ولا تثير الإحن، وعلى من جعل الله عقول الناشئة وأفئدتهم تحت يديه واجب كبير جليل في التربية، والتعليم، والهداية، وقمين بمن هذه مهمته تهيئة نفسه لهذا العبء، وتبرئة ذمته أمام الله ثمّ التّاريخ.

ومما ينبغي التّنبيه إليه أن “نفخ” الصّغار وتكبيرهم، طريقة أهل الأهواء ومسلكهم؛ ليتخذوا من صغيرهم المُكَبَّر ركناً يأوون إليه، ومأرزاً يجتمعون عنده، ومن ذلك ما فعله قوم الكذاب مسيلمة معه، وما يفعله أصحاب التوجهات والأفكار مع مَنْ يمثلهم بخلع الصفات البراقة عليه، وقد يعلم هو قبل غيره بطلانها، ومثل ما يفعله المعجبون بمن يفتتنون به لحسن صوته، أو جمال صورته، أو قدرته الفائقة على التحكم بجسده أو ببعضه.

وكذلك سلوك عمي البصائر مع الذين يسوغون خطلهم باسم الدين، أو المصلحة، أو غير ذلك. وأكثر من يمارس هذا التّزوير المشين علانية بعض الإعلاميين؛ فيقومون بعملين منكرين متناقضين: تقزيم العمالقة، وتضخيم التّافهين، لهوى مريض في نفوسهم، أو لثارات قديمة وتصفية حسابات لم تغلق، وخصومات لم تنتهي.

ومهما يكن من أمر؛ فإن الكبير عند الله وصالح المؤمنين سيبقى كبيراً وإن تناوشه البّطالون بكل نقيصة، وليس يضير الصّادق والمخلص شيئاً؛ فغاية مطلوبه رضا الله وإن سخط عليه أبالسة الأرض وإمعاتها.

أحمد بن عبد المحسن العساف – الرياض

الأحد 18 من جمادى الآخرة 1426

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)