مواسم ومجتمع

هذا ما عند جدتي!

هذا ما عند جدتي!

لا أعرف على سبيل التّجربة مشاعر الأجداد تجاه أحفادهم وأسباطهم، لكنّي ممّا رأيت، وسمعت، ولاحظت، أجد أنّ الكبار يستعذبون هذه المرحلة، ويعاملون الأحفاد بطريقة مختلفة عمّا فعلوه مع أبنائهم إبّان طفولتهم. وفي منظر الجدّ مع حفيده تبرز حدود حياة الإنسان في ضعفيه، ولكلّ ضعف حقوق في أعناق الأقوياء.

ويمتاز مجتمعنا بتوقير كبير للأجداد، فهم آباء وأمّهات وإن علوا، ولهم واجب من البّر، والطّاعة، وخفض الجناح، ونصيب من الميراث في بعض الأحوال، ويلتزم النّاس بذلك تعبّداً لله، وإتّباعاً لشريعته، فإكرام ذي الشّيبة من إجلال الله، ثمّ اقتفاءً لآثار العرب وخطاهم الحميدة.

كما تباهي العرب بكبارها، وتستنكر إهانة أشياخها، ولذلك فاخر جرير شعراء عصره بأبيه، وقارعهم بهذا الرّجل؛ الذي قيل عن شحّ نفسه، ورثاثته، وقذارته مالا يخفى؛ فحين يغدو الفوارس للحرب، ينزوي أبو جرير خلف أتانه يتقمّل؛ ومع سوء الفعل، ووضاعة الحيوان، ظلّ الشّاعر فخوراً بهذا الوالد.

واستنكر الأقدمون على أقوام بخلهم، وخفوت نارهم كي لا يراها العابرون، وفوق ذلك قبيح صنيعهم مع عجوزهم، حين يستنبح الأضياف كلبهم، فما وقرّوها، ولا صانوها، فجمعوا مع البخل، العقوق المشين، وأقبح بهما متفرقين بله مجتمعين!

لذا فليس حسنًا إجراء بعض الأقوال دون بصر ورويّة، ومن ذلك ما اعتدناه لوصف جهالة البعض حين نقول: ما عنده ما عند جدّتي! فعندهنّ على الأقلّ الخبرة، والحنان، وصادق النّصح، فضلاً عن عفاف، وكفاف، وصيانة. ومن الطّريف ما ذكره لي زميل أنّ جدّته سألته عن رجل مشهور، فأجاب وهو غافل: ما عنده ما عند جدّتي! فقالت العجوز: أنا أم أمّك فلانة؟ فانتبه الزّميل، وانكبّ على جدّته يعتذر، ويطيّب خاطرها.

ولقد سعدت بإدراك جدّتين وجدّ واحد، وإن كان إدراك الأولى منهما قصيرًا، والله يرحمهم جميعًا، ويرفع درجاتهم، ويتقبّل منهم أحسن الذي عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم، في أصحاب الجنّة، ووالدينا، ومن يقرأ، ويؤمّن، ووالديه ووالديهم.

ورأيت من جدّتي لولوة بنت فهد النّاصر الرّباح (1331-1420) على علو سنّها، ودخولها في خانة القواعد من النّساء عدّة عقود، كثيرًا من مظاهر الحياء، والتّجافي عن الرّجال، والالتزام بالحجاب، والابتعاد عن التّبرج بصنوفه، وكان صوتها خفيضًا إذا اعتقدت باحتماليّة سماعه من رجل غريب، مع أنّه يخلو من التّغنج والدّلال.

وشاهدت سلام البررة من أبناء عمّها، وأبناء خالها عليها، ومخاطبتهم لها بوصف العمّة؛ لأنّها تكبر بعضهم بعشرات السّنين، ومع ذلك كانت تعاملهم وفق المنهج الشّرعي، بلا مصافحة، وبحجاب شرعي كامل كما تراه، وبقليل من الكلمات المنطوقة بصوت يكاد أن يُسمع.

ولجدّتي في الصّيف عباءة فضفاضة سميكة، ولها في الشّتاء جوخ نجفي ثقيل ابتاعته من سوق الأحساء قبل بضعة عقود، وفي الاثنين لا يستطيع أن يعرف أحد مالون الملابس تحتهما، فضلاً عن تقاطيع الجسد وحدوده، وظلّت مصرّة على استخدامهما حتى حين أدركها أرذل العمر، غفر الله لها.

وحين توفيّت رحمة الله عليها، استوهبتُ من والدتي حفظها الله الجوخ النّجفي، وذهبت لفتح أكمامه التي كانت مغلقة لتستر كفي جدّتي، ولضبط أطواله على مقاسي في سوق الزّل، فسألني الخيّاط: هذا الجوخ كان لامرأة؟ قلت: نعم! وكيف عرفت؟ فأجاب: طوله من الخلف سابغ كعادة النّساء سابقًا! ولا زلت ألبس هذا الجوخ كلّ شتاء، وأبدو حين أرتديه مع غطاء رأس أسود، وكأنّي أحد آيات الله؛ عائذًا بالله من شرورهم!

وأمّا جدّي سعود (1326-1400) رحمه الله، فلم يكن في عرف أقرانه متدينًا، ومع ذلك كان محافظًا على الفرائض، مكثرًا من تلاوة القرآن، موقّرًا للدِّين وعلمائه، معظّمًا لشعائر الله، ويذهب لصلاة الجمعة في ساعة مبكّرة جدًا، لا يذهب فيها أكثر صالحي زماننا، ومع انفتاحه النّسبي فقد وقف عند حدود الله لا يتخطّاها، رحمة الله عليه.

هؤلاء هم أجدادي، وأجزم أنّ أحوال أجداد الآخرين مشابهة أو أحسن، سواء في الحجاز الشّريف، أو في الجنوب الجميل، والشّمال الأشمّ، والشّرق المبارك، ونجد الشّامخة، وقد يختلف الوضع في مكان أو لدى أناس؛ بحسب اختلاف أحكام الحجاب، وعوائد النّاس، بيد أنّهم يشتركون في العفاف، والمروءة، ومجانبة الرّيب، وصون المحارم، وتحاشي الكبائر، وهجر رذائل الأعمال، والأمر بالمعروف ومحبة أهله، والنّهي عن المنكر وبغض أصحابه.

وكنّا نتمنى أن تكون الدّراما المحليّة، مراعية لهذه الحقيقة الغالبة، لا أن تنفخ في أحوال شاذّة أو تبتكرها، فمعاذ الله أن يكون الأجداد فسقة مردة، ومَنْ من النّاس يرضى بسماع ذلك عن كبرائه ناهيك عن التّفوّه به وروايته؟ وكيف نقول عن آباء وأمّهات العلماء، والمفكرين، والزّعماء، وشيوخ القبائل، ووجهاء البلد، وعامّة أهله، هذا القول الفاسد؟

فما أجدر هذا الفساد بحملة تقيم من أوده، وتصلح خلله، بطريقة صحيحة عادلة، فهذه الأوصاف لو كانت صادقة، لما جاز التّرويج لها باعتبارها مخالفة للشّرع الحنيف، فكيف بها وهي افتراء وعدوان على أمواتنا، وتجاوز على محكمات الشّريعة، ومناقضة لركائز الخلق العربي المعروف بشيمه وشهامته؟ وإنّه لفساد لا يقلّ خطورة عن فساد المال، والإدارة، والأعمال المشبوهة!

ومن الواجب الشّرعي والوطني على صناعة الدّراما المحليّة، أن تفخر بمآثر الأجداد، فهم من عاصر الشّدائد، وذاق طعم المرارة، وكابد الّلأواء والمشقّة، حتى بلغت البلاد حالاً من الوحدة، ومستوى من النّعمة، تُحسد عليه، وتُغبط. ومن الإجحاف وصمهم بهذه الشّنائع في أخلاقهم، ومروءتهم، حتى لو اُقترفت في عصورهم؛ فهي قطعًا من الشّذوذ الذي يؤكد القاعدة العريضة من الحياء والفضل، ولم يسلم حتى زمن النّبوة من الزّنا، والسّرقة، والجريمة، وهو خير أيّام الدّنيا.

ولإعلامنا في المناسب من طرائق هوليود قدوة، فلم تفضح أفلامه ومنتجاته آباء أمريكا القتلة؛ وجرائمهم في إبادة الهنود الحمر، وإنّما أظهرتهم على أنّهم فرسان نبلاء، وأفادت من أيّ شيء حسن لديهم، وتركت فظائعهم مع أنّها منجم خصب للعمل الدّرامي المثير، وهكذا يفعل الأتراك، والمصريون، والشّوام، مع بيئاتهم وأناسها.

وجميل بالعمل الفنّي المحلي في الدّراما والسّينما أن يتفاعل مع رؤية البلاد التّنمويّة، فنحن نطمح لمجتمع مختلف، وجيل مبدع، وأعمال فريدة، فلم لا تتحدّث أعمالنا عن المستقبل المنشود، حتى ينطبع المراد في أذهان الأجيال، ويسعون لبلوغه، على أن يكون العمل الفني بلا شطحات، بعيدًا عن المخالفات الكبرى، وكم في الإمكان أحسن ممّا كان، إذا كان هناك عقول، وقلوب، وأموال، وهمم، تريد إصلاح ما كان!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الأحد 04 من شهرِ رمضان المبارك عام 1439

20 من شهر مايو عام 2018م 

Please follow and like us:

8 Comments

  1. مقال يكتب بماء الذهب
    سلمت يمينك أخي أحمد عدا قولك ( ولإعلامنا قدوة في هوليود ) فهوليود قد بثت كل شر مستطير من جنس وإلحاد وتشكيك وحتى فضحت قتلى الهنود الحمر

    1. أهلا بكم أخي د. عيسى.
      المقصود الاقتداء في جانب إظهار الأمريكي بمظهر حسن.
      وحتى في موضوع الهنود الحمر لا أظنهم أبانوا عن حقيقة الإبادة، وإنما أظهروها كمقتلة عادية، وفيها جوانب بطولية.
      وشكرا لكم.

  2. جدتي والسينما
    فتحت السينما ابوابها في الموصل سنة 1936 . الموصل كانت من المدن المحافظة جدا . السينما كان بعض الشباب يذهب ولكن للنساء لايمكن . لكن هذا الذي حدث مع جدتي كان سنة 1939 . اخبرتني والدتي ان احدى الجيران اخبرتهم بان في تلك السنة سوف يطلعون صورة الكعبة والحجاج على شاشة السينما . والنساء المسنات يروحون ويشوفون امكة والحج والحجاج . على شاشة السينما وصل الخبر الى جدتي وكانت المسكينة تشتاق الذهاب للج . ولكن ولديها والدي وعمي في جبهات القتال ما عندها احد يرافقها. وفرحت بالفكرة وكان على امي اقناع صاحباتها من الجيران باقناع حماوتهم صديقات جدتي للذهاب لروية الج والحجاج على شاشة السينما . اقتنعوا وذهبوا للسينما وراؤا منظر الحج والحجاج . ولكن فرحتهم لم تتم. اذ بدا بعرض الفلم كان لشارلي شابلن بالاسود والابيض . ياساتر استر لم تستطع جدتي تحمل المفاجئة مما رات عيناها . ا فاغمى عليها وامي وصديقاتها يرشون الماء على وجهها ويصيحون. ام حميد سلامتك اصحي لنترك السينما. هذه جدتي صاحبة الحياء. لقد سمعت هذه القصة من امي عدة مرات . ونقلتها لاابنائي وبناتي . اخواني اخواتي الحياء فطرة تولد مع الانسان لايغيرها زمان ولا مكان اللهم ادمها علينا وعلى جميع المسلمين اينما كانوا

  3. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ووفقه لما يحب ويرضى . كنت قد ارسلت تعليق في رمضان بتاريخ 8- 27- 1439 تحت مقالة رمضان واحياء شبكات المجتمع ربما لم يصل ..رمضان انتهى تقبل الله منا جميعا صيامنا وقيامنا واعتق رقابنا ورقاب والدينا من النار. وامد الله في عمرنا لرمضان السنة القادمة ان شاء الله . ولكن احياء شبكات المجتمع نحتاجها على مدار السنة وعلى مدى الحياة .
    وقد كتبت فيه الله يرحم والدي واخص امي بالذكر رحمها الله وجعل مثواها الفردوس الاعلى. انا في العقد السابع من عمري. ولقد حباني الله الرب الكريم بذاكرة فوتوغرافية تحفظ كل شئ تقريبا بالصورة والحدث . تعود الى عمر خمس سنوات . لقد تركت هذه الام كل انطباع جيد واثر جميل بالنفس فهي قدوتي بكل ما هو جيد ونافع . الى ان تزوجت واغتربت. كانت توقضنا على وقت السحور بوقته وتعد لرمضان تجهيزاته قبل قدومه .وملابس العيد وكل ما يخص العيد قبل رمضان وهذا مافعلته انا مع عائلتي اينما حليت بمشارق الارض ومغاربها . واضفت عليها وانا امسك برؤؤس اقدامهم لاايقاضهم واقول يا صائم وحد الدائم . مبدا ثابت لايتغير بالنسبة لي . كبرت الاولاد وتزوجوا؟ انا حفضت الامانة امانة الصوم بامانة وصدق . يسالني الله عنها يوم القيامة. ماتبقى لي انا ذلك الفلم الجميل في ذاكرتي من رمضان . وانا اتسحر قبل شروق الشمس في الموصل وهنا في استراليا والفطور كذلك عند غياب الشمس في استراليا. نفس الشمس والقمر في البلدين . وصورة امي الرائعةحاضرة في ذهني . رحمها الله وجعل مثواها جنة الفردوس الاعلى هي وابي . ورحم وغفر لكل اباء وامهات المسلمين الاحياء منهم والاموت اللذين ربوا ويربون اولادهم .على عمل الصالحات ومكارم الاخلاق

  4. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه
    رمضان على الابواب قريبا . نتمنى للصائمين جميعا صياما مقبولا وذنبا مغفورا .احمد الله العلي القديرالذي امدنا بعمرنا وصحة لصوم رمضان هذه السنة. اطلب الرحمة والمغفرة لااموات المسلمين جميعا . ولااباءنا واماهاتنا لما بذلوه من جهد ومشقة في تربيتنا لنكون ناس معطائين ينفعون انفسهم ومجتمعهم اينما حلوا ورحلوا وعاشوا. ولك انتي ياوالدتي كل الحب والاعتزاز والتقدير لما بذرت في نفسي من اخلاق وقيم . مما جعلتك القدوة التي اتبعها .في تربية اولادي . فلقد ربيتهم بين حبي الذي طغى علي ولمسه من عرفني من اقارب واصدقاء وجيران ومعارف.ورشد صحيح وعدم تهاون في اركان الدين والاخلاق والمال والقيم الاجتماعية . مع احترام الذات وعدم بذلها. وعدم استغلال الغير واستضعافهم. وعدم نسيان عمل معروف يقدم من الغير وذكره دائما . والوفاء لمن ساعدهم ووقف بجانبهم وما اكثرهم اينما حلينا في مشارق الارض و مغاربها . من بني ادم حفضهم الله ورزقهم المال وراحة البال.فنكران الجميل صفة غير محببة للنفس السوية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)