بالانضباطِ نرتقي وليسَ…!
الحديثُ عنْ الانتقالِ إلى العالمِ الأولِ حديثٌ جميلٌ يخوضُ فيه الكثيرون، وفي ذلك دلالةٌ إيجابيّةٌ على اتفاقِ الغالبيّةِ على ضرورةِ نفضِ غبارِ التَّخلفِ، واللَّحاقِ بركبِ الأممِ المتطَّورةِ ثمَّ تجاوزها. وهذا ليسَ حلماً يقطعهُ علينا الواقعُ الصَّعب؛ فثمَّتَ دولٌ آسيويةٌ كانتْ معنا في ذيلِ القائمة؛ وباتتْ اليومَ موضعَ إعجابِ العالمِ وتقديره.
وإذا سبرنا سيرةَ هذهِ الدِّولِ في تحوِّلها السريعِ عبرَ نصفِ قرن، فإنَّنا سنجدُ عدداً منْ الأعمالِ المشتركةِ التي يمكنُ محاكاتُها، ويقفُ على رأسِها الاستثمارُ بالإنسانِ كأعظمِ موردٍ والعنايةُ بحقوقهِ وحفظِ كرامته، وإصلاحُ التّعليمِ وتنويعُه وتوسيعُ مجالاته؛ ليناسبَ غالبَ الطُّلابِ باختلافِ الميولِ والقدرات، بعدَ إجراءِ اختباراتٍ علميةٍ متعدِّدةٍ تسبقُ كلَّ مرحلة، معْ صرامةٍ في النِّظامِ تحجبُ الاستثناءات.
ففي ماليزيا يدرجونَ مهاراتٍ رئيسيّةً للتّفكيرِ في جميعِ المراحل الدِّراسيّة، ولدى سنغافورة ثلاثةُ أنظمةٍ تعليميّة، ويُعدُّ النِّظامُ التّعليميُ في كوريا الجنوبيّة متقدِّماً على مستوى العالم. والابتعاثُ في تلكَ البلادِ فريدٌ متميزٌ باختيارِ أنبهِ الطُّلاب، وأهمِ التخصُّصات، وأرقى الجامعات، معْ تزايدِ إيمانِ المبتعثينَ بواجبِهم الوطني المنتظر؛ حتى لا يذهبوا لدراسةِ الفيزياءِ أوْ التّقنيةِ أوْ الإدارة، ثمَّ يعودوا روائيينَ يكتبونَ ما لا ينفع. وقدْ حرصتْ دولُ آسيا أنْ تكونَ مؤئلاً للبعثاتِ التّعليمية؛ حتى تستغنيَ عنْ بلدانٍ تخالفُ ثقافتَها وسياستَها، وتستقطبَ البعثاتِ وقدْ كانَ لها ما أرادت.
ومنْ الجوانبِ المهمَّةِ في مسيرةِ هذه الدُّولِ إصلاحُ الاقتصاد، وتسهيلُ الاستثمار، وحمايةُ المالِ العام، وزيادةُ فرصِ العملِ والإنتاج؛ حتى غدتْ سنغافورة وماليزيا منْ أقلِّ دولِ العالمِ في معدَّل البطالة، وارتفعَ دخلُ الفردِ خلالَ أربعينَ عاماً ثلاثينَ ضعفاً في سنغافورة، وستةَ عشرَ ضعفاً في كوريا الجنوبيةِ؛ التي كانتْ دولةً فقيرةً تأخذُ المعوناتِ قبلَ أنْ تصيرَ دولةً مانحةً وعضواً في منظمةِ التّعاونِ والتّنميةِ الاقتصاديّة! ويعظمُ الأمرُ حينَ نقرأُ أنَّ سنغافورة وكوريا الجنوبية تخلوانِ تماماً منْ المواردِ الطَّبيعيّة، وماليزيا بلدٌ زراعيٌ محدودُ المحاصيل!
كما ارتفعتْ نسبةُ المواطنينَ الحاصلينَ على إسكانٍ حكوميٍ منْ 9 % إلى 82 % في سنغافورة، ولمْ يجدْ المراسلونَ الأجانبَ في سنغافورة فضائحَ فسادٍ كبيرٍ أوْ تصَّرفاتٍ خاطئةٍ خطيرةٍ يوردونَها في تقاريرهم، واحتلتْ هذهِ الدُّولُ المراتبَ الأولى في الشفافيةِ عالميًا، فأيُّ خيرٍ عظيمٍ تجنيه البلادُ منْ مواطنٍ يذهبُ لمكتبه، أوْ متجره، أوْ معمله، وقدْ أمنَ على رزقهِ ونفسه، واطمأنَّ على المالِ العامِ منْ العوادي؟
وحرصتْ الدُّول الآسيويةُ على الخلاصِ منْ التبعيّةِ للأجانب، ولمْ ترضخْ للتدَّخلاتِ الخارجيّة؛ فرفضتْ سنغافورة وساطةَ الرَّئيسِ كلينتون لمنعِ جلدِ فتىً أمريكيٍ ارتكبَ جرمًا، كما صكَّتْ أسماعَها عنْ الاستهزاءِ الغربي الذي وصفَ سنغافورةَ بأنَّها دولةٌ “مربيّة” لاهتمامِها بالقيم، ولمْ ينكصْ (مهاتير) عنْ معارضتهِ للعولمةِ معْ إجلابِ الإعلامِ الأمريكي وتوماس فريدمان -تحديداً- عليه، ولليابانِ موقفُ ثباتٍ لنصرةِ لغتِها وتقاليدِها أمامَ الاستكبارِ الأمريكي.
وممَّا قرأته في تجاربِ هذهِ الدُّولِ حسنُ اختيارِ الرِّجالِ؛ فلا يتولى المناصبَ العاليةَ إلاَّ الأكفاء، ولا ينصرفُ عنها إلاَّ مَنْ فقدَ الكفاءةَ بخللٍ أوْ وجودِ أفضلَ منه، وقدْ ألمحَ (كوان يو) لذلكَ حينَ قال: بعدَ عدَّةِ سنواتٍ في الحكومة، أدركتُ أنَّني كلمَّا اخترتُ أصحابَ المواهبِ كوزراءَ وإداريينَ ومهنيين، كانتْ سياساتنُا أكثرَ فعاليةً وأكثرَ نجاحاً، لقدْ توَّجبَ علينا أنْ نضعَ ثقتَنا بمسؤولينا وموظفينا الشَّبابِ الذين يتصفونَ بالاستقامةِ والأمانةِ، والذَّكاءِ والطَّاقة، والدَّافعِ والقدرةِ على التّنفيذ.
والحديثُ عنْ القيمِ وثقافةِ المجتمعِ وتقاليده يدحضُ شبهَ الأفَّاكينَ الذينَ يربطونَ النَّجاحَ بنسفِ القيم، فسنغافورة أصرَّتْ على أنْ تكونَ دولةً ترعى السّلوكَ الفاضلَ الصَّالحَ في المجتمع، وفي اليابانِ يتجلّى النَّجاحُ الأكبرُ للتّجربةِ اليابانيةِ في رفضِ اقتباسِ الثَّقافةِ الغربيّةِ التي تقودُ إلى التّغريبِ في كلَّ شيء، فنجحتْ حركةُ التّحديثِ اليابانيةِ في اقتباسِ تكنولوجيا الغربِ وتوطينِها، واستيعابِها، وتطويرِها دونَ أنْ تغادرَ أصالةَ تقاليدِها الاجتماعية، وقدْ عزا عددٌ منْ الباحثينَ نجاحَ هذهِ التّجربةِ إلى خصوصيّةِ المجتمعِ الياباني، وفي قومِنا مَنْ يقشَّعرُّ جلدُه إذا قيلَ: لنا خصوصيّة.
ويعودُ نجاحُ دولِ آسيا إجمالاً إلى امتيازِ الحكم، وانفتاحِ الاقتصاد، وصنعِ البيئةِ المشجِّعةِ للاستثمار، والثّقةِ المتبادلةِ بينَ الحكومةِ والشَّعبِ، وطرقِ التّعليمِ، والاتصالِ الإيجابي بالآخرين، إضافةً إلى استقلاليّةِ مصادرِ المعرفةِ لدى اليابانيين، ونقلِ المفيدِ منْ معارفِ الغربِ فقطْ حسبما أكدَّه (فوكوزاوا) أحدُ أبرزِ زعماءِ الإصلاحِ في عصرِ الإمبراطورِ (مايجي). وقدْ اعتمدتْ سنغافورة في تحقيقِ معجزتِها على بناءِ الإنسان، والمحافظةِ على القيمِ الحضاريّةِ والتّاريخِ والتّقاليد، ومنْ ثمَّ الانطلاقُ إلى الأخذِ بمقوماتِ بناءِ دولةٍ حديثةٍ لا تعرفُ حدوداً للتَّطور.
ومعْ استعراضِ الأحلامِ الآسيويةِ التي صارتْ واقعاً؛ نظلُّ نعيشُ في حلمٍ جميلٍ غيرِ مستحيل، بأنْ تتكاتفْ الشُّعوبُ والحكوماتُ لأداءِ الأمانةِ الملقاةِ على عواتقِهم، كما نتمنَّى أنْ نستفيدَ منْ هذهِ التّجاربِ بالزِّيارةِ والدِّراسةِ والقراءةِ([1]) والابتعاث، فقدْ استقبلتْ سنغافورة أكثرَ منْ عشرينَ ألفِ مسؤولٍ صينيٍ للاطلاعِ على تجربتها، وعسى أنْ يأتيَ يومٌ يكونُ فيهِ الوزراءُ وأكابرُ الموظفينَ منْ خريجي جامعاتِ آسيا الذينَ تجري في دمائِهم العزَّةُ بدينهم وتقاليدِهم، ويسيطرُ على تفكيرِهم خدمةُ بلادِهم ومجتمعاتِهم والارتفاعُ بها، ليستقرَّ في وعي العامَّةِ والخاصَّةِ أنَّ التَّطورَ والارتقاءَ يكونُ بأشياءَ وتدابيرَ منها التّخطيطُ والانضباطُ؛ وليسَ التّخبُّطُ والاختلاط.
أحمد بن عبد المحسن العسّاف-الرياض
الخميس 29 من شهرِ شعبانَ عام 1430
ahmadalassaf@gmail.com
[1] يوجد في المكتبة العربية عدة كتب عن دول آسيا لمن شاء الإطلاع.
2 Comments
الكاتب الفاضل احمدحفظه الله ووفقه لمايحب ويرضى
مقال قيم ونافع ومفيد. جدير بالقراءة من قبل الامهات والاباء ليفيدوا ابنائهم فلذات اكبادهم . باختيار ما هو صحيح لمستقبل ابناءهم ودراساتهم. . بالنسبة لطلاب البكالوريوس تتعاون جامعات سنغافورة مع الجامعات العالمية .بتدريس مناهج تلك الجامعات لطلابها في سنغافورة. ومنح درجاتها العلمية لهم وهم في سنغافورة . . الانضباط مالاحضته باحدى زياراتنا لسنغافورة قبل سنتين . وشدني التزام مواطني هذا البلد والتزامهم بالقوانين . اول مالفت نظري هو وقوف الناس طوابير باعداد كبيرة عند مكان انتظار سيارت الاجرة . لم يطل الانتظار لتوفر الاعداد الكبيرة من سيارت التاكسي ما ان تتحرك واحدة بركابها والا تاتي الثانية بسيل لاينقطع . وعندهم غرامة لكل شخص يرمي العلكة في الطرقات او منديل ورقية او اعقاب سيكاير . يجدر بالزائر لهذا البلد الاطلاع على قوانينه . واخيرا حفظ الله بلاد الحرمين . وادام عليها نعمة الاسقرار والامن والامان . والسلم والسلام . والرخاء . وحفظها من كل من يريد بها سوءا او اذى