يوم من حياة ستين كاتبًا
معرفة الحياة اليوميّة للكاتب، وعاداته قبل الكتابة، وخلالها، وبعده، مفيد جدّا للكتّاب المحترف منهم والناشئ؛ ففي التّجارب والخبرات تشارك من أهل المهنة الواحدة فيما يعينهم، وما يعترضهم، مع كيفيّة التّغلب عليه، وفائدة إضافيّة كبرى لمن التقطها، وتكمن في أنّ الكاتب غير مضطر للالتزام بعادة ما، أو التّمسك بطقوس كتابيّة مهما كانت.
يتفق كتّاب كثر على أنّه لا يوجد يوم نموذجي يجري على مجرى واحد في كلّ وقت، ومع أيّ عمل، وقد يخالفهم البعض ممّن ظلّ يكتب ثلاثة عقود في مكان واحد، وزمان محدّد، بيد أنّ العبرة في أن يستثمر الكاتب جميع الأماكن، ولا يضيع الأزمنة المواتية، ويحاول التّكيّف مع المتغيرات؛ كي لا يصبح رهين أحوال قد لا تجتمع له.
وممّا ورد كثيرًا في يوميّات الكتّاب، سبل تعاملهم مع الاتصالات التّقليديّة أو الحديثة، فبعضهم جعل بينه وبينها حاجزًا سميكًا، ومنهم من خصّص لها وقتًا في جدوله اليومي، وفيهم من انغمس فيها ضمن فترات الرّاحة من عناء الكتابة؛ وإنّه لعناء يكدّ الذّهن، ويجهد الظّهر والكتف، ويتعب اليد والرّقبة!
كما يكاد إجماع الكتّاب أن ينعقد على أهميّة المشي، وفائدته، أو الجري، أو السّباحة، أو أيّ ممارسة لرياضة جسديّة؛ حيث تمنح الجسم طاقة وحيويّة، وينعكس أثرها الإيجابي على العقل والرّوح، وما أجمل الكتابة بعد مشي طويل، أو قضاء وقت مع الماء سباحة ونظافة ولعبًا.
وللكتابة علاقة وثيقة مع المشروبات، فبعض الكتّاب لا تنساب أفكاره إلّا بعد أكواب من القهوة، أو أقداح من الشّاي بأنواعه، وللعصائر الطّبيعيّة موقعها المتأخر عن هذين الفاتنين -الشّاي والقهوة-، ولا يليق بالمسلم أن ينساق مع عادات الكفار المرتبطة بشرب النّبيذ، واحتساء الخمر، فديننا يحرّم المسكرات، وكلّ حرام لا بركة من وراء تناوله.
ويجزم كثيرون بأنّ جميع الأيام صالحة للكتابة، وإنّما الشّأن في ترتيب الوقت، وتكييف النّفس مع الأحوال المتقلّبة، وشجاعة البداية، فربّما تكون كلمة أو عنوانًا شرارة لإبداع خالد، ولو توانى الكاتب عن اقتناص الفرصة، واغتنام اللحظة؛ لفات عليه خير كثير.
بينما يلتزم فئام من الكتّاب بعدد يومي من الكلمات، بينما يتبع آخرون جدولًا زمنيًا دقيقًا، ويرضى البعض بأيّ إنجاز كي لا ينقطع عن مهنته، وقد يحتبس قسم منهم فترة ثم ينطلق كشلال هادر، والحكمة هنا أن يعالج الكاتب نفسه، ويلزمها بشيء، فإن التزمت وتعودت، زاد واستزاد حتى يحقّق مناه.
ومن أعظم المحفّزات على الكتابة، أن تجد قلمك قد مضى في خطّ كلمات وجمل وفقرات، ويرجي التّصحيح والتّنقيح إلى وقت لاحق، وبالطّريقة التي يأنس لها الكاتب، فكلّ إنجاز ينادي على أخيه، وكلّ عمل يلهم العمل الذي يليه، والحسنة تتبع أختها.
أيضًا ذكر الكتّاب عن يوميّاتهم التي تعينهم على الكتابة، فترة العزلة، ولحظات التّأمل، وأوقات البحث، والفضول الذي لا يستغني عنه كاتب البتة، والخلود للنّوم القصير أو العميق، ومواصلة الكتابة بعد الاستيقاظ، وفي بواكير الصّباح، أو مع هدوء الليل، وحين يكون المكان خاليًا من البشر.
ويغتنم الكاتب وقت فراغه، أو انشغاله بنشاط يومي معتاد، أو مقابلة النّاس، فتلك فرصة سانحة للتّفكير وتقليب الرّأي، وإعادة تدوير المادّة في ذهنه، والإفادة من طبائع المخلوقات، ومجريات الأحداث، والحقيقة أنّ هذا الإجراء يهوّن على الكاتب هاجس ضياع الوقت، ويعينه على تجاوز حبسة الكتابة.
ويشبّه الكتّاب عملية الكتابة بالقدرة على التّحمل، حيث تزداد مع المران والمواصلة، ويشيرون لمركزيّة التّعامل البارع مع اللغة، وبعضهم اتخذ مكانًا خاصًا للكتابة، بينما كتب آخرون في المقاهي، والحدائق، والمكتبات العامّة، وفي الطّائرات، والقطارات، وربّما في المطابخ، وغرف النّوم.
كذلك يوصي الكتّاب بتجنّب القلق حيال جودة الإنتاج، فمع الاستمرار تأتي الجودة ويظهر الإبداع، ويؤكدون على أنّ الكاتب قد يحتاج إلى بعض الوقت كي ينسجم مع مادّته، ويكرّر بعضهم للكاتب نصيحة عمليّة في كلمة قصيرة هي اجلس واكتب، وستنبهر من تقاطر الأفكار على ذهنك، وتواردها تباعًا.
وعلى الكاتب ألّا يندم إن خامره شعور بالأنانيّة فهذا من لوازم الكتابة، ويعترف بعض الكتّاب بفضل بعض الأماكن على أعمالهم، ومنها السّرير حيث لا تأتيهم بوارق الأفكار إلّا فيه، وكأنّ الأرق، أو الاستيقاظ من النّوم، بمثابة انتقام لفكرة لم تأخذ حقها في ذهن صاحبها!
وأيًا كان مكان الكتابة أو زمانه، فالكاتب الحصيف يجعلهما جاهزين لعمله، حتى لا يضطر للقيام غير مرّة من أجل إحضار شيء، أو إكمال نقص، والإعداد المسبق سلوك يجعل الأفكار متسلسلة، ويحول دون إعادة الكلمات، ويمنع ازدحام الجمل، أو اضطراب الفقرات.
من جميل ما قاله الكتّاب ضرورة القراءة اليوميّة، واصطحاب دفتر ملحوظات قد تغني عنه أجهزة الهاتف الحديثة، ومحاولة جعل الحياة المحيطة مساعدة على الكتابة بطريقة مباشرة أو بعد تحويرها، والابتعاد عن عالم الكتابة فترة معينة يوميًا، ولهذا البعد أثر منشط للكتابة بعد العودة إليها، ومن الغريب أنّ بعضهم يكتب مسودته الأولى باستخدام القلم، وليس في جهاز الكمبيوتر.
وبالجملة فالكاتب لا يتقاعد، ويسعى لممارسة مهنته يوميًا، ويترفع عن العمل الوتيري؛ كي لا يقع أسيرًا له، ويعتني ببدنه وصحته وعقله، ولا يكفّ عن الخيال والفضول، ويكتب ثم يكتب، وبعدها ينهض للتّحرير والتّنقيح، ويفترض أنّ كلّ عمل يقود لما بعده، ويختلف عنه، ومن سار على درب الجدّية وصل، وبلغ حدًا من لياقة الكتابة؛ تهيئه إلى أعمال باقية.
كانت هذه خلاصة خبرات كتّاب عالميين، وزبدة أقوالهم التي نشروها في صحيفة الغارديان البريطانيّة، وقدّمتها للقارئ العربي وللكاتب العربي منشورات تكوين المختصّة بالكتابة عن الكتابة، ضمن كتاب عنوانه: يوم من حياة كاتب: (59 كاتبًا يتحدثون عن روتين الكتابة)، ترجمة علي زين، وصدرت طبعته العربيّة الأولى عام 2017م، ويقع في (268) صفحة من القطع المتوسط، وعشر ريعه لصالح أطفال اليمن؛ كعادة تكوين في منشوراتهم، وهو سبق والتزام يحسب لهم، ولا غرابة فعالم الكتابة يمتاز بشفافيّة إنسانيّة ترنو للخير، وتهفو لنشر الزّين، وهم أهل لكلّ جميل.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الخميس 17 من شهرِ شعبان عام 1439
03 من شهر مايو عام 2018م