سياسة واقتصاد

رسالة إلى بلدي: أنا أتهم!

رسالة إلى بلدي: أنا أتهم!

تذوب معاني الثّقافة حتى تضمحل، ويفقد الفكر بريقه، إذا لم يستخدمهما المثقف والمفكر في نصرة ما يعتقده، ويحوطهما عن الارتزاق المشين، أو الانزلاق إلى معارك مفتعلة، وآراء تقود إلى تضييق ظالم، وإقصاء فج. وقمين بمن يرى نفسه من طبقة النّخبة أن يفحص مواقفه، فإذا كانت تستند إلى مبادئ بغضّ النّظر عن صوابها، فقد نجا من عار الكذب وإثم شهادة الزّور، وآوى إلى ركن شديد، وإن كانت تتبع الرّياح اللواقح؛ فجدير به أن يعتزل ويبكي على تاريخه وآخرته!

وفي قرون قريبة ماضية، أصبح اليهود رمزًا للشّرور في أوروبا، وإلصاق أيّ تهمة بهم يقود إلى المناصب، وحصد التّأييد الشّعبي، واكتساح الميدان، ونجم عن ذلك مظالم فرديّة وجماعيّة، ومنها ما حدث لضابط المدفعيّة الفرنسي ألفريد دريفوس، فلأنّه يهودي، حوكم وأدين عام (1894م) بتهمة الخيانة، وأصبحت هذه الواقعة حينذاك قضيّة سياسيّة ساخنة، أشغلت الرّأي العام الفرنسي.

وبشجاعة نادرة، كتب الأديب الفرنسي إيميل زولا مقالة عام (1898م)، ونشرها في صدر صحيفة باريس اليوم الشّهيرة، عنوانها: رسالة إلى فرنسا: أنا أتهم! وبهذه الرّسالة عرّض زولا مستقبله المهني للضّياع؛ بل جعل حياته كلّها في خطر، بيد أنّه تسامى بنبل الموقف والمبدأ، وهدف من مقالته إلى الدّفاع عن اليهود في المجتمع الفرنسي، ومقاومة الإبعاد والنّبذ الواقعين عليهم بسعار وغطرسة، وقال زولا في مرافعته الباقية: أجد أنّ صمتي نذالة!

ومع أنّ زولا مات في اختناق غامض عام (1902م)، ودفن بطريقة عاديّة، إلّا أنّ رفاته نقل بعد ستّ سنوات من رحيله، إلى مقابر البانثيون وهي خاصّة بعظماء فرنسا، حيث أخلدته مرافعته الإنسانيّة الشّريفة، وظلّت محفوظة حيّة، وسجلت ضمن مآثره لا في تاريخ فرنسا فقط، بل في التّاريخ الإنساني أجمعه، وزاد من قيمة تصرفه الجريء آنذاك، أنّه دافع عن فئة مهمّشة قديمًا؛ وهي تكاد أن تتصّدر المشهد الثّقافي والسّياسي والإعلامي في عالم اليوم!

وبعد أزيد من مئة عام، اقتنص الكاتب الفرنسي إيدوي بلينيل مرافعة الكاتب إيميل زولا، وأصدر كتابه عام (2014م) بعنوان: من أجل المسلمين، وضمّنه رسالة إلى فرنسا، ينتقد فيها بألم الأحرار، ذلك الحراك الجائر داخل المجتمع الفرنسي، وخصوصًا من طبقة المثقفين والسّاسة، الذين شاركوا بنفعيّة في نفخ أوار ظاهرة الإسلاموفوبيا، حتى بلغت حدًا من الوقاحة لا يسع المنصف تجاهله؛ فتكرار الأحداث والتّصريحات، وولوغ بعض المرموقين فيها، يؤشر إلى أنّ الأمر أكبر من زلّة، وأخطر من موضة عابرة، وأنّ لهذا الشّحن السّلبي تجاه أحد مكونات المجتمع آثارًا مستقبليّة مرعبة.

وكرّر الكاتب إيدوي في دفاعه عن المسلمين، ووقوفه ضدّ الحملة التّضليليّة التي تستهدفهم، صرخة الاحتجاج المدّوية، التي أطلقها الكاتب إيميل زولا قبل قرن من الزّمان، ولفت بلينيل النّظر إلى أنّ السّكوت عن هذه الحملة التّعسفيّة، خيانة لقيم الجمهوريّة الفرنسيّة! وهذا التّناقض البارز يتناقص معه التّصالح مع الذّات، الذي قد يفاخر به بعض المفكرين ويدعو إليه، ثم لا ينتبهون إلى وقوعهم في عكسه.

ومما قاله الأخير في كتابه عن عداوة المسلمين: إنّ ما يجري في فرنسا هو توظيف كثيف، لصناعة عدو داخلي، وإيجاد أوضاع مفزعة داخل المجتمع الفرنسي تجاه المسلمين من بنيه وساكنيه، ولا يقتصر ذلك على طيف سياسي بعينه، بل يتشارك فيه كافّة الأطياف السّياسية، من أقصى اليمين إلى اليسار الثّوري، وبالتّالي فقدت هذه الحملة أيّ لون خاصّ أو سمة يعرف بها صاحبها، وغدت شعارًا متاحًا على قارعة طريق العمل السّياسي والمجتمعي، ويمكن لأيّ فصيل استغلاله بلؤم!

إنّ فعل الكاتب والأديب زولا، وصنيع الكاتب المثقف بلينيل، الذي شغل منصب رئيس تحرير جريدة لوموند الفرنسيّة، ويرأس حاليًا تحرير صحيفة ميديا بارت الإلكترونية، الأكثر تأثيراً وشعبيّة في فرنسا، والتي لا تظهر الإعلانات في صفحاتها، لقمين بالاقتداء ممن يرى في نفسه الأهليّة والصّدق، مع القدرة على مواجهة السّهام حتى تتكسر النّصال على النّصال!

وقد أكدّ الرّجلان على مبدأ عدل، ورأي مستقيم، وهو أنّ الخلط بين جماعة بشريّة أيًّا كان رابطها الجامع لها، وبين تصرفات فئام من المحسوبين عليها، سواء كانوا منها أو من المغروسين ضمن نسيجها، هو تمهيد للظّلم والعبث، وإنّ التزام الصّمت حيال هذا الإجراء، والكف عن البيان والتّوضيح، يسبغ الشّرعية على التّمييز والاستئصال؛ فضلًا عن التّشويش على الوعي المجتمعي، وواجب المثقف خلاف ذلك تمامًا.

وفي هذين الموقفين الكبيرين ملامح مهمّة، اختصرها في أمرين، أوّلهما: هل يوجد في مثقفي المسلمين، وكتّابهم، ومفكريهم، من يقوى على قول الحقيقة التي يؤمن بها، ويخالف موجة التّشنيع على الإسلام، وثقافته، ودعاته، وأعماله، داخل بلاد المسلمين أنفسهم؟ وإن لم يفعلوا فهل يكتفون بالصّمت، والنأي عن المشاركة الآثمة فيها؟ وإلّا فتبًا للثّقافة التي يتظاهرون بها!

والملمح الثّاني الأهم، هو أنّ اليهود كانوا قبل مئة وعشرين عامًا يعانون من العداء، والإقصاء، والظّلم أحيانًا في أوروبا، وهم اليوم على رأس قائمة من تطلب الأحزاب والنّخب مرضاتهم، على اختلاف موقع الحزب يمينًا أو يسارًا؛ فكلّ المتناقضين يكادون أن يجمعوا على موالاة اليهود، فهل يستطيع أهل الإسلام تغيير مواقعهم الحاليّة البائسة حتى يكونوا الرّقم الصّعب في ديارهم وحيثما حلّوا؟ ثمّ ألا يستحق الكاتب المنصف بلينيل، المساندة من حكومات المسلمين، ومنظّماتهم، والقادرين من أفرادهم؟

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الأربعاء 09 من شهرِ شعبان عام 1439

25 من شهر أبريل عام 2018م 

Please follow and like us:

4 Comments

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الاخ الكاتب الفاضل احمد العساف حفظه الله ورعاه
    مقالة خطت بقلم من ذهب قراتها اكثر من مرة وكنت محقا بكل ماكتبته فلقد قدر الله علينا ان نسيح في بلاده الواسعة فلقد تنقلنا في اربع قارات منذ السبعينات واستقرينا في القارة النائية وبحكم شغل زوجي الاكاديمي حملت هم تمثيل بلدي وديني وتقديمهم بصورتهم الصحيحة . لااننا رضينا ام ابينا نحن المغتربين نعتبر سفراء لبلادنا وقوميتنا وديننا . ولكن الغالبية بتعاملهم يجيدون خلط الماء والزيت تذاكي وليس ذكاء وان لله وانا اليه راجعون اللهم اصلحنا واصلح الجميع بارك الله فيك .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)