سبع زيارات للتّاريخ (6)
محمد رضا بهلوي
ليس غريبًا أن تكون الزِّيارة المرتبطة بإيران هي أطول زيارات الكتاب، فلهيكل علاقة بإيران الشَّاه ومصدّق، كما أنَّ له علاقة بإيران الثَّورة والخميني، وطبعًا علاقاته كلّها محصورة في التَّأليف، والعمل الصَّحفي، وله كتابان عن إيران بينهما ثلاثة عقود تقريبًا، والأخير منهما ترجم إلى ثلاثين لغة.
وهذه هي سادس زيارات الكتاب وأطولها، وكانت من نصيب محمد رضا بهلوي، وعنوانها: عرش الطّاووس.. وكلّ الدّروس المنسيّة! ويعترف هيكل بأنَّ مشاعره تجاه الشَّاه جلبت له الحيرة، فيعذره طورًا، ويلومه طورًا آخر. وأولُّ لقاء بينهما حدث عام 1951م إبَّان صراع الشَّاه مع مصدّق، واللقاء الثَّاني كان عام 1975م بدعوة من الشَّاه نفسه، وفيها جلسا معًا سبع ساعات.
يرى هيكل المنطق في تصرفات الشَّاه أحيانًا، بينما يبصره في أحايين أخرى مجدِّفًا في اتجاه معاد لتيار التَّاريخ، ولا مناص له من الغرق. ويجزم هيكل بصعوبة الفهم في عالم السِّياسة، وما أسهل ما يتجاسر عليها بعضنا، متناسين خفاياها، وخباياها، وكم خلف الظَّاهر من أسرار وأشياء!
ونظرًا لالتباس العلاقات بين روسيا وإيران، وتداخلها ما بين حرب، واحتلال، ومقاومة، ومصالح مشتركة، فإنَّ تناقض البلدين أمر طبيعي، وتسعى إيران دومًا لإدارة هذا التَّناقض كي لا تكون الخاسر الأكبر من عداء جارها الشَّرس جدًا. وينعى هيكل على ثورة الخميني حرمانها نفسها من البعد الاستراتيجي؛ وذلك بالتزامها بمذهبيّة ضيّقة، تعادي المحيط الإسلامي المجاور.
كما يرى هيكل بأنَّ تدَّفق أموال النَّفط إلى إيران الشَّاه، جعل عمليّة التَّحديث فيها متسارعة جدًا، وهو تحديث يبني أحجارًا ويهدم قيمًا، في تناقض صارخ لا يكتب لمثله النَّجاح ولا الاستمرار. ومن المحزن أنَّ كيسنجر حين أراد إشغال العراق عن معارضة سلام السَّادات مع اليهود، كتب برقية للشَّاه؛ الذي أمر جيشه من فوره بالتَّحرش بالحدود العراقيّة؛ فأشغلهم عن السَّادات، وإسرائيل، والسَّلام، وياله من شاه مطيع!
وبعد وصول هيكل لإيران استقبل كالزّعماء، ولاحظ أنَّ القانون الوحيد السَّائد في إيران، هو طاعة أوامر الشَّاه، ونيل مرضاته، وويح لأيِّ بلد يعلو الأشخاص فيه على النِّظام، مع أهمية التَّوقير والتَّقدير للرّموز، بيد أنَّ الأنظمة تحكم الجميع بلا مثنويّة! ولأنَّ الشَّاه زعيم هذا شأنه، فقد فرض على معارضيه سجن النّسيان، أو سجن القضبان!
واستنكر الشَّاه على هيكل ذكره “الخليج” دون صفة، وبعض النَّاس يعتقد أنَّ تغوَّل إيران الحالي مرتبط بنظام الملالي فقط، والصَّحيح أنَّه تغول الجوار الذي يرى نفسه قويًا، وتغول الحضارة التي تنظر لتاريخها بزهو، وتغول المذهب أخيرًا الذي لا يرانا إلّا نواصب طالحنا قبل صالحنا، فالمسألة عضويّة بنيويّة، ولو تغير أيّ نظام حكم في طهران، والحلُّ الوحيد يكمن في امتلاكنا القوة بمعناها الواسع فقط، والتّعامل مع إيران بمنطق النّدية الذّاتية دون الاعتماد على أحد.
ولاحظ هيكل افتتان الشَّاه بالمظاهر، وتعلّقه بالشّكليات، وقد عرف الغرب هوسه بالجنس والملّذات، فصارت جداول زياراته للخارج تشتمل على ليال حمر ماجنة مع جميلات هوليود، وبائعات الهوى للنُّخبة السِّياسية، وأقبح من فعلهم مع الشَّاه، صنيعهم مع الإمبراطورة ثريا؛ بجمعها مع فتيان الشَّاشة الأمريكية ونجومها، وإنَّ “نخبة” هذا خبرها لنكبة على البلاد، ومكانها المناسب قفص الاتّهام في قاعات المحاكم.
وحين ثقل السَّفر على الشَّاه، استخدم إحدى جزر الخليج، لتكون مركزًا سياحيًا عالميًا للصَّفوة القادرة على دفع المال، وامتلأت صحف العالم بصور عشرات الجميلات، وكلّ واحدة منهنَّ تزعم أنَّها قضت أسبوعًا خياليًا في جزيرة كيش، ثمَّ غادرتها بذكريات دافئة مع الشَّاه، وبألوف الدُّولارات.
وكان الشَّاه مغرمًا بالتَّسلح؛ لأنَّه يهدف إلى أن يكون الأقوى في المنطقة، ويحمي نفسه وبلده خاصَّة أنَّها في بقعة مستهدفة، وموضع أطماع عالميّة، فضلًا عن ولعه الحثيث بدور رئيس له في الإقليم، فسعى لبناء جيش عرمرم، وسلَّحه بترسانة أسلحة، حركت مصانع السِّلاح الأمريكي زمنًا، وكلُّ تصرفاته هذه كانت للحصول على الاطمئنان، وقد غاب عنه بناء علاقة متينة مع الشَّعب، وحرص على مساندة الخارج له، وأهمل ولاء الدَّاخل.
حارب الشَّاه الشُّيوعية في ظفار بعمان، وهو يدِّعي حماية مصالحه المتشاطئة مع عمان على ساحل الخليج، والحفاظ على المضائق؛ وقد يكون تعليله صحيحًا، وقد يكون “جهاده” ضدَّ الشُّيوعية استجابة لتأذين أمريكا بحيَّ على الجهاد ضدَّ الشُّيوعيّة فقط، ولو طال به عمر، لانقلب على هذا الجهاد.
أيضًا من مغامرات الشَّاه، تكوينه ما يسمَّى بنادي السَّافاري، للتَّدخل في بلاد بعيدة، ليس لها علاقة بأمن إيران القومي لا من قريب ولا من بعيد، وإنَّما كان الرَّجل واجهة لأمريكا، ودفع المسكين أموال شعبه بسخاء، وأزهق أرواحهم، فما ربح بقاء العرش، ولا وفّت أمريكا له بالعهد، ولا سلم من نقمة الشَّعب عليه.
وكانت علاقات الشَّاه بإسرائيل حسنة؛ بل في توافق شبه تام، ووقف مع إسرائيل ضدَّ مصر في حرب عام 1973م، وأعاق أيَّ شيء يعين مصر في حربها، وحين هرب بعد الانقلاب، ولم يجد من يقبله لاجئًا، استقبله السَّادات، وسخّر إعلام مصر لإبراز جهود الشَّاه في مصر إبَّان حرب 1973، وقد فعلوا وكأنّه سبب العبور!!
كما يجزم هيكل بأنَّ فساد الشَّاه، وأسرته، وحاشيته، وعبثهم بأموال النَّفط، كانت وراء تعاظم فوران الشَّعب وسيره خلف أيَّ قائد، ولم ينفع الشَّاه إيحاؤه الدَّائم الصَّحيح لشعبه بأنَّ الخليج هو بؤرة الصّراع الحالي والمستقبلي، وغرق في أحلامه معتقدًا أنَّه اجتاز أصعب الّلحظات، بينما كانت الّلحظات العسيرة تحثُّ الخطى إليه، وهو في سكرة العمه.
وممّا زاد في طمأنته؛ ظنُّه الفاسد أنَّ مستقبل إيران مرتبط بأسرته، وأنَّه يصنع إيران جديدة، متطورة، منفتحة، كي يسلّمها لابنه؛ وهو مالم يكن. ومن المفارقات أنَّ الشَّاه يستبعد الانقلاب العسكري؛ لأنَّه تولّى تربية ضبَّاط الجيش بنفسه، فآتاه البلاء من حيث لم يحتسب، ولم تسعفه ثقته المفرطة بنفسه.
وحين قابل هيكل في زيارته معارضًا سابقًا للشَّاه، أفصح له عن استغرابه من التَّغييرات التي طرأت على الشَّاه، فقال المعارض: السُّلطة المطلقة غيرته، وجبال السِّلاح غيرته، وأساليب السَّافاك في القمع غيرته، ونفوس النَّاس الضَّعيفة أمام سطوة الإفساد غيرته.
ومع كلِّ ما قدَّمه الشَّاه لأمريكا ودول الغرب من خدمات وتنازلات ومخازي، لم يرفعوا به رأسًا بعد الثَّورة عليه، فأمريكا رفضت استقباله، وبالكاد وافقت على علاجه، وأدخلته للمستشفى ثمَّ أخرجته من باب المخلَّفات! وتآمرت عليه في بنما لتسليمه لملالي إيران في صفقة الرَّهائن، وكانت مخابرات أمريكا تسمّيه الخازوق بعد أن كان جلالة الإمبراطور!
أما فرنسا فقد آوت الخميني ونقلته لطهران، ولم تجب على توسلات الشّاه لقبوله مريضًا يتعالج، مع أنَّ رئيسها جيسكار ديستان كان يلعق حذاء الشَّاه حسب وصفه! ولم تمنحه بريطانيا تأشيرة سفر، وكذلك فعلت سويسرا، وأمّا حساباته، وأمواله، ومجوهراته، وحقائبه الممتلئة، فقد اختفت ولم يجد لها أيَّ أثر.
وسبق أن قرأت في مصدر آخر أنَّ الشَّاه كان يعظ جيرانه، ويحثُّهم على القرب من شعوبهم، والعدل، ومجانبة الاستبداد، وفي خلواته كان يتوقع زوال ملكهم؛ لأنَّهم لم يستمعوا لنصائحه، وها قد غادر الرُّجل واختفى، فهل يتعظ الآخرون من مصيره، كما يتمنّى هيكل؟!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرّياض
الأربعاء 26 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1439
14 من شهر مارس عام 2018م
One Comment