سير وأعلام عرض كتاب

سبع زيارات للتّاريخ (5)

سبع زيارات للتّاريخ (5)

جواهر لال نهرو

اجتماع الثّقافة والسّلطة نادر، وإذا اجتمعا بحقٍّ كانا خيرًا للبلد وأهله، وأذكر أنَّ مثقفي تونس يفرِّقون بين استبداد بورقيبة، واستبداد خلفه بنعلي، فالأوّل مثقف مستبد، والآخر جاهل ومستبد، وما أشنع الجهل، وأبشع الاستبداد، فإذا اجتمعا أهلكا الحرث، والنّسل، والثّقافة!

خطر لي ذلك مع قراءة خامس زيارات هيكل في كتابه إلى الزّعيم الهندي جواهر لال نهرو، وعنوانها مباشر جداً: المثقف والسّلطة، وقد تتابعت لقاءات هيكل مع نهرو، بيد أنّ آخرها كان أطولها، وأمتعها، ومثله لا ينسى؛ فبعده مات نهرو في ذات المكان الذي التقيا فيه، وخلفه في رئاسة الحكومة ثالثهما في تلك الزّيارة.

ونهرو متصالح مع نفسه، ويقول ما يعتقده، ولذلك عبّر عن حركة الضّباط الأحرار بأنّها انقلاب وليست ثورة، مع أنّه كان صديقًا لعبد النَّاصر، بيد أنّ لدى الرّجل عقل يمنعه من سوء الفهم، وحياء يحول بينه وبين التّلبيس والدّجل على الآخرين.

ويمتلك نهرو حسِّاً سياسيّاً يجعله يقبل بالأمر الواقع وإن لم يرض عنه، وهو يثق بنفسه حتى أنَّ غيره يشعر بهذه الثّقة، وله صلة وثيقة بالأفكار، ومعرفة حميمة بالتّاريخ، وعندما يسوق أمرًا ليس له فيه رأي قاطع؛ يحيطه بعنصر الشّك. وكنت أستحضر مع قراءة مجريات زورة هيكل لنهرو، صورة الرّئيس المنصف المرزوقي، الذي حرمت منه تونس، وأخلي من قصر قرطاجة الذي لم يرَ مثله خلال ثمانية عقود على الأقل، والله يقيّض لتونس وأهلها ما ينفعهم.

وفي كلمة ناريّة ملتهبة، خلال جلسة مغلقة لبعض زعماء دول حركة عدم الانحياز، وحضرها هيكل خلسة بجرأة الصّحفي، قال نهرو للحاضرين: تكرّرت كلمة الحرية والاستقلال، فماذا تعرفون عنهما؟ وهل تحصرون معناهما فقط في خروج المستعمر؟ وألقى بينهم قذيفة بقوله: إنّكم تثيرون فزعي بانشغالكم بلحظة ماضية وليس بلحظة قادمة!

ثمّ أردف: أيّ استقلال تشعرون به وقد نهبت مواردكم، أو ربطت بنظم دوليّة تواصل نهبها؟ وأيّ فائدة ترجونها من البنك الدولي، أو صندوق النَّقد، وسادتهما هم الجلّاد السّابق لدولنا؟ وإنَّ جرائم “الاستعمار” لن تصحّحها قروض مؤسساته وإنَّما تزيدها سوءًا!

ولفت نظرهم إلى أنّ الدّول المحتلّة، قد اكتسبت خبرة في التّعامل مع الأقليّات من كلّ نوع، وستجعلها ورقة للعبث بالاستقلال أو الاستقرار متى ما شاءت. ولنهرو نظرة واقعيّة تجاه هيئة الأمم المتحدة، ملّخصها أّنها مقهى لتناول الشّاي، فما لم تتساوى أصوات الأعضاء؛ فلن يكون لها قيمة أو تأثير.

ويؤكد نهرو بأنَّ الاستقلال والحريّة ليست تعبيرات فرح، وإنّما أثقال ومسؤوليّة، وأنَّ تقدّم الأمم هو الوسيلة الجديدة للسّيطرة، وهذا التّقدم اجتماعي بالمقام الأول، وعلى رأس جانبه الاجتماعي العدل، ثم التّنمية المرتبطة بالعلم، وغير ذلك لغو ولهو. وقد ضجّت القاعة بالتّصفيق له بعد فراغه من كلمته، التي مزجت الفكر والثّقافة، مع السّلطة والسّياسة.

ويستهجن نهرو إطلاق وصف القمّة على غير لقاءات الأمريكان والرّوس، ويطالب دومًا بالحذف من بيانات المؤتمرات؛ كي تكون قصيرة ومختصرة، فليس لدى العالم وقت لقراءة مئة ورقة، وكثيرًا ما تجادل نهرو مع زعيم يوغسلافيا وغيره لأجل ذلك.

وكانت آخر زيارة هيكلية لنهرو فريدة في كلِّ شأنها، حيث سافر للهند في فبراير عام 1964م، وهو واثق من استحالة مقابلة نهرو؛ لأنّه مريض. وحين أقترح عليه أحد مرافقيه الهنود زيارة بيت نهرو، ووضع بطاقة له، وافق على ذلك، ولما ذهب صادف ابنته أنديرا، فاقترحت عليه ملاقاة والدها؛ لتحسين مزاجه، وكسر وحدته التي فرضها عليه الأطبّاء، ويالها من فرصة.

فوجد نهرو يرتدي عباءة مهداة له من الملك سعود، وقادته العباءة لسؤال هيكل عن مؤتمر القمّة العربي، الذي انعقد في القاهرة، وهل نجم عنه انتهاء حرب اليمن، تلك الحرب التي لا يرى لها نهرو معنى ولا جدوى؟ وكنت قد سمعت من عدنان الباجه جي-وزير خارجيّة العراق آنذاك-، انتقاد رئيس وزراء تركيا آنذاك لهذه الحرب، واستغرابه من مشاركة مصر فيها.

وينقل نهرو عن المهاتما غاندي، أنَّ علاج مشكلات الهند يكمن في تعليم كلّ مواطن، وأنَّ العصيان المدني وسيلة للجمع بين الأخلاق والسّياسة، ومن حكم غاندي التي أسداها لصاحبه أهميّة التّواضع في الوصول إلى الحقيقة؛ حيث أنّ التّواضع يذيب سدّ الذّات الحائل دون الموضوعيّة، وما أعظمه من درس.

ويرفض غاندي أن يصدر السّجين أحكامًا لمن هم خارج الأسوار، ويوصي السّجين بالقراءة، والكتابة، والتّأمل، وتعلّم أيّ حرفة. واقتبس نهرو من حكمة صاحبه، فحرص على فهم البلد قبل إدارة سياسته، ووقر في نفسه أنّ حال البلد وثقافته حاكمة على الحاكم، وليس العكس!

ويوصي نهرو المجتمع المتنوع بالتّراضي، واحترام الرّأي الغالب، وهي معادلة صعبة، بيد أنَّها ليست مستحيلة، ويستنتج نهرو أنَّ معضلة حكّام الشّرق تكمن في حرصهم على السّلطة، وإهمالهم السّيادة، فيتسلّطون على رقاب شعوبهم، ويسلمون قيادهم للأقوياء والسّادة، وفي ذلك عطب قريب أو بعيد.

ومن حكم نهرو التي يردّدها هيكل فيما بعد كثيرًا، قوله إنَّ في كلِّ شعب وأمّة نخبة، ومع النُّخبة جموع هادرة من عامّة النّاس، ولا مناص من أحد خيارين: إمّا أن تحمل عقول النُّخبة ثقل الكثرة الكاثرة، وتخدمهم وتسعى في صلاحهم، أو تسقط عضلات الأكثريّة فتكتم الأنفاس، وتحطّم الأضلاع، فهل من نخبٍ تسمع، وتعقل، وتعمل بالمصالح؟!

وأذكر أنّي سمعت الأمير سلطان يقول: قابلت نهرو فقال لي: أغبطكم في السُّعودية على أمرين؟ فقلت لنهرو ما هما؟ وكان الأمير يظنُّ أنَّ النّفط أحدهما! فقال نهرو: الكعبة، وفيصل! وهذه من إبداعات نهرو، فكلّ أمّة بحاجة إلى رموز جامعة تلّم شتاتها، وإلى رجال دولة من طراز فيصل.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرّياض

ahmalassaf@

الثّلاثاء 25 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1439

13 من شهر مارس عام 2018م

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)