سبع زيارات للتّاريخ (3)
الفيلد مارشال مونتجمري
الحرب جزء من السِّياسة، وفترة من التّاريخ، وقلّما يخلو تاريخ من حرب، وقد لا يفطن البعض إلى أنَّ الحرب هي سياسة بطريقة أخرى؛ ولذلك تقوم الحرب أحيانًا فجأة، وتنتهي فجأة، ويتخلّلها مفاوضات ومساومات، والله يعيذ بلاد المسلمين من الحروب، ولا يجعلها بينهم؛ فإنَّ بأسنا بيننا شديد.
وقد وضع الأستاذ محمد حسنين هيكل ثالث زيارات كتابه للفيلد مارشال مونتجمري، وعنوانها: الحرب.. والسّلام. وكان لقاء مونتجمري من أماني الصّبا الغضِّ لهيكل، وتحققت رغبته بفضل علاقاته الصّحفية الدّولية، وقربه من جمال عبد النّاصر، الذي منح لمونتجمري استثناءات كثيرة، ولا أدري هل منحها له بحكم الاشتراك في العسكريّة؟ أم هي عقدتنا نحن بنو العرب تجاه الأجانب؛ فنسهّل لهم كلَّ شيء، وبالمقابل نزيدها صعوبة وتعقيدًا لو طلبها عربي؟!
وسبق أن تابع هيكل حرب العلمين ميدانيًا، تلك الحرب التي كان مونتجمري ورومل أبرز رجلين فيها، وجرت على أرضنا العربيّة، وأتوقع أنَّ قسمًا من الجيشين المتقاتلين كانوا من أبناء البلاد المحتلّة، وليسوا من الإنجليز أو الألمان، فعادة القوم استرخاص دمائنا، وأرضنا، وثقافتنا، مع كبر دعاويهم الحقوقيّة!
ويرى هيكل بأنَّ الحرب هي ذروة المأساة الإنسانيّة، وأنَّ أجواءها مجال لمعارف وخبرات واسعة عن التّاريخ، والصِّراعات، والإنسان، لمن شاء أن يتعلّم. وحين واتته الفرصة نهاية عام 1966م ليكون طرفًا في ترتيب زيارة مونتجمري لأرض العلمين، بمناسبة مرور ربع قرن عليها، استثمرها ليكون قريبًا من الرَّجل، ويحقّق أمنية صباه، مع تلبية فضوله الصّحفي، وحسنًا فعل.
ومما ذكره مونتجمري أهمية أن تكون الحرب أخلاقيّة؛ وذلك لتحقيق ميزتين أساسيتين، أولاهما: تعبئة الرّأي العام المحلي عن اقتناع بمشروعيّة الحرب، والثّانية: عزل العدو عن بقيّة العالم. وأشكّ إن كانت حروب الإنجليز قد راعت ذلك، أو أنَّ شعوبهم متعطشة لافتراس العالم؛ وبالتّالي فهم ليسوا بحاجة لحكمة المارشال! فلم يسلم من عدوانهم سوى (22) بلدًا! واحتلوا تحت حجّة “الاستعمار” تسعة أعشار العالم! ولا أدري أيَّ مشروعيّة تلك التي أقنعوا بها شعبهم وجندهم؟!
ويؤكد مونتجمري أنَّ الصّراع على العقول يسبق الصّراع على الأرض، وأنَّ الاقتناع عامل مهمٌّ وأساسي قبل خوض غمار أيّ معركة، وأنّ القوة لا قيمة لها إذا فقدت المشروعيّة. ويكرّر مونتجمري ما قاله كلاوزفيتز قبل قرنين وملّخصه أنّ الحرب هي الدُّبلوماسيّة بوسيلة أخرى.
ويذكر مونتجمري أنّ تشرشل اختاره للقيادة على مضض، وحين وصل إلى القاهرة انتقل مباشرة إلى موضع الحرب في الصّحراء لسببين أهمّهما القرب من عمليات المعركة، والآخر لأنَّ القاهرة لديها القدرة على إفساد القديسين وليس الجنرالات فقط!
ويجزم المارشال بأنَّ روح أيّ جيش من صنع قائده، وليست فقط من محصِّلة عدد الجيش وعتاده، ولنابليون كلمة محفوظة شبيهة بذلك. ويروي مونتجمري كيف ورّط تشرشل صديقه روزفلت بالحرب العالميّة، وكيف تورّط تشرشل نفسه بحماقات حربيّة؛ بسبب خطل بعض وزرائه ومستشاريه.
ومن التّجارب القتاليّة التي يؤكدها مونتجمري، أهميّة حذر القائد من وضع عيون الجيش في ظهره، بمعنى جعل خيار التّراجع متاحًا؛ لأنَّ الجيش سيفرُّ مع أولِّ انكسار، ولا مناص من تعبئة الجنود بالكليّة عقلًا وفكرًا وشعورًا، ولا مجال في ذلك للنّسبيّة، بل لابدَّ فيها من اليقين المطلق!
ويرى مونتجمري بأنّه لا سلام إلّا السَّلام الذي تراه محقّقًا لأمنك، ومصالحك، وما عدا ذلك فهو مقامرة على حسن نوايا الآخرين، ويعلّق هيكل بقوله إنّ أحكام الجغرافيا، والتّاريخ، والمصالح، والأمن، سوف تفرض نفسها مهما حاول الآخرون تغييبها، ويجزم بأنّ التّلاعب بمشاعر المصريين لأجل تطبيع السّلام مع اليهود لن ينجح، ويبدي شفقته على قومه من لحظة انكشاف الحقيقة!
ويرفض مونتجمري تدّخلات السّاسة بالمعركة، ولا يحب تحوّل السّياسي إلى جنرال، وبالمقابل لا يحب الجنرالات حين يمارسون السّياسة، ومن الموافقات أنّه يقول هذا الكلام في بلد جلُّ ساسته جنرالات، وغالب جنرالاته والغون في السّياسة! ويقف مونتي عند أهميّة الإفادة من المعلومات، فلا خير في معلومة لا يستفاد منها إن حالًا أو مستقبلًا.
وقد ارتحل المارشال عن الحياة الدّنيا في 24 من مارس عام 1976م، ولم ينسَ هيكل-وهذه من حسناته- أن يخبرنا بأنّ هذا القائد الإنجليزي من عائلة متدينة، وفيها عدّة قسس، وكان والده قسّيسًا، ولذلك يستعمل مونتجمري تعابير كنسيّة في كلامه، وقد مارس الحرب بمنطق صليبي!
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرّياض
الأحد 23 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1439
11 من شهر مارس عام 2018م
One Comment