سبع زيارات للتّاريخ (1)
خوان كارلوس
للتّاريخ غايات أبعد من مجرّد الاستمتاع بقراءته أو روايته، وعندما أدرك العلّامة ابن خلدون هذه الغايات أو بعضها، غدا علمًا تتحدث عنه جميع الأمم، وأصبحت مقدمته نبعًا يقف على حوافها الواردون من مذاهب شتّى، ومعهم أدوات مختلفة، وكلٌّ يغترف ما يشاء، ويعبّر عن تذوقه كما يريد؛ بيد أنَّ النّبع يظل مختومًا باسم عبد الرّحمن بن خلدون رحمه الله.
وبين يديَّ طبعة خاصّة، من كتاب عنوانه: زيارة جديدة للتّاريخ، تأليف الكاتب والسّياسي المصري الرّاحل محمد حسنين هيكل، صدرت هذه الطّبعة عن دار الشّروق عام 2009م، وعدد صفحاتها (431) صفحة، ويسترجع فيها هيكل عام 1985م، أحداث سبع زيارات من ضمن زياراته الكثيرة، التي تيسرت له، وكانت علامة فارقة في مسيرته المهنيّة.
وقد طبع هذا الكتاب أكثر من عشر مرات، وكان له حظ من الانتشار، وصيت واسع، وهو يشتمل على الحوار مع سبع شخصيات، ثم تأملات هيكل ومقارناته، حين إجراء اللقاء أو بعده. وغاية المؤلف من إعادة نشره خدمة الحاضر والمستقبل، وليس نبش الماضي؛ ولذلك جعل الإهداء إلى من يملك الجرأة على مراجعة المألوف، والمعروف، ونفسه.
وأولّ زيارة في الكتاب وليس حسب الزّمن، كانت للملك خوان كارلوس، وعنونها بالبحث عن إليزابيث! وتمت في العاشر من مارس عام 1983م، وهو الملك الوحيد الباقي من أسرة البوربون التي كانت تجلس في زمن مضى على نصف عروش أوروبا! وحين دخل هيكل لمكتب الملك، لفت نظره أنَّ رفوف المكتبة فيها كتب قليلة، ونماذج كثيرة، بأحجام مختلفة للسّفينة سانتا ماريا التي ركبها كولومبوس واكتشف عليها أمريكا، وسبق لي استعراض كتاب يحكي القصّة المخفية في هذا الاكتشاف.
وهدف اللقاء، معرفة سر تحول إسبانيا من حكم عسكري متسلط بقيادة الجنرال فرانكو، إلى حكم ديمقراطي تفوز به أحزاب ذات موقف من الملكية، ومع ذلك تمنح الفرصة لتحكم، ويعطى للشعب حق الاختيار وتقرير المصير، والتَّجربة الإسبانية جديرة بالدّراسة، وسبق أن اشتريت كتابًا يتحدث عن تجارب التَّحول في عدَّة بلدان.
ومع أنَّ الملك لا يحقُّ له دستوريًا الخوض في السّياسة، إلاَّ أنَّه وافق على إجابات مختصرة عن أسئلة ضيفه، وقال الملك بأنّه رحب بانتقال السلطة للاشتراكيين، وقاوم محاولات العسكر للانقلاب على صوت الشَّعب؛ لقناعته بأنَّ الملك لا يحقُّ له أن يريد غير ما يريد شعبه.
وتعرّضت إسبانيا الحديثة لقلاقل دامية، وزاد من خطرها جاهزيّة البلد للانقسامات، وامتلائه بالخلافات، ولذا شهدت في أسابيع فقط (369) اغتيالاً سياسيًا، وأكثر من ألف استخدام للسّلاح، و(160) عملية حرق للكنائس، و(113) أضرابًا، وعشر اقتحامات لصحف ومقرات حزبيّة.
وجثم على الحكم جنرالات غلاظ الأكباد، وظهر في ذات الفترة لوركا شاعر إسبانيا العظيم، والباسيونارا خطيبة الثَّورة، وبيكاسو الرّسام صاحب الأعمال الخالدة، والرّوائي والكاتب الكبير أرنست همنجواي الذي غادر البلاد بعد سكِّ مقولته الشّهيرة: إنَّ وعداً بالحرية من ديكتاتور هو شيك بلا رصيد! وإنَّ أملاً بالحرية من حالم هو عملة مصابة بالتّضخم!
وبعد هدوء الأوضاع استولى على السّلطة الجنرال فرانكو، وكان حليفًا لهتلر وموسوليني، فلَّما هزموا ولّى وجهه شطر البيت الأبيض؛ وظلَّ على قمة السُّلطة مدّة أربعين عامًا. وعندما أراد هذا الجنرال إعادة الملكية إلى إسبانيا بصيغة جديدة، ألزم الملك الهارب بأن يسلمه ابنه الطّفل خوان كارلوس؛ كي يربيه على يده، ويعلّمه حرفة الملك!
ومع أنَّ الملك الأب تمنّع إلا أنَّه أضطر للقبول، وسلَّمه ابنه وعمره حينها ستة عشر عامًا، فألحقه فرانكو بالكلية العسكريّة، ثم البحريّة، وبعدها قضي سنة في كلية الطّيران، ثمَّ درس بكلية أركان الحرب لمدة عام؛ كي يكون على اتصال بحياة الجيش.
وبعد ذلك ألزمه بالدّراسة في جامعة مدريد، وحضر فصولاً في الاقتصاد، والسّياسة، والقانون، والفلسفة، ثم كلّفه بمتابعة أنشطة صناعيّة، واجتماعيّة، وإداريّة، وأخيرًا أمره بالزّواج والإنجاب، وفعلاً اقترن بالأميرة الجميلة المثقفة صوفيا، ابنة ملك اليونان الذي زال ملكه، وبذلك أصبح جاهزًا للحكم بالصّيغة التي تخيلها فرانكو.
ويبدي خوان كارلوس اغتباطه حين أحاط به مجموعة من المستشارين، وكانوا أهلاً للمسؤولية، ويخبرون الرّجل بأفكارهم ورؤاهم، ولم يكونوا صدى لأقواله، أو مرآة عاكسة لتوجهاته، ولذلك اغترف من علمهم وخبرتهم، واعترف بفضلهم وأثرهم.
واتخذ خوان كارلوس من الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا نموذجًا وقدوة، فعرشه يرتفع فوق كلِّ الأحزاب، ومشورته لا تطلب إلاّ في أحوال استثنائيّة، وأضاف خوان كارلوس لنفسه مهمَّة غير موجودة لدى ملكة بريطانيا، وهي عمل جندي المرور، فالزّحام شديد في مفارق طرق السّياسة الإسبانية، ولا مناص من تحريك هذا الزِّحام دون صدام، ولن يحركه إلاَّ إنسان يقف من الجميع على ذات المسافة، ويحظى بتوقيرهم، دون أن يكون له من الأمر شيء!
ومن الطَّريف المحزن، أنّ رجال الدّولة في إسبانيا، كانوا يخشون من تأثير أمراء العرب على ثقافة الملك الجديدة لدى خوان كارلوس، وأضحى وجود شيوخ العرب في جزر اللهو الإسبانية مقلقًا لهم، بيد أنَّ الله سلّم، وبقيت ديمقراطية الإسبان أفعالاً ماثلة، وليست أقوالاً جميلة تموت في مستنقع الاستبداد.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرّياض
الخميس 20 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1439
08 من شهر مارس عام 2018م
2 Comments