جولةٌ في صيدلية!
افتُتحتْ أولُ صيدليةٍ في التاريخِ في بغدادَ-فكَّ الله أسرها- عام 621 أواخرَ عهدِ العباسيين، ولبعضِ الصيدلياتِ تاريخٌ عريقٌ قديمٌ يمتدُّ إلى أزيدَ منْ ستمائةِ عامٍ كما في إحدى صيدلياتِ مدينةِ نيورن بورق في جنوبِ ألمانيا؛ وهي مدينةٌ لمْ تدخُلها الحربُ العالميةُ الثانيةُ لشدَّة تحصنها. وقدْ تخيلتُ نفسي متجولاً داخلَ صيدليةٍ كبرى فخطرتْ لي خواطرٌ رأيتُ نشرها عسى أنْ تفيدَ قارئيها.
ففي الصيدليةِ أدويةٌ باهظةُ الثمنِ لمعالجةِ الأمراضِ الخطيرةِ التي قدْ تقضي على حياةِ البشرِ إذا أُهملَ علاجُها، وهكذا مشاريعُ الإصلاحِ المفصلية التي يُرادُ منها حجزُ النَّاسِ عنْ الشرورِ ودلالتِهم على الهدى ليستْ سهلةً بلْ صعبةٌ مكلفةٌ لا يمضي فيها قُدماً مَنْ لمْ يعرفْ شأنَها منذُ البداية. وكما تُعالجُ أدويةُ الصيدليةِ الأمراضَ الخطيرةَ فإنِّها لا تغُضُ الطرفَ عنْ الأمراضِ اليسيرةِ لأنَّ تركها قدْ يسببُ استفحالها؛ غيرَ أنْ أدويتها رخيصةٌ مالمْ تستفحل، ومنْ هنا نلمحُ أهميةَ الالتفاتِ للمشكلاتِ الصغيرةِ حتى لا تتعاظمْ فتصعبْ السيطرةُ عليها إلاّ بجهدٍ مُضنٍ ومبالغَ ماليةٍ كبيرة.
ومع سرعة إنهاء المشكلة اليسيرة وبذل الوقت في علاج الأمور العظام لا تغفل الصيدلية عن العلل المستعصية؛ فثمَّت أدوية لها تخففُ من وطأتها وتمنعُ من تفشيها أو تعالج آثارها، ومن سياسة الصيدلية نستفيد ضرورة مراقبة ما لا طاقةَ لنا به من سبل الفساد لمنع انتشارها أو تخفيف آثارها لأن إغفالها بلا مقاومةٍ دائمة سببٌ أكيدٌ للبوار.
ومن الأدوية ما يعالج جلَّ الداء؛ وجميع الأدوية ذاتُ أعراضٍ جانبية مُعلنَةٍ منشورة، وتوجد مستحضرات تعالج أكثر من علَّةٍ في آنٍ واحد؛ وهذه التفصيلات مهمة لعمل المصلحين؛ فقد لا تصمد البرامج الإصلاحية أمام جميع جوانبِ المشكلة أو تعجز عن الإحاطة بدقائقها؛ كما يمكن استغلال أي منشطٍ للخير ليكون متعدد المنافع، ومن الواقعية أن نعترف بوجود بعض المتعلقات التي لا نرغبها في بعض النشاطات المفيدة غير أن الضرر اليسير يُعفى عنه مقابل النفع الكبير.
والصيدلية أكثرُ منطقيةً من بعض سفهاء الليبرالية فلا يوجد في الصيدلية دواءٌ للموت – كما تمنى أحدهم في لقاء مسجل- ولا عقار للجنون أو السفاهة، ومن هذا المنهج نستفيد أن الإصلاح سيواجه قلوباً ميتة أو عقولاً خالطها الجنون أو مروءاتٍ شانتها السفاهة والأسلم تجاوز كل هذه الاستثناءات وصولاً للأكثرية الحية العاقلة الحيية تماماً كما تمنع بعض الحالات من أدويةٍ ما أو يتعذر استفادة أناس من علاجاتٍ يشهد الغالبية على نجاحها.
ومنافذ تناول الأدوية متعددةٌ في جسم الإنسان؛ ولبعض المنافذ أكثر من طريقة استخدام، وفي الصيدلية أدوية للكبار والأطفال وللرجال والنساء؛ والواجب على المصلحين تنويع البرامج وتكثير طرقها؛ كما ينبغي العناية بجميع شرائح المجتمع وإشراكها في الرسائل الموجهة حتى لا ينصرف الجهد إلى فئة واحدة فقط. وفي الصيدلية أركانٌ خاصة لأمراض معينة؛ وكل مشروع إصلاحي لا بد له من متفرغين لملفاته المهمة.
ولا تجامل الصيدلية غنياً ولا كبيراً ولا شريفاً ولا عالماً فتعطيهم من الأدوية مثل ما يأخذه منها الفقير والصغير والوضيع والجاهل مع اختلاف في النوعية أو السعر الذي لا يغيرُ شيئاً من الأثر المشترك في الحالتين. والمصلحون رسالتهم واحدة غير أنَّ طريقة عرضها وتفاصيلها تختلف طبقاً لاختلاف المتلقي ومكانته العلمية أو الاجتماعية أو الرسمية أو العمرية؛ وفي هذا التنوع إنزال للناس قدر منازلهم وهو مطلب شرعي. كما أن الرسالة الإصلاحية يجب أن تكون ” عامة ” و ” نخبوية “.
وحاجة الناس للصيدلية لا تنقضي ولا تنقطع؛ وكذلك حاجة الناس للمصلحين من العلماء والأمراء والقضاة والدعاة والمحتسبين وأرباب المهن. وكما يوجد في الصيدلية مستحضرات كمالية للتجميل والتحسين وزيادة الرفاهية والتأنق؛ فحقيق بدعاة الحق والفضيلة ألا ينسوا في خضم جهادهم حاجات الناس الحياتية وهمومهم المشتركة ورغباتهم الطبيعية التي لا تصادم شرع الله العظيم، وكم في الشريعة المحمدية من توسعة ويسر ومباهج ومسرات.
وتختلفُ الأدوية في أثرها ومفعولها؛ فمنها ما هو سريع الأثر وفيها البطيء؛ وبعضها لا بد من تناوله زمناً طويلاً قد يستغرق العمر كله ومنها ما يكفيه بضعة أيام؛ وبعض الأدوية تشتد الحاجة لها في موسم دون غيره؛ وبعضها يؤخذ يومياً مرة أو مرتين ومنها مايتناوله المريض كل شهر أو أكثر، ومنها ما يحقن في الوريد لتعجيل الأثر. ومن الحكمة أن تكون المفردات الإصلاحية كذلك، فبعض البلايا لا تحتمل فلا بد من التعامل الصارم السريع معها، ومن الظواهر ما هو متأصلٌ يصعب اجتثاثه في مدة قصيرة؛ والمواسم المباركة فرصةٌ للتعريف بالخير والدعوة إليه. وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة خشية السأم والملالة من المستمعين فكذلك يجب على مصلحينا حتى لا ترد عليهم نصائحهم، فبعض الأزمنة أو الأمكنة لا يصلح فيها ما يكون مناسباً مع غيرها.
وتحتل غالب الصيدليات مكاناً بارزاً في كثير من الأمكنة والزوايا وتضع في مقدمتها لوحة كبيرة جذابة؛ وأدويتها مغلفة بطرق فنية بارعة وتصاميم رائعة إضافة إلى الألوان الزاهية والروائح العطرية والأسماء المختصرة لبعضها؛ ولذا فبروز الإصلاح في أكثر من جهة حتى يؤمه الناس أمر متحتم خاصةً مع كيد الأعداء وضراوتهم؛ والإبداع في الوسائل الإصلاحية لا مناص منه مع كثرة المنافسين، وربط الناس بالرسالة الإصلاحية المختصرة مهم ليحملوها أينما كانوا.
وبعض الأدوية داخلي لا فائدة منه إلا إذا تغلغل في جسم الإنسان وقليل منها أدوية خارجية، والمتعين على رعاة الإصلاح البدء بالداخل فهو الأهم؛ فإصلاح النفس وتصوراتها أولى من تغيير المظاهر، وتربية جيل الإصلاح لا بد منه قبل الانطلاق للخارج؛ والعناية بمشكلات المجتمعات الإسلامية ألزم من الخوض في شؤون العالم الخارجي؛ وإصلاح الجبهة الداخلية سيكون سداً منيعاً في وجه هجمات الخارج: ” وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ” الآية (120) من سورة آل عمران.
وكل تجديد وتزويق في الصيدلية لا يخرجها عن كونها مكاناً للعلاج والدواء؛ والعجب لا ينقضي من قوم لبسوا عباءة الإصلاح وبالغوا في التلطف والتميع حتى خرجوا عما زعموا إلى نقيضه. وجميع أدوية الصيدلية ركبت بناء على دساتير عالمية مجربة ومعتمدة، وعار على بعض أبناء المسلمين تبني مشاريع “إصلاحية” تخالف دستور أمتهم ومنهاجها المتمثل بالكتاب العزيز والسنة المشرفة. وكمالم يجعل الله شفاء الأمة فيما حرم عليها فلا مكان للمسكرات ومشتقات الخنزير في أدوية المسلمين فكذلك لامكان لما حرم الله في الإصلاح والتغيير.
ولا تعتذر الصيدلية ولا تتراجع عن مشروعها العلاجي إذا أخطأ فرد منها أومجموعة بنكسة صحية أو تسمم أو حتى وفاة؛ وعجيب ما نفعله نحن المسلمون من الاعتذار المبالغ فيه مع كل خطأ يرتكبه مسلم أو يقترفه غلاة هنا أو هناك، وأعجب منه أننا لا نسمع مثل هذه الاعتذارات الحارة من كبار الطوائف والملل والأديان المحرفة تجاه جرائم معتدليها وغلاتها.
وفي الصيدلية مقاييس وموازين لا تجامل وتعلن الحقيقة بلا جمجمة، وواجب على كل حركة إصلاحية أن تجعل لها مؤشرات ومقاييس لتزن عملها وتعرف مستوى التقدم في نتائجها وتبصر مواطن الخلل حتى لا تقع في زلة إثر أخرى، كما يجب عليها الوضوح وتحري الدقة في الخطاب العام.
ويتنوع منشأ بعض الأدوية ما بين نباتي وحيواني وكيماوي؛ وتختلف أسعارها حسب القدرة الشرائية في البلدان. وبعضها لا بد من حفظه بعيداً عن الضوء، وبين بعض الأدوية تضاد واختلاف كما يوجد تعارض بين بعض الأدوية والأغذية. وفي هذا رسالة واضحة للمصلحين بضرورة تنويع الأبعاد في المشاريع الإصلاحية إضافة إلى الدقة في حساب ثمن الإصلاح المختلف بين بلد وآخر مع التأكيد على ضرورة التريث في إبراز المشروع للأضواء حتى ينضج ويقوى. وفي قضية التضاد تحذير من تنازع المصلحين المنطلقين من مبدأ واحد وإبراز لحقيقة مرة ملخصها أن الخير قد يعارضه أخيار- أو هكذا يبدون- قبل غيرهم.
وفي الصيدلية أدوية خاصة لاستثارة الرغبة الجنسية ولا يوجد فيها أدوية مخصصة لعكس الأثر، وأدوية منع الحمل والإجهاض رخيصة الثمن في مقابل جنون أسعار أدوية ارتفاع الضغط والسكر؛ وما أشبه هذه الحالة بمشاريع المفسدين التي تتكئُ على معاهدات الأمم المتحدة وتتخذ من إشاعة الجنس والفاحشة وإفساد المراة وتخريبها وإبرازها لسراق الأعراض سبيلاً لخطلها المسمى بهتاناً بالإصلاح والتقدم والحرية. وفي الصيدلية أدوية مخدرة ومنومة تشبه المشاريع الهزيلة التي لا تصلح أمر الدنيا وتفسد دين الناس. وفي مقابل الصيدلية تطرح مصانع الخمور نفسها كمنافس إصلاحي يزيل الألم ويضفي البهجة ويقوي بعض الأعضاء ! غير أنها تخفي إفساد العقل وتخريب أكثر أجزاء الجسم الداخلية إضافة لإغضاب الرب جل جلاله، وتذكرني هذه المصانع بحال الأدعياء من منافقي الأمة الذين يحاولون مجاراة البَررَة في احتسابهم الإصلاحي.
وللأدوية تاريخ صلاحية؛ وكل برنامج له زمن تنتهي صلاحيته أو يقل أثره بعده، ولبعض الأدوية عدة أجيال؛ وهكذا المشروع الإصلاحي الناضج المواكب لتطور المجتمع وتعقد مشكلاته. وفي الصيدلية لقاحات وأمصال للعلاج والوقاية؛ والإصلاح يضع يده على الحاضر لكنه يرمق بعينه البصيرة المستقبل حتى لا يفاجأ بما لم يكن في الحسبان.
ويُذكر في التاريخ أن المأمون دعا إلى عقد امتحان أمانة الصيادلة؛ بينما منحهم المعتصم شهادات وإجازات بعد اختبارهم وعرفت الحسبة على الصيادلة في تلك العهود. وهذا لعمر الله مهم في حق الصيادلة غير أنه أكثر أهمية في حق دعاة الإصلاح، فمتى كان البعثي والعصراني وكل مرجف بغيضٍ مصلحاً ؟ وإن الاحتساب قائم على كل من دعا إلى الإصلاح تأييداً وتقويماً . وتسمى ورقة الأدوية في الشام: الدستور، وفي المغرب: النسخة، وفي العراق: الوصفة، وللصيدلي عدة أسماء مثل: صيدلي-صيدلاني-صندلي-صندلاني-صيدني؛ ومن هنا فلا يهم كثيراً تسمية المشروع الإصلاحي مادام مضمونه الحق والخير، ويجب أن تتعدد أسماء القائمين عليه المتفقين على خطوطه العريضة من علماء وأمراء ودعاة ومهنيين ومثقفين ولا يكون مقصوراً على وصف دون غيره حتى تقبله الأمة بجميع فئاتها.
أحمد بن عبد المحسن العسّاف-الرّياض
الأربعاء 09 من شهر ربيع الأول عام 1428