مع بطرس بين النّيل والقدس!
يتميز الدّبلوماسي المصري، ورجل الدّولة، الدّكتور بطرس بطرس غالي، بمجموعة من المزايا يندر أن تجتمع في إنسان واحد، فهو ابن عائلة عريقة في العمل السّياسي، والتَّأليف الفكري؛ حتى أنَّ “ميتران” مفتون بتراث أحد أعمامه.
ويجيد بطرس عدَّة لغات عالميّة، ويعتّز بلغته العربيّة، وله علاقات دوليّة واسعة ومتشعبة مع دوائر سياسيّة، واقتصاديّة، وقانونيّة، وإعلاميّة، وأكاديميّة، وفوق ذلك، هو متحدّث مرح، وكاتب جذّاب، وقارئ نهم، وصاحب ملاحظة، وتقييد للمواقف والفوائد.
لأجل ذلك حرصت على قراءة يوميّاته، وأول ما قرأت له من يوميّات بعنوان: بين النّيل والقدس: يوميات دبلوماسي مصري، صدرت طبعته العربيّة الثّانية عن دار الشّروق عام 2015م، وترجمها ناجي رمضان، وعدد صفحاتها (400) صفحة، وتشتمل على ما دوّنه خلال عشر سنوات من عام 1981م، وحتى نهاية عام 1991م.
وجعل كلَّ سنة في فصل مستقل، وبدأ التَّدوين بعد اغتيال الرَّئيس المصري السّادات، وانتهي قبيل تنصيبه أمينًا عامًا للأمم المتحدة، وذكر في المقدِّمة أنَّه لم يغيّر شيئًا مما دونه؛ حتى لو استبان أنَّ الذي حدث خلاف توقعاته، ومع صدق ذلك الواضح؛ ففي بعض اليوميات إشارات لأحداث ما وقعت إلاّ بعد سنوات.
وأشار في مقدمته على عجل إلى جهوده في القضية الفلسطينية، والعلاقات مع إسرائيل، ودعمه للتَّكامل مع السّودان، وحدبه على إيجاد موضع قدم راسخة لمصر في إفريقيا، ومشوار استئناف العلاقات مع الدول العربيّة، ودعم حركة عدم الانحياز، وإقامة أسس جديدة للتَّعاون مع الغرب، وأخيرًا وهو من أهمّها، إذ لا مناص من الحفاظ على علاقة خاصّة للقاهرة مع واشنطن.
ومن يقرأ الكتاب، سيرى تركيزًا من بطرس على إفريقيا باعتبارها منبع النّيل، وربَّما لجهد جدّه فيها، وهو يراها أولى من القدس في الاهتمام، ويطالب بأن تهتم مصر بالجغرافيا أكثر من عنايتها بالتّاريخ! ولغالي علاقات وثيقة مع فرنسا، ولديه غرام واضح بالتَّعليم والمحاضرات، وهو شغوف بالنّساء، والخمر، والموسيقى، والأفلام، والرّقص، ويعاني من التهاب المفاصل والنّقرس، ويحب زوجته ويخشاها، ولم يمنعه ذلك من التَّغزل بحسناوات وساحرات من النِّساء كما يصفهن!
ومن سطور اليوميّات يتضح تضايق بطرس من الأصوليّة الإسلاميّة، ولم يبدو منه ذلك تجاه الأصوليات الأخرى، ويعتقد أنَّ تحرر المرأة وانطلاقتها، وإشاعة الموسيقى، والرَّقص، والسّينما، والملاهي عمومًا تكبح جماح هذه الأصوليّة.
والغريب أنَّ موقفه المتصلّب من الأصوليّة، وعلمانيته، لم تمنعاه من زيارات بابا الأقباط، أو بابا الفاتيكان، واستقباله للقاصد الرَّسولي، وممثلي الكنيسة من حكماء وبطاركة وغيرهم حيثما حلّ، فضلًا عن مشاركته في الاحتفالات الكنسيّة، ودعم أعمالها الخيريّة، وبحث أدوارها المحليّة والدّوليّة!
وفي الكتاب متعة لقارئه، وملامح مفيدة للدّبلوماسي، والسّياسي، ورجل الدّولة، فمنها:
- أصعب شيء هو أن تصالح بين الإخوة الأعداء!
- في أغلب الأحيان، تكون الصِّلات الشّخصيّة أهمّ من العلاقات الرسميّة.
- تحتاج الشُّعوب إلى رموز ذات قيمة تجتمع عليها.
- في السّياسة: النّوايا الطّيبة وحدها لا تكفي.
- يتميز ساسة الإنجليز بالقدرة على الإصغاء، وحثّ الآخرين على قول ما لديهم.
- كانت أنديرا غاندي تمثِّل أرقى التَّقاليد عند الأسرة العظيمة الحاكمة.
- من المهم للسّياسي أن يعرف من هم الأشخاص الذي يؤثرون في سياسة بلدانهم دون أن يظهروا للعيان.
- إجادة اللغات، ومعرفة الثَّقافات، وزيارة البلدان، زاد مهم لكلّ سياسي ودبلوماسي.
- من الضّروري للسّياسي والدّبلوماسي أن يعرف كيف يخاطب النُّخبة في البلاد التي يتعامل معها.
- حفظ التَّوازن بين المختلفين في بلد واحد أمر صعب ولا مناص عنه.
- من الخطأ إهمال حفظ المعلومات، وأفحش منه توكيل الباحثين الأجانب بكتابة تاريخنا.
- تتميز الدّبلوماسية الإيطالية بالفطنة، والاهتمام بالفروق الدّقيقة بين الأفكار، والتّدرج في الإجراءات، والسّلاسة في تعديل الأفكار. يا ترى كيف يصف الآخرون دبلوماسية بلدك؟
- إذا كان البلد فقيرًا ومتخلّفًا زاد اهتمامه بالشّكليات الخارجيّة تغطية للضّعف الدّاخلي.
- من تناقضات الحياة الدّبلوماسية أن تمضي النَّهار متحدِّثًا عن نزع السِّلاح، ثم تتغدى مع أحد أكبر مصنعي السِّلاح!
- القبض على إعلامي أو رمز بغير وجه حقٍّ هو أفضل وسيلة لتقديم إدانة ضد البلد.
- تدوين مجريات اللقاء تشير إلى اهتمام من يفعل ذلك وحرصه.
- المحادثات الوديّة غير الرّسميّة تتيح اكتشاف أفكار وحلول جديدة.
- الدَّبلوماسية مدرسة لا مثيل لها في تعليم قيم التَّسامح! ماذا عن تعليم الكذب؟
- أحيانًا يكون إبداء الصّداقة والمودّة بين القادة أهم من محتوى اللقاء ذاته.
- اللقاءات مع الحكام الأفارقة تمنح حصانة ضدَّ الإحباط!
- يبهرني الزَّعيم والسِّياسي المحيط بدقائق الأزمات العالميّة.
- سحرني “شيراك” بحفاوته وتلقائيته وقدرته على الانصات والإقناع.
- من مقاتِل العمل السِّياسي والدِّبلوماسي إهمال الإعداد للمقابلات أو إعدادها بطريقة سيئة.
- ليس لدى الدُّول شعور العرفان بالجميل تجاه الأفراد.
- يوجد لدى الدُّول المتخلفة وتجمعاتها الإقليمية مشاريع وهميّة أو خياليّة أو مستحيلة!
- من البلاء أن نعرف معضلاتنا ونجهل طرق علاجها أو نعجز عن العلاج بعد معرفته.
- من اللافت للنَّظر سخاء ليبيا ماليّاً مع دول إفريقيا، ووقوف هذه الدُّول مع تشاد ضدَّ ليبيا!
- يجب أن تكون الجمعيات الأهليّة بابًا للدّبلوماسية وغطاءً للحركة والدَّعم.
- تدير السُّلطة الرَّأس تمامًا كما تفعل الخمر القوية.
- عندما يقتسم الزَّعيم السُّلطة مع غيره لا تدير رأسه.
- من مشكلات الزُّعماء أنَّهم يستمعون لأنفسهم أكثر من استماعهم للغير.
- وجود عدد كثير من المرشحين المتألقين من أسباب أزمة لبنان.
- في الصِّراعات تنكشف الأسرار مهما سعت الحكومات لإخفائها.
- على الدِّبلوماسي الجيّد أن يعرف كيف يظلّ كتومًا.
- نشاط الدّبلوماسية الإيرانية في إفريقيا يدعو للتّأمل.
- إطراء رئيس دولة ما بطريقة ذكيّة غير مباشرة من أول ما ينبغي للدّبلوماسي إتقانه.
- بعض المنَّظمات تمثل قوة الرّمز أكثر من كونها تمثل فاعليّة الأداء.
- علاقتنا مع جيران الجيران أهم من علاقتنا بالجيران كما تقول حكمة هندية.
- علينا أن نصرف أوقاتًا للعناية بالزّعماء الذين يقتربون يومًا بعد يوم من الوصول إلى السُّلطة.
- الاتصالات المباشرة بين رؤساء الدَّول تؤدي إلى إنجاز أشياء تعجز عنها الاتصالات على مستويات أدنى.
- تعدُّد عمليات الوساطة يعقد الصّراع ولا يحله.
وفي اليوميات مواقف طريفة جدًا، منها أنَّ الرَّئيس مبارك الذي لا يشرب الخمر، لامه بشدَّة على نظراته الشّبقة المصوّبة نحو الشَّابات في احتفالات يابانية، ومنها حضوره احتفالًا في فنزويلا، وكان زعيم البلد يجلس بين زوجته وعشيقته! وضمنها حكاياتٌ عن ساسة أفارقة يتزوجون أربعًا من النِّساء، ومنهم سفير تشاد الذي جعل من بين زوجاته كاثوليكيّة وبروتستانتيّة كمثال على التَّصالح الوطني!
ومن طرائف الكتاب، أنَّ بطرس ووفده المرافق لم يجدوا مقاعد على طائرة متجهة من أديس أبابا إلى جيبوتي، وبوساطة السَّفارة المصرية منحوهم المقاعد المطلوبة، وحين ركبوا في الطّائرة تفاجئوا بخلوها من الرّكاب! وأنَّ على كلِّ مقعد لفائف من القات! وحين وصلوا هالهم حشود المستقبلين، وكانت الحشود للقات وليست لهم! وشبيه بهذه القصَّة ما سمعته عن برلماني خليجي أنَّه والوفد الذين معه، أجبروا على ترك مقاعد الدَّرجة الأولى، على متن طائرة عائدة من المغرب أو الجزائر، وبعد استقرار الطَّائرة في الجو؛ ذهب ليستطلع من أخذ مقاعدهم، فوجدها مليئة بصقور الصَّيد!
ولا يخفي بطرس حنينه للعهد الملكي، وحنقه على عبد النَّاصر وانقلابه، ومن الغريب أنَّ المراسم في فنزويلا أخطأت، فعزفوا السَّلام الملكي المصري بدلًا من السّلام الجمهوري الحالي، وشعر المؤلف إذ ذاك بحنين شديد. ويحتفي بطرس بسنوات الجامعة طالبًا وأستاذاً، وبطلّابه العاملين في السِّلك الدّبلوماسي، وبالجميلة من زوجاتهم!
ومن اللافت تأكيده أنَّ النُّخبة المصرية تشارك أغلبية الشَّعب برفض التَّطبيع مع إسرائيل، وقد نالته لعنة كامب ديفيد لأنّه شارك مع السّادات في أحداثها، فأضحى مبغضًا عربيًا، وناداه مسؤول روسي بقوله: سيِّد كامب ديفيد، ويذكر بطرس مدن إفريقيا دون نسبتها لدولها، وذلك متعب لنا نحن الذين نجهل إفريقيا.
وتوقّع بطرس أن يستولي الشّيعة يومًا على الحكم في بغداد، وأبدى خوفه كثيرًا من انفصال جنوب السُّودان، وعبَّر صراحةً عن مرارة عدم تسميته وزيرًا للخارجيّة، وأنَّ بعض رؤساء الوزارة أصغر منه سنَّاً. وأثنى على ثقافة الأمير حسن وحبّه للقراءة، وروى عن محمّد السّادس أنّه يجيد أربع لغات هي العربيّة، والفرنسيّة، والإسبانيّة، والإنجليزيّة.
وفي اليوميات وقائع كثيرة، وإشارات متنوعة، وطرائف أكثر، بيد أنّي حرصت على الاختصار، والكتاب بحمد الله متوافر، ولمؤلفه يوميّات أخرى عنوانها بانتظار بدر البدور، ومع أنّها تتحدث عن فترة أقصر، إلاّ أنَّ صفحاتها أكثر، ونصوصها أطول، ويبقى بطرس خفيفًا على الذّائقة والذّهن، ويمكن قراءة يوميّاته في الحضر، أو السّفر، فيوميّات السّاسة- كفانا الله شرورهم- ماتعة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الإثنين 10 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1439
26 من شهر فبراير عام 2018م
2 Comments