مع بورخيس قارئاً وكاتباً
تمثل المعايشة أحد أفضل سبل تلقي العلم، والسمت، والإفادة من التجارب، والمواقف الحياتية. وللمعايشة والملازمة أثر كبير، وإرث ضخم، في تاريخنا الحضاري الإسلامي، حتى اعتبره بعض أكابر الرموز العلمية الأمر الأهم الذي يتحصل عليه الطلاب من صحبة شيوخهم.
وليس هذا الأمر في العلم الشرعي ذي المكانة السامية فقط، بل هو في كل العلوم، والفنون، والمهارات، والمهن، وكم من تلميذ فاق أستاذه، إذا جمع النباهة مع الحرص، والإصرار مع التعمق، والأمثلة تعز على الحصر.
وبين يدي كتاب لطيف من هذا القبيل، عنوانه: مع بورخيس، تأليف ألبرتو مانغويل، صدرت طبعته العربية الأولى عن دار الساقي عام (2015م)، ترجمة أحمد م. أحمد، ويقع في (94) صفحة من القطع المتوسط.
وبورخيس كاتب وشاعر أرجنتيني، عاش بين عامي (1899م-1986م)، وأتقن عدة لغات، ومارس كتابة المقالات، والقصص، والشعر، والنقد، والترجمة، وكان علامة فارقة في الثقافة الأرجنتينية، حتى حاز عدداً من الجوائز، والمناصب الثقافية، والمكانة المرموقة.
ولم يكن بورخيس-كعادة جل المثقفين الشرفاء- محبوباً لدى الطغاة، وكان يراهم سبباً في جلب الظلم، والقسوة، والعبودية، وفي جلب الحماقة أيضاً! ولذلك فصله النظام الحاكم من عمله، وعينه مفتشاً على دواجن! وهو مالم يقبله فاستقال، واعتمد على أدبه وقدراته، وعاش عزيزاً مناوئاً للظلم، حتى استحق أن تطبع صورته على العملية الوطنية في ذكرى مرور مئة عام على ولادته.
أما مؤلف الكتاب فمثقف وقارئ وكاتب كبير، تجاوز أطره المحلية، ليصبح شمساً ساطعة في عالم القراءة في أكثر القارات، وصار علامة كونية ثقافية لا تخطئها العين، وله عدة كتب ومحاضرات عن القراءة والكتاب، وفي مضامينها فوائد غزيرة للقراء والكتاب، وسبق لي استعراضها في مقالتين؛ وحق انتاجه أكثر من ذلك.
وأما الكتاب فهو سيرة معايشة ومرافقة بين الفتى ذي الستة عشر عاماً، والكاتب الكبير الذي أصبح ضريراً وعمره يقارب الستين، وسجل مانغويل ذكرياته حين عمل قارئاً لبورخيس خلال أربع سنوات من (1964م-1968م)، ولم يكن القارئ الوحيد له، بيد أنه كان يقرأ، ويتعلم من أستاذه، ويناقش، ويحفظ الفوائد، حتى أخرجها في هذا المؤلف اللطيف، الذي سطره قارئ وكاتب كبير، عن بلديه الذي يشاركه العظمة قارئاً وكاتباً.
وكان مانغويل يزور بورخيس أربع مرات أسبوعياً، وقد حثته عمته المعجبة ببورخيس على تدوين ملحوظاته، والاحتفاظ بها في دفتر يوميات، ولم يفطن مانغلو لأهمية هذه اللقاءات بسبب غطرسة المراهقة كما وصفها، وكم في الحديث مع مثقف واع من فتوح، وإشارات، تغيب عن ذهن الزهاد في الإفادة من الكبار حولهم، وما أكثرهم!
وجد الفتى شقة الشيخ كأنها قادمة من خارج الزمن، وجمعت العالم باختلاف حضاراته، وأزمنته، وأمكنته، وكان يعيش في الشقة مع بورخيس أمه التي ظلت ترعاه حتى توفيت وعمرها (99) عاماً، وقبل وفاتها استأجرت مساعدة اسمها فاني، ولها كتاب عن بورخيس، الذي تزوج مرتين على كبر، ولم يدم زواجه الأول سوى ثلاث سنوات، ويبدو أن الزواج الثاني كان بوثائق مزورة؛ كي تستفيد الزوجة الشابة من حقوق نشر تراث بورخيس-وكانت تعمل مساعدة له-، وهو الأمر الذي غدا منظوراً في أروقة المحاكم.
وفي هذا الكتاب المختصر فوائد كثيرة، ويكفي أن أحرفه وكلماته صاغها عملاق عن مثله، ولن يعدم القارئ والكاتب منه على صغره العديد من الفوائد المعنوية والفكرية، ومنها:
- العمى والشيخوخة كان طريقين لوحدة بورخيس وعزلته.
- فرض عليه العمى صومعة ناسك ألّف فيها أعماله اللاحقة.
- يضع بورخيس أوراقاً نقدية مطوية داخل كتبه، وإذا أراد دفع مبلغ لقاء خدمة، يسحب كتاباً ويستخرج كنزه.
- كان بورخيس مسكوناً بالكتب منذ طفولته، ولذا كانت موهبته الكتابية متوقعة منه وممن عرفه.
- يسمي بورخيس الكون مكتبة، ويتخيل الفردوس على شكل مكتبة، وما أسماه من خيال.
- كان حجم مكتبته الشخصية ضئيلاً ويبعث على خيبة الأمل، فليس جمع الكتب هو الغاية.
- أنا قارئ قبل كل شيء: هكذا يصف بورخيس نفسه.
- ثمة علاقة وشيجة بين هذا الكتبي العجوز وبين كتبه؛ حتى أنه يعرف مكانها وهو أعمى.
- جوهر الحقيقة بالنسبة له يكمن في الكتب: قراءة، وتأليفاً، وحديثاً حولها.
- تعيد الكتب إحياء الماضي.
- لا يجد بورخيس نفسه مرغمة على قراءة كتاب حتى النهاية.
- لا يمانع بورخيس مع المحاضرة عن كتاب حتى لو لم يتم قراءته، وقبل فترة يسيرة عرضت كتاباً عنوانه: كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه!
- تمثل مكتبة بورخيس – تماماً كمكتبة أي قارئ آخر- سيرته الذاتية.
- أنا قارئ أنشد المتعة، ولذلك أشتري الكتب بحرية كشأن شخصي لا علاقة للواجب به.
- لا يحب بورخيس المظاهر، ولا التظاهر، ولا الفخامة.
- أحب اللغة الألمانية، والملاحم، والروايات، والخيال، ولم يمنع نفسه من البكاء بعد نهاية فلم مؤثر.
- أحدث بورخيس تغييراً في اللغة الإسبانية، وكان له خيال لفظي، وللغته سحر خفي.
- كان يتخيل عالماً أفراده فنانون مثقفون، وبالتالي فليس للمكتبات والمتاحف قيمة إضافية.
- جل رواد الكتابة بالإسبانية في القرن العشرين مدينون لبورخيس.
- ظل بورخيس أميناً للموضوعات التي درسها في شبابه، وعاد إليها تأويلاً وإعادة تأويل.
- جاءت لغة بورخيس من القراءة، والمناقشة اليومية في المقاهي والمطاعم؛ خاصة أن مواطنيه ميالون للنقاش.
- امتلك موهبة المفارقة والتلاعب المتوقد الرقيق بالعبارة مع لغو ظريف أحياناً.
- كان نافد الصبر تجاه الغباء، وجلوسه إلى قاطع طريق ذكي أحب إليه من الحديث مع أكاديمي فارغ.
- يعد بورخيس أن صداقته مع بيوي التي بدأت عام (1930م) هي أهم علاقة في حياته؛ لأنها أمدته بشريك مثقف ذي خيال حاد، واهتمام بعلم النفس والاجتماع.
- كان يستمتع بشكل خاص بالدقائق التي تسبق النوم حين يكون واعياً لفقدان الوعي.
- المرايا، والمتاهة، هما أكثر ما يخيف بورخيس.
- لا يتحدث بورخيس عن الكتّاب الذين يعرفهم إلا من خلال كونه قارئاً لأعمالهم.
- قد يتغير الكتاب وفقاً لإحالات القارئ وافتراضاته.
- هناك قراءات مختلفة لنص واحد حسب عدد القراء.
- لا يجوز للكاتب مباغتة القارئ بوقاحة.
- الكتاب يجلب لنا أفق السعادة.
- لا أريد أن أموت في لغة لا أستطيع فهمها.
- يحب أي كاتب عملين: الأثر المكتوب، وصورة ذاته، وأحدهما يتعقب الآخر حتى نهاية المطاف.
وإنه لمن الوفاء أن يكتب النبلاء عمن صاحبوا من علماء، وكتاب، ونابهين، وفي المؤلفات العربية شواهد جميلة، منها ما سطره العريان عن حياة الرافعي، وما كتبه الأصحاب عن أشياخهم، أو رووه لمن بعدهم، والأثر مقتفى، والسلسلة ممتدة، وعسى أن يكون مثل هذا العمل أجراً وذكراً لغير ما طرف فيه.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 15 من شهرِ شعبان عام 1438
11 من شهر مايو عام 2017م
2 Comments