القصيبي.. وآياتٌ ناطقة!
بين 20 من شهر فبراير عام 1985م، و29 من شهر مارس عام 2002م، كان ميلاد المناضلة الفلسطينية آيات الأخرس، ثمَّ رحيلها في عملية استشهادية، انتقامًا من جرائم اليهود وما أكثرها، وظلَّ رفاتها الطّاهر حبيسًا لدى اليهود حتى أفرجوا عنه في أوائل عام 2014م.
وبعد أن نفذّت فتاة السَّبعة عشر ربيعًا عمليتها بنجاح، نشر السّفير السّعودي في لندن حينذاك، الدّكتور غازي القصيبي قصيدة رثاء، بل قصيدة تمجيد وتخليد وثناء، في صحيفة الحياة اللندنية، ويشاع أنَّ القصيدة جعلته غير مقبول في نظر الإنجليز؛ فعاد أبو يارا إلى البلاد وزيرًا، بعد أقلِّ من عقدين على رحيله عن مجلس الوزراء.
يقول القصيبي في قصيدته الشّامخة:
يشهد الله أنَّكم شهداءُ | يشهد الأنبياء والأولياء |
مـتمُ كـي تـعز كـلمة ربـي | في ربوع أعزّها الإسراء |
انـتحرتم؟! نحن الذين انتحرنا | بحياة أمواتها أحياء |
أيـها الـقوم نـحن مـتنا فهيا | نستمع ما يقول فينا الرِّثاء |
قـد عجزنا حتى شكى العجز منّا | وبكينا حتى ازدرانا البكاء |
وركـعنا حـتى اشـمأز ركوعٌ | ورجونا حتى استغاث الرّجاء |
وارتمينا على طـواغيتِ بيتٍ | …أبيضٍ ملء قلبه الظلماء |
ولعقنا حـذاء شـارون حـتى | صاح.. مهلاً.. قطعتموني الحذاء |
أيـها الـقومُ نـحنُ مـتنا ولكن | أنفت أن تضمّنا الغبراء |
قـل (لآيـات) يا عروس العوالي | كلّ حسن لمقلتيك الفداء |
حين يُخصى الفحول صفوة قومي | تتصدى.. للمجرم الحسناءُ |
تـلثم الموت وهي تضحك بشراً | ومن الموت يهرب الزّعماءُ |
فـتحت بـابها الـجنانُ وهشّت | وتلقتك فاطم الزّهراءُ |
قـل لـمن دبَّجوا الفتاوى رويدًا | ربَّ فتوى تضّج منها السّماءُ |
حـين يـدعو الـجهاد ُ يصمتُ | حِبر ويراع والكتب والفقهاءُ |
حـين يـدعو الجهادُ لا استفتاءُ | الفتاوى يوم الجهاد الدِّماءُ |
وفي هذه القصيدة من المعاني ما يجعلها مقبولة لدى أطراف كثيرة الخصام؛ شديدة النّزاع، دائمة الخلاف، وهذا من أسرار خلودها وبقائها. فالسّني كما الشّيعي لا يأنفان من تردادها، والإسلامي بجميع أطيافه يرحب بها، والقومي يحبّذها، وصاحب الأنفة من الليبراليين -وما أقلّهم- يقبلها، وأمّا اليساري فقد تكون هجِّيراه، وهي على لسان كل مقاوم ومناضل، ويستعذبها الإنسان العادي، وقد تسمعها في أنشودة، أو مع دُّفٍ، وربما تصاحبها موسيقى صاخبة، ورقصات بريئة أو غير بريئة!
إنَّ أهل النُّهى، ليعلمون يقينًا، ومن نظرة فاحصة لجيش اليهود، وقواتهم العسكريّة والأمنيّة، ومخابراتهم وعملائهم، وترسانتهم الثَّقيلة والخفيفة، وسلاحهم التَّقليدي والمتطور والنّووي، ومن غدرهم المتكرر، وفضحهم حتى لمن منحهم ما يريدون، يعلمون أنَّ هؤلاء القوم محاربون وإن لاكوا السَّلام بأفواههم، غدَّارون وإن منحوا العهود الشّفوية، أو حتى كتبوها على ورق، فبعض أسلافهم قال ما معناه؛ بأنَّ أوراق المعاهدات مع الأعداء، أرخص من أن يُتمندل بها!
ومن البلوى، والبلايا كثيرة، أن يمضي أربعون عامًا على توقيع أول اتفاقية سلام بين العرب واليهود بكامب ديفيد في سبتمبر 1978م، فلا يقف العرب والمسلمون مع أنفسهم، وقفة محايدة، ليتدبروا ماذا غنموا من المعاهدة وأخواتها؟ وماذا كسب اليهود؟ فإن كانت لنا مغانم راجحة ظاهرة؛ فهذه حجة لدعاة السَّلام، وإن لم يكن لنا إلا المزيد من التّنازلات، والضّعف، والتّبعية، والخسائر، فلم الدّخول في نفق هذه نهاية أمثاله؟
وقد لا نستطيع منازلة اليهود الآن، وليس من الحكمة التهوّك في حروب طاحنة، أو التّصرف بغضب، بيد أنَّ الحلَّ ليس في الخضوع، وليس في الصُّدود عن هذه المشكلة الجوهرية، التي لا علاج لها إلاَّ بالقوة التي يكتنزها اليهود ما وسعتهم الحيلة، تلكم القوة التي نحتاجها في كلِّ الميادين، علميّة واجتماعيّة وعسكريّة ونفسيّة، وما أندر سعينا لها على صعيد رسمي وشعبي، حتى صار بأسنا بيننا شديدًا، وغدونا ألعوبة يتسلَّى بها الأعادي بقوة خشنة، أو ناعمة، وبمواقف متقلبِّة ذات اليمين وذات اليسار!
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرّياض
الثلاثاء 04 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1439
20 من شهر فبراير عام 2018م
3 Comments