متحالفون لمراغمة التَّغريب
استطاع مسلموا الجمهوريات الإسلامية المحافظةَ على قدر من هويتِّهم وشعائر دينهم مع ما عانوه من قهر وإرهاب إبَّان الحكم الشُّيوعي، وأقبلت تركيا حكومة وشعباً إلى العالم الإسلامي بعد قرن من وبال أتاتورك وخباله، فهل حافظ هؤلاء على ثقافتهم بجهود ذاتية أم كان العامة فيها تبعاً للنُّخب؟ وهل قاوم الفرد الإفساد من تلقاء نفسه أم أنَّ المواجهة كانت مقصورةً على العمل المنَّظم؟
إنَّ المسلم مهما كان مستواه العلمي، وأيَّا كانت درجة تدَّينه؛ مطالب بمسؤولية فردية تجاه نفسه أولًا، ونحو أسرته ثانيًا، وفي مجتمعه الصَّغير والكبير ثالثًا. ولا يسعه إهمال هذه الدَّوائر؛ وإن لم يوفِّها حقَّها كاملًا، فما لا يدرك كلُّه لا يترك جلُّه، والفعل خير من العدم، والحركة أجدى من السُّكون، وربَّ عمل صغير تعظِّمه النِّية، فيقع عند الله موقعاً حسناً.
واليوم تجتاح جحافل التَّغريب ديار المسلمين بصراحة لا مواربة فيها، وبوقاحة خالية من الحياء، ويتولى كبرها رجال ونساء تشبَّثوا بما يحسبونه ركناً شديداً، وعتوا عتُّوا كبيراً بالتَّمكين والتَّمرير، والكبت والتَّبكيت، واستعجال القرار والبحث عن الحسم بقوة المرسوم أو الأمر، ولم يرعوا حرمة لشيء؛ ولا حقَّاً لذي حق؛ ولم يلتفتوا لحتمية التَّنكيل بمَنْ تمادى وتعالى، وقد كان حقَّاً على الله ألاَّ يرتفع شيءٌ من الدُّنيا إلاَّ وضعه.
والمسلم الذي يرى ويسمع هذا الحراك؛ ويشعر بالمتغيرات تتوالى كسيلٍ تدفعه ريح عاتية، لا يسعه السُّكوت ولا النُّكوص، وقد جعل الله الفضاء الفسيح والأرض الواسعة مجالاً للمراغمة والإصلاح، وما أكثر الفرص التي تبحث عن قنّاص حاذق يحمل لواء الصَّبر واليقين والمجاهدة حتى يعلو الحقُّ ويزهق الباطل، مع وعد صادق من الله: “وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْـمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً” [النساء: 100].
ألا يعلم المسلم أنَّ أيَّ مستوى من الالتزام الشَّخصي بتعاليم الدِّين الحنيف يقضُّ مضاجع قائمة التَّغريب؟ فما أشدَّ وقع شعر وجه الرَّجل على نفوسهم! وما أكبر أثر حجاب المرأة على قلوبهم! ناهيك عن المحافظة على الصَّلاة، والعناية بالقرآن والسنَّة، وزيارة الحرمين، وتوقير العلماء، ومقاطعة الباطل، ونصرة الحق، فهذه الأعمال تفتك بهم فتك خناجر مسمومة وقعت على جراح نازفة.
ومما ينغِّص على التَّغريب وأهله الحضور الفاعل للعلماء والدُّعاة والكتَّاب في الإعلام الجديد عبر الصَّفحات الشَّخصية، والمواقع الاجتماعية وغرف البالتوك، والنَّقل المباشر وقنوات اليوتيوب وغيرها، وبعض طلبة العلم ليس له خبرة تقنية إضافةً إلى شح وقته، فلو تطوَّع بعض الشَّباب بنشر إنتاجهم والتَّعريف بجهودهم من خلال الشَّبكة وفتح قناة للتَّواصل مع الجمهور لكان في ذلك خير عظيم وبركة دائمة.
وللإنترنت سهم وافر في تعرية التَّغريب وأهله والمنافحة عن الفضيلة والمجتمع، ونظرة واحدة إلى مواقع نقيَّة بمشاهدها وصوتياتها ومقالاتها وموادِّها تصف هذا البلاء الحسن، وهذه دعوة مفتوحة لشبابنا المبدعين للإسهام في ردع التَّغريب دون الوقوف عند شبهة التَّقصير والخطأ.
ويشمأزُّ التَّغريبي ويبلغ حنقه مداه حين يرى تربوياً ينطلق في آرائه من دينه مع استيعابه للرؤية الغربية، ويتميز من الغيظ إذا راجع مركزاً صحياً فيه من شواهد الصَّلاح والحشمة والتَّعفف والغيرة على الدِّين وإن لم يك موظفوه ملتزمين بجميع الشَّعائر الظَّاهرة والباطنة، وقد يصاب التَّغريبي بلوثة إذا سمع أقوال علماء الاجتماع الذين وعوا هذا العلم الجميل بدون تبعية ولا انقياد، وإنِّها لساعة كئيبة على المفسد إذا أبصر التَّصماميم المعمارية الجذَّابة التي تفصل بين الجنسين بإبداع مهندسينا!
وقد قرأت مرَّة للأستاذ محمد قطب-أسبغ الله عليه لباس الصَّحة والعافية- أنَّ غربياً امتعض لما عرف أنَّ تخصُّصه في اللغة الإنجليزية، وفي مذهب الغربي انغمس كثير من زعامات التَّغريب، ومنه استنكار تغريبي جبَّارٍ على زميله الاستشاري أن يصلي العشاء والتَّراويح في رمضان مع كونه غير متدَّين!
ونحتاج اليوم إلى تحالف شعبي سلمي ظاهر، يواجه التَّغريب وسدنته ويقطع الطَّريق عليهم؛ بهدم برنامجهم التَّخريبي، والتَّجافي عن منحه أيَّ مشروعية، وضبط أقوالنا وردود أفعالنا؛ والالتزام بالمصداقية الشَّخصية والمؤسساتية، والانضواء تحت راية العمل الاجتماعي النَّافع بشيءٍ من الوقت والجهد والمال، والتَّواصل مع الحكومة ورجالاتها، وتأييد النَّشاطات الاحتسابية، والثَّناء على مَنْ يعزِّز القيم، ونقل تجارب الأمم الأخرى المستمسكة بتراثها وخصوصيتها من خلال الشَّباب المبتعثين إليها، وغير ذلك من أفعال يستطيعها كلُّ إنسان، ولا تحتاج إذناً رسمية، ولا يلزم أن يكون الفاعل معدوداً مع الأتقياء، وأما آثارها فمنظورة في الحال والمآل؛ ويكفي منها تحزين القوم، وصدُّ تغلغلهم في حياتنا الخاصَّة والعامة، وليكن شعارنا: أنا مسلم أرفض التَّغريب وأبغضه وأقاومه أيَّا كانت أخطائي وذنوبي.
وهذا التَّحالف المنشود مفتوح للجميع، يشارك فيه الطِّفل ببراءته، والشَّاب بقوته، والكهل بخبرته، والشَّيخ برأيه، ويشترك فيه الرَّجل مع المرأة بحكم أنَّهما مادَّة المجتمع وأصل كلِّ أسرة يسعى التَّغريبيون إلى هدمها، ويتضامن معه الفتى الباحث عن عمل يليق به، والفتاة التي ترنو لوظيفة تراعي أنوثتها؛ وهما أصيلان في المدافعة لأنَّ شيطان التَّغريب لايريدهما أن يلتقيا إلاَّ في وحل الرَّذيلة، وما أسعد هذا التَّحالف بحضور الأثرياء والمهنيين وكلِّ مَنْ يروم الإصلاح، فالغاية حفظ المجتمع، وتقوية البلاد، وسدُّ الثَّغرات، وإصلاح الخلل، وتمتين الجبهة الدَّاخلية لمقاومة أيِّ اعتداء أوشقاق.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الثُّلاثاء 10 من شهرِ رجب الحرام عام 1431
ahmadalassaf@gmail.com
One Comment
نفع الله بكم واعانكم