قرابين البقاء في المناصب!
باختصار، لو خرج علينا مدير الشُّرطة ذات صباح قائلاً: السَّرقة عمل نبيل، والاختطاف مهارة رائعة، وحبس المجرمين ليس واجبًا! وبالمثل، لو فَجَعَنا مدير الصِّحة بتصريح مفاده أنَّ التَّطيعمات عبث، والرِّعاية الأوَّلية إهدار للمال، واستقبال المرضى مهمَّة البلديات!
فبالله عليكم أيُّ شيءٍ يُذهب غيظ المواطن والمسؤول من هؤلاء غير الإعفاء، والمحاكمة، والتَّفتيش في سجلاتهم الوظيفية مادامت هذه أقوالهم! وبالله عليكم ثانيةً كيف ستكون النَّظرة لمن دافع عن واحد من هؤلاء النَّاكسين؛ فضلاً عمَّن نقض قرار الإعفاء وأبقى الذي لا يقتنع بعمله في مكانه؟!
هذا هو ماحدث تماماً مع مدير إدارة دينية بعد تصريحاته الإعلامية المتتالية حول الاختلاط، وفتواه الجريئة عن صلاة الجماعة، مع أنَّه يدير جهازًا يقاوم الاختلاط ويحثُّ على صلاة الجماعة، ومع أنَّ عمله تنفيذي ولا علاقة له بالإفتاء.
وقد طارت في الآفاق أقواله الطُّبولية، وانتشر خبر إقالته؛ ثم رواية إبطال القرار! وصار اسم الرّجل دارجاً على الألسنة والمواقع، والقنوات والصُّحف، حتى غصَّ قوقل بكثرة ورود اسمه في غيرما طائل ينتفع منه النَّاس في دينهم ودنياهم.
ومن أحاديث السُّمَّار أن قد سرى سارٍ من الرَّأي ليلاً ونهاراً، وسرَّاً وجهارًا، وهذا السَّاري يقول بلسان الحال لا المقال: للبقاء في المناصب قرابين وقوانين، ومعرفتها مهمَّة للرَّجل ذي المنصب حتى لا تصيبه الحيضة! وحيض الرِّجال هو العزل من المنصب كما قالت حكماء العرب، وشرع السَّاري في سرد هذه القوانين والقرابين لمن أراد أن يستمر أو أراد ظهورًا، ولمن شاء أن يأوي إلى ركن شديد!
فمنها شرعنة الاختلاط وإباحته أو السُّكوت عنه، والزَّج بالمرأة في كلِّ مكان، واستضافتها في المؤتمرات والوفود، وتعيينها في أيِّ عملٍ حتى لو كان حفَّارة قبور، والتَّصوير معها بابتسامة عريضة فجَّة، ومن القرابين سلوك مسالك التَّنوير والتَّيسير، والتَّميع في الفتوى والاجتهاد، والاحتفاء بكلِّ عملٍ خادش للحياء، وترجمته وتوزيعه وتكريم أصحابه، وفي مهامه الضَّياع غابت سؤالات التَّنمية، وأرقام الإنجاز، وهموم المواطن، وأمنيات الوطن، ورغبات الولاة.
إنَّها لمصيبة عظمى أن يتنازل بعض الكبار عمَّا يفترضه عليهم دينهم ثم واجبهم الوطني، ومكانتهم العلمية والأكاديمية؛ لأجل إرضاء البشر، فلست أفهم تهوُّك بعض الأكاديميين والمهنيين في هذا الطَّريق وهم في غنىً عنه بشهاداتهم ومكانتهم الاجتماعية.
ومثله يُقال في حقِّ رجال الأعمال الذين وهبهم الله مالاً يقاومون به هذه التَّدخلات الممجوجة في التَّوظيف والعمل، وثالثة الأثافي أن يكون الخنوع من بعض حملة العلم الشرعي، وقد علموا أنَّ الحكم لله ربِّ العالمين، ورضي الله عن عمر إذ يقول: أحبُّ للرَّجل إذا سيم خطَّة خسف أن يقول بملء فيه لا!
وحين سمعتُ أمير الكويت ينتقد مجلس الأمَّة إبَّان زيارته الأخيرة لأوروبا؛ ويتَّهم النُّواب بالانشغال بقضايا غير مهمَّة أعاقت التَّنمية في البلاد، تذَّكرت ما نحن فيه من تطبيقات غريبة، فكأنَّ التَّنمية وتوطين الوظائف، والقضاء على البطالة ومقاومة الفساد، وتنفيذ المشاريع في وقتها بإحكام دون سرقات، هو آخر ما يهمُّ بعض قومنا، بل إنَّ التَّصنيع والاقتصاد، والتَّأليف والتَّرجمة، ونقل العلوم والتَّقنيات والخبرات، وسيلة عندهم لتحقيق غاياتٍ غير تنموية! ولولا وفرة الأموال وفيضانها، لكنَّا في حال لا نحسد عليها؛ فكثرة المال قادت لشيءٍ يسير من الإنجاز، وضاع الكثير؛ لأنَّ محاسبة الموظف الذي ينهب ويخطئ وتغرق من جرَّاء فعاله المدن، أبطأ وأخف من محاسبة شيخ أفتى بحرمة الاختلاط بكلام لين.
فياجماعة، هذه بلادنا، بمقدَّساتها، وثرواتها، وتاريخها، وأهلها، وهي أمانة في أعناقنا كي تبقى بلاداً آمنة، محفوظة، مطمئنة، متطَّورة، يأتيها رزقها رغداً من كلِّ مكان وهي مؤمنة بربِّها، متَّبعة كتابه وسنَّة نبيها، معتَّزة بقيمها ودينها، آخذة بسبل التَّقدم والنُّهوض، تقول للمحسن في أمر دينه ودنياه أحسنت فاستمر، وتقول للمسئ أخطأت فإمَّا اعتدلت أو اعتزلت.
وإنَّ لها علينا لحقَّاً عظيماً لا تبلغه الكلمات ولا تكفيه الأشعار، فبلادنا مهد الرِّسالة، ومأرز الإيمان، وأرض العرب الخلَّص، وديار الأجداد الذين ارتوت الأرض من دمائهم، وشهدت الصَّحراء قوة عزيمتهم على صيانة التَّوحيد وتحقيق الوحدة، وواجب على بنيها الوفاء وليس الجحود.
أحمد بن عبد المحسن العسّاف-الرِّياض
الأربعاء 14 من شهرِ جمادى الأولى عام 1431
ahmadalassaf@gmail.com