طفولة كاتب بين الحقول والنساء!
قد يكتب المرء سيرته الذاتية، ثم يتجاوز مرحلة الطفولة بسرعة البرق، مع أن هذه الفترة تكاد أن تكون أساساً لما بعدها، ففيها تتكون المفاهيم، وتنشأ الرؤى، ومن خلالها يرتضع الإنسان أفكار مجتمعه المحيط به؛ فيصعب عليه الفكاك من تأثيرها الممتزج بكيان الإنسان.
وحسناً يفعل أهلنا المرابطون والمجاهدون في فلسطين، حين يجعلون قضيتهم حاضرة في وجدان أطفالهم وعقولهم، تنمو معهم، وتعيش وتكبر ويصلب عودها، فلا تغيب فلسطين عن أهلها، ولا يغيبون عنها البتة، وتبقى القدس رمزاً حياً حاضراً ولو كان الفلسطيني في أقصى الأرض أو أدناها، وهكذا يجب أن نفعل مع أطفالنا لغرس المفاهيم، والقيم، والحقوق.
وبين يدي سيرة طفولة، لكاتب عالمي، آلى على نفسه ألا تتجاوز سيرته الذاتية مرحلة الطفولة، كي لا يخسر أصدقاءه! مع أنه غزير الإنتاج، متدفق، لا تعوزه التعابير، ولا يفتقد الأساليب، بيد أنها وجهة نظر لها وجاهتها. وقدمت لنا هذه التجربة حياة كاتب في طفولته، وكيف كان لها أكبر الأثر في سيرته الكتابية التي تعني حياته كلها.
عنوان الكتاب: طفل من حقول الكاكاو: سيرة ذاتية للطفولة، تأليف: جورج أمادو، ترجمة: محمد صوف، صدرت طبعته الأولى عام (2004م) عن دار أزمنة للنشر والتوزيع، ويتكون من (44) صفحة من القطع المتوسط، مقسمة على مقدمة المترجم، ثم سبعة عشر مقالة لطيفة مليئة بالإشارات والمواقف.
والمؤلف كاتب وروائي برازيلي عالمي، عاش بين عامي (1912م-2001م)، وكتب أول رواياته وهو دون العشرين، بيد أنه ظل يرفض ترجمتها لسذاجتها، وفي ذلك درس للكتاب بالتروي قليلاً قبل النشر، ولكنه انتظار يسير؛ وليس انقطاعاً طويلاً.
ونظراً لالتحاقه بالحزب الشيوعي، فقد اضطر للتنقل بين السجون وعدة بلدان، حيث أعتقل (12) مرة، وعاش مهاجراً في بضعة بلدان، وتعرضت كتبه إلى المنع أو الحرق بسبب التزامها بالأفكار الشيوعية، ولأجل هذا -فيما يبدو-حاز على جائزة ستالين، وحرم من نوبل، وكم تحت الجوائز من حسابات!
ومع النضج والزمن تخلى عن التزامه الشيوعي، مع بقاءه نصيراً للمظلومين والمعذبين، ووصف نفسه بأنه الضد، واللا، والمناضل من أجل القضايا العادلة. وكتب (31) عملاً أدبياً، وفاز بجوائز مختلفة، وترجمت كتبه إلى أربعين لغة، وحصدت ثناءات معتبرة كما فعل ألبير كامو مع رواية “باهيا مدينة القديسين”، وفي ذكرى ميلاده الثمانين احتشدت جماهير غفيرة بإحدى ساحات باهيا للاحتفال به.
وسطر جورج-أو خورخي كما تنطق في بلاده- ذكريات طفولته عام (1986م)، وهو الكتاب الخامس والعشرون ضمن أعماله، ورفض رفضاً قاطعاً تجاوز مرحلة الطفولة كي لا يفقد أصدقاءه، وحسناً فعل؛ حين قدم نموذجاً جميلاً لسيرة طفل غدا كاتباً عالمياً، مع أني أظن أن باقي فصول سيرته ستكون رائعة لو أنه أكملها.
يبدأ أمادو سيرته الطفولية بنقل قصة روتها أمه له كثيراً، وملخصها أنه كان مع أبيه على فرس عام (1913م)، وتعرض والده لوابل من الرصاص أردى الفرس قتيلاً، وأصاب الأب جريحاً، ونجى الوليد بأعجوبة؛ بعد أن هرب به والده الجريح نحو دارهم، وقد نُقش هذا المشهد في ذاكرته، ويصفه كأنه يراه أمامه، وما أجمل قصص الوالدين لأطفالهم.
ويرى الكاتب أن ذكريات الطفل مكونة مما يروى له، ومما اختزنته ذاكرته، وكم يقصر الآباء حين لا يحكون لأولادهم قصص طفولتهم، والأحداث التي عاصروها وإن لم يحيطوا بها لصغر سنهم. ومما يذكره الطفل الكاتب كثرة الموات من الأوبئة كالجدري، حتى أن صور الموت والجثث علقت بذهنه، وظلت حاضرة في كتبه.
وتلقى الطفل أول دروس الحب مع بنت الجيران، حيث كان يستلطفها، وبرعت هي-كعادة الفتيات- في لفت نظره، وكم من طفل وطفلة علقا بعضاً منذ الطفولة، بيد أن صاحبنا فارق طفلته اللعوب، ولم يعد يذكر اسمها، وإن بقيت ملامحها مرسومة في مخيلته.
وكثيراً ما عبر الكاتب عن صداقته المبكرة للموت، وعن علاقته الوثيقة بالمرأة سواء كانت أمه أو غيرها من النسوة اللاتي أفضن عليه حناناً وعناية، فكانت طفولته كثيفة ودافئة، أحسَّ بالحب، ولامس الموت؛ ولذا يتصدر الموت والحب موضوعات رواياته، ويصدق أن نقول: طفولة الكاتب منجم أفكاره الأساسية غالباً.
ويعدُّ الطفل حنان النساء وعطفهن عليه كنزاً لا يفرط به؛ حتى لو كانت النساء فتيات ليل يجتمعن في ملهى أو مبغى، ويجد لهن من قسوة الحياة عذراً، ويسطر شهادته على لطفهن معه، وأيَّاً كان فما أجمل التصون والعفاف، وربما أن ولع النسوة به إشارة إلى رغبتهن بالحياة السوية، والزواج، والأمومة، وويل لمجتمع يحرِم نساءه من هذه الأمنية الغالية عند كل فتاة، وإن كابرت الحركات النسوية والجندرية.
ولأنه عاش أجواء الصراع، واغتصاب الأرض، والتشرد، وتنقل في طفولته بين أحضان الفتيات في الملاهي، فقد كرس رواياته لشؤون المشردين، والبغايا، وظل يدافع عن هؤلاء المحرومين، ولازمه في حياته وفي أدبه شعور بالابتعاد عن الزعماء، والاقتراب من الفئات المرفوضة والمظلومة.
ويعلل موقفه المناوئ للقادة بأنهم يكذبون حين يتحدثون باسم الشعب، ويحملون راية الموت، ويمارسون القمع والعنف، ويطالبون المجتمع بالطاعة العمياء وعبادة الشخصية، ولا يقبلون الإبداع والحرية، ثم يتساءل: من يستطيع أن يميز بين القاتل والبطل؟ ومن يفرِّق بين القائد والطاغية؟ ويجزم بأن الإنسانية تولد ممن لا يملكون نفوذاً أو جاذبية سلطوية.
وكبر الصبي وترعرع وتعلم القراءة بين المحاربين والمقامرين والمغامرين والمشردين، وتعلم خفايا حياتهم، وخبايا أسرارهم، ولم يكن أحد منهم يمنعه من الحضور والملاحظة، وكان فيما يبدو لطيفاً، مما جعل هؤلاء الرجال الأشداء يغضون الطرف عنه، وكانت ذاكرته تختزن، وخياله ينمو، وموهبته تقوى يوماً بعد يوم.
وتوقف الطفل عند شخصية عمه المقامر، وأشار إلى أن شخصيات الروائي مصدرها الشخصيات الحقيقية التي تطبع الكاتب، وتبني جزءاً من تجربته الذاتية. ومن خبر عمه أنه كان واسع الحيلة، يضع مظلته عند الباب وحين يخرج يأخذ أجمل مظلة، ويمشي وعينه على الأرض ولذلك فما أكثر النقود التي يجدها، ومن أطرف أخبار هذا العم أنه يبيع الماء المقدس في قوارير للمرضى وطالبي الشفاء!
والمدرسة اليسوعية، كما يصفها أمادو، كانت سجناً حقيقياً له. وخلال دراسته فيها، سعى المعلمون لترويضه، وإجباره على التفكير كما يريد الآخرون، وفي هذه المدرسة السجن كانت الكتب هي الفكاك والسبيل لفتح الآفاق.
وعلمته التجارب المدرسية والبرلمانية والحياتية الكثيرة والقاسية أحياناً، أهمية أن يفكر الإنسان بحرية حسبما يعتقد لا كما يريد غيره، ولذلك أصبح مستهدفاً من الأنظمة وأصحاب الأفكار، وأدى ثمناً باهظاً؛ ومع ذلك يراه ثمناً زهيداً مقابل الاستمتاع بحرية الرأي والتصور.
ويرى بأن النظريات والأفكار المعلبة تخنق الإبداع وتئده، ورأيه صحيح شريطة ألا يكون الإبداع سبيلاً للقفز على محكمات الشريعة وثوابت الديانة والمروءة. ويؤكد على حقه في أن يحلم بما يشاء، فالحلم حق شخصي خالص، ومن جماله أن الطغاة لا يستطيعون منع أحد منه، ولا يقدرون على تقليص مساحة الحلم.
وختم أمادو سيرته الماتعة القصيرة بخبره مع معلم اللغة البرتغالية، حيث جعلهم يكتشفون سحر الأدب، وسلطة الكلمات. وحين طلب المعلم كابرال من التلاميذ كتابة مقال عن البحر، عاد إليهم في حصة لاحقة ليعلن أن الفصل فيه موهبة حقيقية في الكتابة، وطلب إلى التلاميذ أن ينصتوا لما سيقرأه، وكانت الكلمات لجورج أمادو، وأبدى المعلم الأب كابرال ثقته بأن هذا الفتى سيصبح كاتباً مرموقا في المستقبل.
ولم يكتف المعلم بذلك، بل أتاح مكتبته لتلميذه، وأذن له بالقراءة والاستعارة، وجعله يحب الكتب أكثر فأكثر، وفتح له أبواباً مشرعة نحو الإبداع، وهكذا ينبغي للمعلم والمعلمة أن يفعلوا تجاه المواهب الغضة، والعقول المتفتحة التي جعلها الله أمانة عندهم، وهو واجب على الوالدين كذلك.
إن سيرة الطفولة، تجربة مثيرة ثرية جميلة، وليت أن المؤثرين يخصون طفولتهم بالحديث، كما أن الباحثين في تاريخ المبدعين يحسن بهم أن ينقبوا في طفولتهم، فكم حوت الطفولة من سر، وكم كانت الطفولة منطلقاً لما بعدها من حيوات وأعمال وأفكار، وكم في عنق الملاصقين للأطفال خلال هذه المرحلة من مسؤولية خطرة لو أحسنوا تقديرها وتفعيلها.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-حفر الباطن
الثلاثاء 13 من شهرِ شعبان عام 1438
09 من شهر مايو عام 2017م