سير وأعلام قراءة وكتابة

فن كتابة سير الكيانات!

عندما تعبر من أحد مواقعه، أو تسمع عن منجزاته، أو ترى بعض ثمراته، أو تطلع على شيء من خبر أكابره ومنشئيه، تتمنى لو أنك تعرف القصة الكاملة خلف هذا الكيان الحكومي، أو الخاص، أو الخيري. تلكم القصة التي لن تخلو -غالبًا- من إلهام، وعبر، وعوائق، ومجريات تصلح درسًا عمليًا في الإدارة والتغيير والإصرار، وتضاف للمحتوى المحلي والعربي في هذا الحقل الحيوي.

ومع عظيم الأسف، فقد يغيب الآباء المؤسسون، وتتعاقب الأجيال، وينهمك الكافة في العمل ومتطلبات الحاضر والمستقبل، حتى تكاد حكاية النشأة الأولى أن تصبح نسيًا منسيًا، فلا توثيق لها سابق، ولا تدوين يتدارك هذا الخلل. إن المكوث الطويل في زاوية مظلمة من عالم النسيان، يقود إلى إشكالية في فهم الماضي، ومشكلات الماضي لا تموت بسهولة؛ بل إنها على التحقيق ولود غير عاقر! وهذا المولود يضر بالحاضر والمستقبل.

أقول ذلك، وفي البال أمثلة كثيرة، لكيانات متنوعة في المجال والمرجعية والتاريخ، تحتاج إلى رواية حكايتها، وإخبار من لا يعلم عنها، منذ كانت فكرة وبذرة حتى تعملقت ورسخت. هذه الأخبار مفيدة لتقدير البناة الأوائل، ورفع الملامة عنهم، وللتحفيز على التأسيس وتخليف الأثر الحسن. إن ترك الأثر الحميد من خير ما يمكن التوصية به لكل مسؤول، وقد حدثني وزير سابق، أن وزيرًا سمي للمنصب بعده بعقود، فزار الوزير الجديد زميله القديم، واستنصحه فور تعيينه، فقال له: لا تغادر الوزارة دون ترك أثر نافع أو أكثر يرتبط بك!

وها هنا محاولة أولية، لكتابة بعض الخطوات العملية لكتابة سيرة أي كيان، وعسى أن أتمكن من تطويرها بمزيد القراءة والنقاش والآراء من القراء حولها. كسرت هذه المحاولة على ثلاثة مراحل أساسية، وداخل كل مرحلة خطوات عملية، وأضفت في آخرها تنبيهات ومقترحات.

المرحلة الأولى: ما قبل التنفيذ

أولًا: نشوء الفكرة واعتمادها

من المهم أن تنشأ الفكرة من مركز إداري عالٍ في الكيان، أو من إدارة عازمة على المضاء بالفكرة نحو التنفيذ التام. ومن مكونات الفكرة الاتفاق على أهدافها؛ كي لا يتحول المشروع إلى عمل بلا ثمرة ولا أثر.

ثانيًا: تكوين الفريق الإشرافي

لا بد من تكوين فريق إشرافي متنوع في المرجعية والخبرة، كي يكون معنيًا بإنضاج الفكرة وتنفيذها. ومن الضرورة بمكان أن يكون الفريق ذا أفق واسع غير محدود بزمنه، ولا بالإدارة التي يمثلها؛ فالمصلحة عامة.

ثالثًا: تحديد المسؤول عن التنفيذ

هذا المسؤول إما أن يكون من داخل الكيان، أو من خارجه، وربما هو الأفضل، بسبب التجربة والحياد. وقد يكون المسؤول فردًا أو كيانًا، والشيء الذي لا مناص منه فيمن يتحمل عبء التنفيذ، أن يوصف بالأهلية في مقدرته وخبرته وأمانته.

رابعًا: التعاقد الواضح

بعد تحديد المسؤول يجب كتابة عقد واضح بين الطرفين، يشتمل على جميع ما يحيط بالموضوع في ماهيته، ومقداره، وزمنه، ومقابله المادي والمعنوي، وقنوات التواصل، وطريقة جمع المعلومات، ولوازم السرية، وكيفية حل الخلاف إن حدث لاقدر الله.

المرحلة الثانية: التنفيذ

أولًا: تكوين فريق العمل

عدد هذا الفريق وطبيعة أفراده يحكمها حجم العمل؛ فبعض الأعمال يكفيها شخص واحد، وبعضها تحتاج لعصبة من المختصين أولي القوة، والمسؤول عن هذا الفريق هو المكلف بالتنفيذ.

ثانيًا: الإعداد وجمع المعلومات

يجب على المنفذ أن يجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات التي تفيد الموضوع بعد تحديد محتواها منعًا للتشعب المضيع للجهود، وحتى لا يفوت شيء مهم، فضبط إطار المحتوى مهم كي ينحصر البحث والحوار والتفكير فيه. مصادر هذه المعلومات شتى، منها:

  1. الحوار مع المؤسسين، والموظفين الأوائل، والمسؤولين الحاليين، والشركاء.
  2. الاطلاع الدقيق على الوثائق مثل: قرارات التأسيس، المحاضر الأولى، النظام الأول، الرخص، الصور القديمة.
  3. قراءة ما ورد عن الكيان في الصحف الرسمية وغير الرسمية سواء أكانت أخبارًا أم تعليقات أم حوارات وغيرها.
  4. النظر في خطط الكيان وأهدافه.
  5. فحص التقارير الخاصة بالكيان أو المرتبطة به وبعمله.
  6. مراجعة الكتب التي ورد فيها شيء عن الكيان.
  7. الإفادة من السير الذاتية أو الغيرية لمؤسسي الكيان وقياداته والشخصيات المؤثرة فيه.

ثالثًا: تقسيم السيرة

تختلف كل سيرة عن أختها في المادة المتوافرة، لكن يمكن وضع خطوط عريضة لمحتويات سيرة أي كيان، دون التزام بالعناوين؛ فمجال التفنن فيها واسع المدى. من هذه المحتويات:

  1. التقديم: الأفضل أن يكتبه شخص له علاقة مؤثرة بالكيان سابقة أو حالية.
  2. المقدمة: يشار فيها لأهداف هذا العمل السيري التوثيقي.
  3. البدايات: فيها سرد للقصة من انبثاق الفكرة إلى الشروع في التأسيس، ومن الطبيعي بيان العوائق والممانعات، ومواقف المساندة والخذلان، وتوضيح أهداف هذا الكيان إبان تأسيسه. وغيرها.
  4. النمو: وفيه تعداد للمنجزات، وتحديد لنقطة التحول إلى كيان فاعل معروف أثبت وجوده، وظهرت بعض ثماره، وتوجه إليه الشركاء، وصار يحسب حسابه فيما يتقاطع معه.
  5. التحولات: وقفة مع لحظات التحول الإداري، أو التقني، أو الإستراتيجي، في حياة الكيان وأهدافه ووسائله ونطاقاته. ومن مواد هذا القسم بيان كيفية التعامل مع التحديات مثل: الأزمات المالية، والجوائح، والتهم، والمنافسة، وغيرها.
  6. الإنجازات والآثار: هنا ينفتح الباب على مصراعيه للإشادة بالكيان إشادة صادقة، بذكر منجزاته وآثاره المباشرة وغيرها، القريبة منها والبعيدة، مع الإشارة إلى ما حصل عليه من جوائز، وما أسهم فيه من مؤسسات، وعضوياته، ومؤتمراته، ومطبوعاته، ومشاركاته، ورواية القصص الملهمة، والتوسع الذي تمكن منه على نطاق الزمان أو المكان أو المجال، وما تفرع عنه أيضًا.
  7. الهوية والمبادئ: هذا باب لطيف ربما يغفل عنه؛ فشعارات الكيانات المصورة والمرسومة والمكتوبة قد تتغير، وحفظها للتاريخ مهم، ومثلها المبادئ الحاكمة على الكيان وعامليه، التي صنعت ثقافة عمل وإدارة له يتميز بها، تمامًا مثل الصور والشعارات التي تشير إشارة واضحة للكيان وتطوراته.
  8. المستقبل: ما هي خطط الكيان للمستقبل خاصة مع التقدم المذهل في التقنية والرقمنة والذكاء الاصطناعي، أو مع الخطط والرؤى المحلية الطموحة، والتغيرات المحتملة إقليميًا ودوليًا. إن علم المستقبل مهم في الواقع، وفي الخيال، وفي التأليف كذلك.
  9. الأسماء: لا بد من الإشادة بالبناة الأوائل، وبالأسماء المؤثرة في تاريخ الكيان ومسيرته، وهذه الإشادة الحقيقية إما أن تكون واسعة أو مختصرة؛ لكن لا بد منها ترسيخًا للوفاء، وإبقاء للمآثر العريقة فينا.
  10. الخاتمة: الخاتمة مثل المقدمة التي تمسك بالقارئ، ولا بد من التحليق فيها بالقارئ حتى يغادر الكتاب وفي ذهنه أساس الفكرة والهدف المقصود من التأليف. إن حرفة الفنان وموهبته تظهر أوضح ما تظهر في مقدمته وخاتمته.
  11. الفهارس الكاشفة: أي إضافة فهرس للموضوعات، ومعه كشاف للأعلام والأمكنة يزيد من قيمة المادة، ويسهل وصول الباحث فيه لمراده. هذا الكشاف هو آخر عمل كتابي للسيرة، وبعده قد تصعب أي زيادة نصية أو تغيير أو حذف.

المرحلة الثالثة: الإخراج النهائي

أولًا: الأسلوب المعتمد:

كتابة السير الأصل فيها أن تكون سردية قصصية؛ بيد أنها فيما يخص الكيانات لن تسلم من الجانب الإداري والتقريري. ربما أن الأسلم فيما يخص هذا الباب من التأليف مزج السرد الجميل، بالمحتوى الإداري المخففة لغته، وهو أمر لا مفر منه في أكثر الأحيان.

ثانيًا: التحرير والصياغة:

لا يحسن بفريق العمل أن يسلمه دون التأكد من حسن تحريره، وجمال صياغته، ومتانة سبكه، وسلامته إملاء ونحوًا ولغة وأسلوبًا، بل هذا هو المتوقع فيمن ينتصب لمثل هذه الأعمال، ولا فرق إن كان التحرير والصياغة من داخل الفريق أم من خارجه، والمهم فيه التجويد والإبهار.

ثالثًا: الرسوم والصور والأشكال:

وجود رسومات وصور وأشكال بيانية وإحصائية يختصر كثيرًا من القول، ويكسر حدة النص، ويعطي القارئ فرصة للراحة والتأمل.

رابعًا: أغلفة الكتاب وألوانه وخطوطه:

  1. قد يناسب خلو الأغلفة من صور الأشخاص؛ فالكيان لا يمكن اختزاله بشخص واحد أو حتى بعدة أشخاص لوجود من سيأتي بعدهم، ولكل قاعدة استثناء.
  2. لا بد من الحرص على وضوح الخطوط ورزانة الألوان المستعملة، فالكتاب وثيقة رسمية في النهاية، وليس من الحكمة جعله كراسة خطوط مبعثرة وألوان منفرة.

خامسًا: نسخ الكتاب:

تحدبد نوع النسخ من الكتاب يعود للكيان نفسه، فربما تكون مطبوعة على نمط واحد، أو طباعة فاخرة وأخرى عادية. كما يمكن لإصدار نسخ إلكترونية أو رقمية أو على صيغ الكندل، وأخرى مسموعة، أو بطريقة الأحرف البارزة “برايل”.

سادسًا: التسويق:

مسؤولية التسويق ترجع للكيان أو لمن يتعاقد معه بهذا الخصوص، ولا ريب أن وصول نسخة أو أكثر لمن شارك في البناء أو الرواية مهم للغاية. وقد يكون من التسويق كتابة بعض المقالات والتعليقات عن هذا العمل الجليل، والإهداء لمن يستحق، والمشاركة في المعارض ولو بالعرض فقط.

تنبيهات نهائية:

  1. كتابة التاريخ علم وأمانة، وأي شيء يخرمهما يهوي بالعمل، ويزري بقيمته.
  2. يجب إعطاء كل ذي حق حقه من المؤسسين حتى لو لم يرق أحد منهم لمن يقف على رأس الكيان حال الكتابة؛ فالحق أحق أن يتبع.
  3. لا تقف المسؤولية عند هذه الحدود، ومن الطبيعي بروز الحاجة لتجديد العمل كل مدة، سواء مع توالي الإنجازات، أو باكتشاف وثائق ومعلومات مهمة.
  4. قد يناسب ترجمة العمل كاملًا أو مختصرًا للغات تهم هذا الكيان، وليس بالضرورة أن تكون الترجمة للإنجليزية فقط، بل ربما يترجم إلى الصينية، أو التركية، أو الملاوية، أو غيرها.

إن كل ما سبق محض اجتهاد ترفده بضع قراءات، وشيء من الممارسة والخبرة، وقدر من النقاش والحوار، وهو باب من الكتابة نحتاجه، ويُسأل عنه كثيرًا، وبالتالي فعسى أن يتبع هذا المقال أعمال أخرى في موضوعه أكثر إحاطة وتعمقًا، والساحة ميدان فسيح مفتوح لمن شاء الإسهام والمشاركة مشاركة واسعة أو مختصرة، فالمهم أن يكون لدينا أكثر من رأي ومنهج وأسلوب، وكلها تخدم لتحقيق غاية واحدة هي حفظ سير الكيانات ونشرها، فهذه السير جزء من تاريخنا الإداري والمجتمعي والتنموي.

ahmalassaf@

الرياض- الاثنين 06  من شهرِ ذي الحجة عام 1446

02 من شهر يونيو عام 2025م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)