سير وأعلام عرض كتاب قراءة وكتابة

نقوش من هوى النفوس!

إحسان لا ينكر، وفضيلة من أهلها لا تستغرب، حين يطالع القارئ كتابًا، فيعجبه، ثم يشرك الآخرين بفوائده أو بالدلالة عليه تحدثًا أو كتابة، ويزداد الفضل حينما تجمع هذه المواد في كتاب مطبوع متداول، فالذائقة العربية لها خصائصها، ونحن بأنفسنا أعرف وأبصر، دون تزهيد فيما يكتبه أبناء ثقافات وحضارات أخرى، وهذا عين ما فعله مؤلفنا. في هذا الصنيع فوائد أخرى منها مزاحمة التآليف الأجنبية المتواترة في هذا الباب، وربط الصلة مع تراث أوائلنا في التصنيف ونشر العلم، وإنه لتراث عظيم عظيم.

إن مراجعات الكتب فن مظلوم في أيامنا، لا تفسح له مساحة كافية كما أشار الأستاذ محمد الهجين مؤلف الكتاب المستعرض أدناه في مقدمته، وفي قابل الأيام سيكون في المكتبة العربية كتاب خاص عن فن مراجعة الكتب، للمؤلف السعودي الأستاذ الكاتب رائد بن خليل العيد، وعسى أن تتضافر هذه الجهود لمنح هذا الفن ما يستحقه من قيمة، علمًا أن المراجعة عمل معتاد من أكابر الكتاب على اختلاف أنواعها.

هذا الجهد المبارك هو ما يصنعه مؤلفون عرب، ونراه في كتب عدة، منها كتاب عنوانه: هوى النفوس: سياحة في عالم السير والمذكرات، تأليف: محمد بن عبدالعزيز الهجين، الذي صدرت طبعته الأولى عام (1446=2025م) عن مدارات للأبحاث والنشر، ويقع في (590) صفحة، ويتكون من مقدمة وسبعة فصول، والكتاب مهدى للشاب الفلسطيني عمار غربية الذي أسس ناديًا للقراءة، بيد أن يد العدوان قتلته، لكن مشروعه وآثاره ستبقى، وستصبح من عوامل صد الاعتداء وطرد المحتل. وللعلم فهذا ثالث كتاب للمؤلف بعد مودة الغرباء، والأنس بالراحلين، وهذا النوع من الكتب يعدّ جزءًا من السيرة الثقافية للمؤلف.

عنوان القسم الأول: أصوات من مصر، وفيه تسعة مقالات في (146) صفحة تروي عن شخصيات مصرية كبيرة، والحديث فيها عن الكتابة والشعر والثقافة والفكر وشؤون أخرى عامة وعليا، بيد أن المجد للقلم حتى أن سعد زغلول قال على مسمع من أحمد شوقي ما معناه مختصرًا: بعد نصف قرن لن يذكرني أحد، وسيخلد ذكر شوقي والترنم بشعره! وفي هذا القسم نقولات إدارية وسياسية ودبلوماسية، وأحاديث عن مجلات وكتب وأسماء وأحداث. من طرائفه اللطيفة أن صحفيًا ذهب لإجراء لقاء مع الشيخ القارئ عبدالباسط عبدالصمد ومعه زميلان هما: أفيوني وحشيشو؛ فتحركت غريزة النكتة في الشيخ ذي الصوت المؤثر، وقال لمن حوله تعليقًا على الأسماء: “حصل لنا السطل يا بهوات”.

ثم نذهب إلى القسم الثاني وعنوانه: هوامش تاريخية، وفي خمس مقالات بسبعين صفحة -على مذهب تأنيث المقالة-، وهو عن كتب رصدت الأحداث السياسية الكبرى في المنطقة العربية قبل قرن مضى، والقراءة في هذا الحقل مهمة شريطة ألاّ يقتصر القارئ على كتب من مشرب واحد بحثًا عن الحقيقة، مع الحرص على قراءة التاريخ من الأسفل أي من رؤية غير الزعماء والساسة كي لا يقع المثقف فريسة لصنف واحد، يضاف لذلك محاولة النجاة من علة شائعة لدى المؤرخين الأجانب الذين يجعلون عالمهم مركزيًا وغيره هامشيًا هذا إن كان له موقع من الأساس! من لفتات هذا القسم أن “تشرشل” طلب من مترجمه أن يخبر فيصل بن الحسين حينما حضر اجتماعًا بلباس غربي عن أسف الزعيم الإنجليزي على “ضياع ملابس فيصل الجميلة”!

أما القسم الثالث فهو شهادات عن فلسطين وفيه ستة مقالات عدد صفحاتها (58) صفحة، وهذا القسم مما تزداد الحاجة إليه خاصة عند جيل لا يعرف الكثير عن فلسطين. وقد يذهل القارئ إذا علم أن العدوان اليهودي على غزة قديم ومتكرر وغير مرتبط بشيء أكثر من همجية الاحتلال ونفسيته العدوانية الجاهزة للتغول بأي حجة. وفي هذا القسم تبرز شخصيات فلسطينية وعربية وأجنبية، ونرى مساندة “كيسنجر” الظاهرة لبني قومه دون أن يكون متدينًا؛ ويا له من درس!

بينما تأتي في القسم الرابع مذكرات أهل الأدب، وفيه أربع مقالات وعدد صفحاته مثل سابقه، وفيه إشارة إلى مهارة الكتابة بأناقة، واعتراض مارون عبود على تنصيب شوقي ولي عهد لإمارته الشعرية بحجة أن إمارة شوقي لم يعترف بها من الأصل. ومن بديع هذا القسم، وصف أمين نخلة لصوت مؤذن في الخليج، ولتأثره بقراءة الشيخ محمد رفعت، وفيه أحاديث عن ذاكرة المكان عبر استعراض علاقة الطيب صالح مع الدوحة وأهلها، وهذا القسم ماتع في العبور بنا من جنتي القراءة والكتابة بعيدًا عن عالم السياسة، والله يعيذنا من نارهما -أي القراءة والكتابة-.

ولا مفر! فقد اختص القسم الخامس باستعراض تجارب أهل السياسة، وفيه تسع مقالات استغرقت مئة صفحة، وهكذا هي السياسة فيما تشغله، وليت أن المؤلف الخبير وقف بنا مع بعض كتب عالم الاستخبارات على ما فيها من غموض وتهويل وندرة، ومثلها سير الدبلوماسيين التي لا تخلو من طرافة ومتعة. ابتدأ هذا القسم بمقال عنوانه على صيغة سؤال نصه: هل يكتب السياسي العربي مذكرات صادقة؟ وأترك للقارئ بعد الاطلاع على هذا القسم أن يصل إلى نتيجة يرتضيها. في هذا القسم وصف لأحوال إيران الشاه، وبعض الحكومات العربية، وسير شخصيات عربية وإيرانية وأجنبية، من أغزرها سيرة عالم الاجتماع الإيراني الكبير علي شريعتي، وبلديه عالم الاجتماع الآخر والمؤرخ إحسان نراغي، والمفكر الجزائري مالك بن نبي، والطبيب الكويتي أحمد الخطيب.

وفي (66) صفحة رصف المؤلف لنا فصلًا سادسًا في الكتاب تحت عنوان: بوح من الغرب، والحقيقة أن مستوى الصراحة الحرة المرتفع لدى الغرب تجعل البوح من نصيب غيرهم! ومن أمتع ما في هذا القسم التجوال مع سيرة الإعلامية “باربرا وولترز” التي عزمت على إثبات قدرة المرأة على النجاح إعلاميًا دون استعانة بالمفاتن والقدرة على الإغراء، ومن فرط تفوقها ونجاح برنامجها أصبح “نيكسون” وكيلًا يقنع الساسة بالظهور معها؛ لذلك تحدث للعالم عبر شاشتها زعماء مؤثرون مثل السادات و”بيجن” و”مائير” والشاه و”زمين” وغيرهم من أرباب السياسة والفكر والفن.

وفي قسمنا هذا تطواف نافع مع سيرة المؤرخ “برنارد لويس” الذي رشحه أهله في شبابه لامتهان المحاماة بسبب كثرة كلامه! و لايخلو هذا القسم من إلقاء نظرة على أفكار العدمية واليأس والداروينية وكيف سرت بين العرب وفي أوساطهم الثقافية، وفيه إسهاب ثري  للتعريف بالمعلمة الضخمة “قصة الحضارة” ومؤلفها المثقف الجلد “ول ديورانت”، ونظرة في مسيرة “جورج أورويل” الكاتب الإنجليزي الذي اتخذ لنفسه هذا الاسم القلمي المستعار كي يجنب عائلته الحرج الصادم من محتوى رواياته.

ثم نصل للقسم السابع والأخير وهو حكايات عن القراءة والكتابة في (52) صفحة، وأتصور أن هذا القسم يصلح أن يكون نواة لكتاب عربي جديد آسر عن الموضوع اللذيذ نفسه، أو حول السير والمذكرات؛ ذلك أن موضوعات القسم الأخير انقسمت بين القراءة والكتابة من جهة مع التركيز على تاريخ أمتنا في التأليف، كما بحث الأستاذ الهجين من جهة أخرى في موضوع شائق شائك حول قراءة الزعماء والساسة، وعن سبب الخوف من البوح عند كتابة المذكرات، مع لقطات من بطون كتب السير والمذكرات، ولن تطرف للقارئ عين وهو يطالع هذا القسم؛ بل الكتاب كله!

آمل ألّا يكون هذا هو آخر إنتاج مؤلفنا في هذا الحقل كما أشار في مقدمته؛ نظرًا لاهتمامه الكبير بعالم السير الماتع المكتوب منه والمرئي. وآمل أن ينتقي القارئ من مراجع الكتاب البالغ عددها إثنان وسبعون كتابًا ما يظن أنه بحاجة إليه بعد قراءة ما سطره المؤلف عنه، وسيجدها في الغالب من الكتب التي لا خسارة في قضاء الوقت معها، ولا ندم بدفع المال فيها. ومن حسن أني أكتب هذا المقال، عن كتاب غاص في مؤلفات كثيرة، لمثقف ذي صلة متينة بالكتاب قارئًا ومؤلفًا وناقدًا وبائعًا ومراجعًا، ونحن في يوم يصادف اليوم العالمي للكتاب، فاللهم اجعلنا من المنتفعين النافعين بالكتب والقراءة، غير خزايا ولا مفضوحين.

ahmalassaf@

الرياض- الأربعاء 25 من شهرِ شوال عام 1446

23 من شهر إبريل عام 2025م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)