كان الأمر صدفة محضة؛ إذ شرعت ببذل جهد لمتابعة تسجيل صاحب عزيز في قسم القانون بالجامعة السعودية الإلكترونية فقيل لي: ولم لا تدرس أنت؟! فعبرت الفكرة الجميلة مثل حلم خاطف يشبه غرارات ميعة الصبا، بيد أني عدت لرشدي، وقررت الاستخارة، واستشارة الوالدة -رحمها الله-. وبعد مباركتها بل وفرحها بالفكرة، مضيت متوكلًا على الله، وأصبحت طالبًا جامعيًا بعد أن غادرت مقاعد الدرس النظامي سنوات عددًا، ومن عجب أن صاحبي لم يكمل المشوار معي في الدراسة، والخيرة لكلينا خفية بيد أنها أكيدة.
أما لماذا اخترت القانون بالذات فلأسباب، منها أني أقرأ كثيرًا -نوعًا ما- في السياسة الشرعية والقانون وعلم الاجتماع والتاريخ السياسي، وأكتب أحيانًا فيها، حتى أحسن الظن بي بعض أصحاب الاختصاص وأدخلوني في دوائرهم، واستفدت ممن فيها دون أن يعلموا ألّا علاقة تخصصية لي مع هذه العلوم، ولم أخبرهم بذلك فقديمًا قيل: الصيت ولا الغنى! والحقيقة أني درجت على ترك التصحيح لمن يخطئ في كنيتي، أو يخلع عليّ ألقابًا لا أستحقها، والسبب أني بنفسي أعرف، وطبائع البشر لا تخفى، ورحم الله الرجل الحكيم الذي يُروى أنه قال لمن أسرف في مدحه، والممدوح يتهم المداح في صدقه: أنا أقلّ مما تزعم وأكثر مما في نفسك! وربما من أسباب الذهاب لهذا التخصص كثرة القانونيين حولي من أقارب وأصدقاء.
وقد بدأت الدراسة دون أن أسأل أحدًا عن أنظمة الجامعة، بل حتى من غير الدخول لموقعها لمعرفة ما ينبغي للطالب معرفته، وبحجة ضيق الوقت لم أحضر اللقاءات التعريفية الأولى، فضاعت عليّ فرصة اختصار دراسة اللغة الإنجليزية، وأجريت الاختبار المعياري متأخرًا، فنلت فيه درجة عالية، وبالتالي زال اسمي من قوائم طلبة الفصل التحضيري في هذه المادة لكن في آخر الفصل بما لا يمكن معه الاختصار، وإن ظللت أحضر مع الزملاء لسبب يخصني، وآخر استجابة لمقترح من أستاذ المادة. هذا الخطأ دفع بعض الزملاء لفكرة كتابة ملخص قصير للدارسين الجدد، وعسى أن يرى النور قريبًا، وأهم مقترح فيه أن يغوص الطالب في موقع الجامعة؛ فهو ثري، مفيد، واضح، متجدد.
ثم مضيت في الدراسة المقسمة على فصول تزيد وتنقص، واستفدت من جميع المواد المقررة في الخطة الدراسية المحكمة، على اختلاف في مستوى الإفادة حسب جدة المادة وتفاعلي معها، إضافة لكون بعض المقررات مركزية في التخصص، وبعضها تابع أو تفصيل لأساس، وفي كلٍّ نفع وبركات علمية. وكم تمنيت لو اختصرت المواد التحضيرية في مادة واحدة تشتمل على المهارات الأكاديمية والاتصال والحاسب والرياضيات– التي أحبها-، حتى تتسع الخطة لمواد تخصصية أخرى، أو لتكثيف مهارات اللغة والصياغة، فهي أساسية، والتأهيل لها في التعليم العام لا يكفي، وهذه الكلمة عن التفصيل تكفي!
والحق أقول؛ فإن الجامعة وفقت أيما توفيق في انتقاء طاقم القسم التدريسي العريق، واصطفاء تلكم الكفاءات المباركة؛ فمنهم من نشأ في أروقة الجامعات معيدًا فمحاضرًا ثمّ أستاذًا، وفيهم من تحول إليها من القضاء، أو النيابة العامة، أو المحاماة، أو الاستشارات. ومنهم من درس الشريعة والقانون معًا، أو اكتفى بواحد منهما مع تضلع في الثاني، وفيهم دارسون داخل المملكة وخارجها، وهم مزيج بديع من خريجي جامعات سعودية وعربية وعالمية متنوعة.
فأصبحت الهيئة التعليمية في قسمنا تجمع أجيالًا من العلم والخبرة، مع سمت ووقار، وحرص غالب على نفع الطلاب، وتحريك أذهانهم، وتثوير المسائل القانونية معهم، وتدارس كيفية التعاطي معها تفسيرًا وتحليلًا واستشارة، وفوق ذلك يراعي أشياخنا في الجامعة -أو أكثرهم- أن مجتمع الجامعة الطلابي خليط متنوع، وفيه الموظفون، والمتزوجون، والمكتهلون! وهذه المراعاة لا تخرم حقّ العلم، ولا جلالة قدره، ولا مقتضى الأمانة، وإنما هي في الإطار المعفو عنه، الذي ينفع ولا يضر، ويعين ولا يعيق، وييسر ولا يعسر.
ثمّ إني سررت في الجامعة بالتعرف إلى عدد كبير من الزملاء والزميلات الدارسين في جميع مناطق المملكة، سواء على مقاعد الدرس، أو في مجموعات الإعلام المتحرك الكثيرة عبر الواتساب والتليقرام، وجلّها للتعاون والتعارف، والنادر لا حكم له. ومما جعل لهذه الميزة قيمة مضافة أن الجامعة السعودية الإلكترونية، هي الجامعة الوحيدة التي أذن لها بفتح فروع في جميع مناطق المملكة -حفظها الله-، وهذه خصيصة نفاخر بها باقي الجامعات، ويضاف لها أن الجامعة استقبلت من يحملون شهادات من جامعات سعودية أخرى على تباين تخصصاتهم السابقة، وهو مالم يتح لغيرها من أخواتها، كما أنها تستقبل في الصيف الطلبة الراغبين بتسريع تخرجهم من الدارسين في الجامعات الأخرى، وبعضها قلاع علم قديمة عريقة.
ولقد كان من ثمار مزاملة هؤلاء الكرام، أن ازدادت المعارف والعلائق بالأجيال وثقافتهم، وأمزجتهم العامة، وألفاظهم الدارجة بينهم، وكانت فرصة ثمينة مواتية للتقارب معهم، والاستفادة العملية والعلمية المتبادلة، واقتباس جذوة من شعلة الشباب والنشاط والحيوية، على أني -أصدقكم القول- لا أرى نفسي إلّا من أسنانهم وأجيالهم مستلهمًا حكمة الكاتب عباس العقاد التي قسّم العمر فيها إلى ثلاثة أقسام: عمر رسمي، وعمر يظنه الناس، وعمر تؤمن به أنت، وهو أهمها!
كما نقلتني سنوات الجامعة الإلكترونية نقلة كبيرة في القراءة الإلكترونية والرقمية، وفي التعامل مع المصادر العلمية التي آمل أن تظل متاحة لنا حتى بعد التخرج، وكنت قبلها لا أكاد أقرأ قراءة إلكترونية، لكني بعدها عقدت علاقة منافع وثيقة الصلة راسخة العرى مع الجهاز اللوحي حتى سألني حبيب عنه مرة فقلت: لا أقايض بهذا “اللوح” الكريم الغزيرة منافعه شيئًا مهما كان!
علمًا أن الجامعة تعتمد على التقنية والتطبيقات والبرمجيات في منهجها التعليمي المقسوم إلى شطرين أحدهما يستوجب الحضور للجامعة، والتلقي مشافهة وحوارًا ونهلًا من ينابيع علم الأساتذة وجميل سمتهم، وأما الاختبارات فنؤديها حضوريًا في الأصل، وربما تجري الجامعة بعض اختبارات المنتصف إلكترونيًا عن بعد، وتستعين بناء على ذلك بتقنيات رقابة أشدّ علينا من محترفي الرقابة، وأدق في متابعة الهمس واللمس من أي شيء آخر، وأثقل على النفس من رقيب بين حبيبين! ولا غرو أني أفضل الاختبارات الحضورية عليها؛ كي لا أصبح موضعًا للتهمة، وفرارًا من غدرات التقنية التي تعالجها الجامعة بأنظمة فورية متقدمة.
وقد فتحت سنوات الدراسة في قسم القانون بالجامعة الإلكترونية الأفق أمامي أوسع مما مضى في القراءة والكتابة عن موضوعات قانونية مثل الكتابة القانونية، والصياغة القانونية بأنواعها، مع تدوين سير بعض رموز القانونيين، والتعريف بكتب قانونية، وكذلك تجريب البحث والتفكير القانوني، وتقديم الرأي والمقترح، وأخطأت ثم أخطأت وأصبت، لكني عقب ذلك -والحمدلله- تعلمت من الخطأ أزيد مما تعلمته من الصواب أحيانًا، كما ازددت قربًا من المكتبة الشرعية والقانونية، ومن معرفة المراجع فيها سواء من المدونات والكتب، أو من العلماء والأساتذة، أو من المواقع والمؤسسات، وستبقى مقررات الجامعة المتاحة إلكترونيًا، من المناهل العذاب التي لا غنى لنا عنها خاصة أنها تحدث دوريًا بناء على تجديد الأنظمة وتطويرها.
أخيرًا: ها نحن اليوم على وشك إنهاء المسيرة، وطوي تلك السنوات الجميلة في إهاب من البهاء لا ينسى، وقد لا تكون هذه هي الكتابة الوحيدة عنها. كم وددت لو كانت أمي -رحمها الله- على قيد الحياة لأرى بسمتها الأنيسة بهذه المناسبة مثلما رأيتها حينما شاورتها وأخبرتها بالقبول وبدء الدراسة. كم تمنيت لو أكمل صاحبي المشوار معي ففي بقائه باب من العبادة والبر فتح لي لكنه سرعان ما انغلق ومن الله العوض. وهنيئًا لجميع من تخرج في الجامعة أو سيتخرج فيها الآن أو لاحقًا، والثناء البالغ يساق بلا تزيد ولا منّة لمن عمل على فكرتها حتى انبثقت، ولمن شارك في مسيرتها التعليمية والإدارية والتقنية والمالية والأمنية والخدمية وأيًا كانت الثغرة التي يقف حارسًا أمينًا دونها؛ فاللهم اكتب لهم الأجور المضاعفة، وهب لهم ما يحبون وزيادة.
الرياض- الاحد 22 من شهرِ شوال عام 1446
20 من شهر إبريل عام 2025م