كتبت أكثر من ثلاثين مقالًا عن شهر رمضان المبارك جلّها محفوظ والحمدلله، والذي ضاع منها قليل وله قصة تروى لاحقًا. ما كنت أظن أني أستطيع مواصلة الكتابة إلى هذا الحد دون تكرار كبير. أكدت لي هذه التجربة أن التفكير والتأمل من أهم أدوات الكاتب، وأن حفز الذهن لشيء تجعله مستعدًا لالتقاط الفكرة ولو من شيء عابر كما جرى لي مع رمضان غير مرة. برهنت لي هذه المقالات على صحة مقولة أسلافنا: كم ترك الأول للآخر، وأن فعل شيء لا يتوقف على انعدام مثيله من سابق أو معاصر، فتكثير مساحات الخير مطلب كي نزاحم ونداحم، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، والحمدلله.
ثمّ إني في لحظة استماع لبرنامج إذاعي قرآني، خطر لي سؤال صيرته عنوانًا لهذا المقال؛ فلماذا نفرح بقدوم برمضان؟ ولماذا يظل الفرح باقٍ معنا إلى نهاية الشهر الجليل ولو بدرجات متفاوتة؟ بل لماذا يتسارع الفرح إلينا كلما تقارب الشهر، وعندما نتذكره ونستذكر أحداثه عقب نهايته وابتعاده؟ هذه الخصيصة الرمضانية الفريدة تسوقنا سوقًا إلى الفرح برمضان إن تذكرناه، وحين يقدم علينا، وعندما نعيشه، والحمدلله.
إننا نفرح بهذا الوافد العظيم لارتباط نزول القرآن الكريم في لياليه، وبنزول القرآن جاء الإسلام، وأرسل النبي الخاتم من سادات العرب، وبنزول القرآن حفظت لغتنا وصارت مقدسة، وكل هذا وقع في شهر رمضان الطيب، ولأجل ذلك كله نفرح به، ونتعبد بهذا الفرح، وهو فرح مأمور به، وهو من فضل الله ونعمه، وإنه لخير مما يجمعون، وإنه لسبب لرضى الرب الحكيم، وعسى أن يباهي بنا خالقنا ومولانا ملائكته حين نفرح بهذا الشهر وما فيه من خصائص دينية، ونتعبد لله بذلك رجاء القبول والمضاعفة في الآخرة، مع عمران القلب والنفس بالسكون والراحة والسرور في الدنيا، والحمدلله.
كما نفرح برمضان لما فيه من مضاعفة الأجور، وهي مضاعفة بأكثر من مقدار، وأجلّها ما يكون ليلة القدر؛ لأنها خير من ألف شهر، والرقم بعد الألف مفتوح إلى ما لايحيط بعلمه إلّا الله الكريم العليم الخبير. نفرح برمضان لأنه يقرب من الجنة بنعيمها، ويباعد عن النار ولهيبها. نفرح برمضان لأنه سنة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، وهو للأمة طريق للتقوى والقربات وليس إصرًا ولا عقوبة. ونفرح به لأنه يجعلنا على الحق أو مع أهله، ويجنبنا الدخول في الباطل أو مشاكلة أربابه. ونفرح برمضان لأنه من أسباب تكفير الذنوب والخطايا، وقبل ذلك تضييق سبل الآثام فيه أو هكذا ينبغي، ويفرحنا رمضان بتصفيد الشياطين، وتحزينهم مع إخوانهم من الإنس، وفي تكدير ذينك الفريقين فرح وسعادة، والحمدلله.
كذلك نفرح لما في رمضان من لمة واجتماع، ولأن الفرحة فيه حقيقية لا صورية، وعميقة تشمل الروح والجسد؛ فالصيام ينقي الجسد وينفع الصحة، ونحن فيه نفرح ولا نأثم؛ بل نكسب المزيد من الحسنات بهذا الفرح، وبما يقود إليه من أعمال وطاعات قلبية وبدنية ومالية. نفرح لأننا نتعود فيه على الصبر، ونقبض على لذة الانتظار، وبهجة الظفر. نفرح به لأنه يعيننا على أنفسنا، وعلى كبح شهواتها، وضبط تفاعلاتها، وتهذيب خطواتها، وتعليمها النظام، وتأكيد مرجعيتها، وقيادتها نحو السمو الروحي والخلقي. ونفرح برمضان لأنه مصدر سرور لفئات المجتمع؛ ففرحة الأطفال فيه كبيرة، وفرحة الفقراء لافتة، وفرحة التجار ظاهرة، وفرحة الأخيار بادية، وفرحة التوابين واضحة، وفرحة البيوت والمجتمعات لاتخفى، وفرحة ذوي المطالب الخاصة فيه منتظرة مأمولة، والحمدلله.
إننا نفرح برمضان الذي تزداد بركاته كلما مضى وتقدم، نفرح بصنوف العبادات، بالتصاقنا بالقرآن والدعاء، بكثرة التأله بالأسماء الحسنى، باغتنام عشره الأواخر وتحري ليلة القدر، برجاء القبول والغفران ومحو الزلات، وبذكريات انتصارات الأمة وسحق الباطل وإزهاقه. أيضًا نفرح بالعيد السعيد ويوم الجوائز بعده مباشرة. نفرح برمضان لأنه يعزز عراقة هذه الأمة في أركانها وشؤونها كافة، ونفرح به لأنه يغيض الأعادي فلا يزال على الأرض مع شدة المكر والبغي والنكث والكيد مسلمون ومؤمنون ومرابطون، يجمعهم حسن الظن والتفاؤل، وتوحدهم الأحكام والمواسم مثل رمضان الذي فيه وبه ولأجله نفرح ونفرح ونفرح، والحمدلله من قبل ومن بعد!
الرياض- الأربعاء 20 من شهرِ شعبان عام 1446
19 من شهر فبراير عام 2025م