لماذا الكتابة عن وزير بريطاني ارتحل عن الحياة منذ عشرين عامًا؟ الجواب عن السؤال سيرد ضمن محتوى هذا المقال بحول الله. قبل ذلك من المناسب التعريف المختصر بشخصية “روبن كوك” (1946-2005م)، وهو وزير وبرلماني وكاتب بريطاني، تولى غير منصب في الحكومة والبرلمان، من أهمها وزير الخارجية في حكومة “توني بلير”. عرف عن الوزير ممارسته لرياضة تسلّق الجبال، وشغفه بالخيول، ولا غرابة أن يحرص في مواقفه على ارتقاء المعالي، والتحلي بمكارم الفرسان.
تعهد “كوك” بممارسة العمل السياسي والدبلوماسي دون تخلٍّ عن المبادئ والأخلاق، وهو الأمر الذي جعله في مرمى سهام بعض مواطنيه وسواهم من بلاد أخرى لم تعجبهم مقترحاته المتسقة مع ما يراه حقًا وأقرب للمنطق. صحيح أن هذا الوزير خسر منصبه وبعض علاقاته؛ بيد أنه لم يفقد نفسه، ولم يعش مضطربًا بين قناعة في طرف، وممارسة في طرف آخر قصي، إذ صنع ما أملاه عليه التزامه الأخلاقي حتى وهو غارق في وحل السياسة، وسالك وعثاء الطريق منها وإليها!
لأجل ذلك ناصر “كوك” القضية الفلسطينية وحقوق أهلها بموجب التاريخ أو المنطق أو الرحمة البشرية على أقل تقدير، وهي الأبعاد الغائبة أو المغيبة عن جلّ ساسة الدول الغربية. كما وقف مع المعتدى عليهم في البلقان، إذ ساهم إسهامًا بارزًا في صناعة قرار داخل حلف شمال الأطلسي “النيتو” للتدخل العسكري من أجل وقف مذابح القوات الصربية في كوسوفا، ويرى “كوك” ذلك الأمر أعظم إنجاز له خلال حياته السياسية.
ولم يكتم رأيه بضرورة تدخل بلاده لإطفاء شرر النار بين الهند والباكستان حول كشمير، وتزامنت تصريحاته مع زيارة الملكة إليزابيث الثانية للبلدين حتى كادت أن تفسدها. ومناكفة له رشقه الهنود بوابل من اللوم، مثلما فعل اليهود تجاهه، لكنه لم يتراجع عن صلابة التمسك بالمبدأ حتى مع سطوة المخالف، وضراوة العداوة التي وجدها “كوك” من بعض إعلام بلاده حمية لإسرائيل، وظلم ذوي القربى أشد مضاضة!
ثمّ عندما تبعت بلاده -جريًا على عادتها المخزية- الرغبة الأمريكية باحتلال العراق رفض “كوك” هذه التبعية ونية العدوان من بلاده، وفنّد الشبه الأمريكية التي حاول “بلير” ترويجها في الحكومة والبرلمان. ومن لافت ما قاله الوزير وهو قول محزن: “لماذا اصبح من العاجل علينا أن نشن عملية مسلحة لنزع أسلحة نظام عسكري قائم منذ عشرين سنة ساهمنا نحن في إنشائه؟”. وقارن بوضوح محرج بين صورتين بقوله: “سمعت البعض يقول إن صدام منح إثني عشر عامًا لنزع أسلحته وإن صبرنا بدأ ينفد، ولكن يا سادة ثلاثون سنة مرت على قرار 242 الذي طلب من إسرائيل الانسحاب من الأراضي المحتلة ولم نسمع عن نفاد الصبر إزاء إصرار إسرائيل على عدم الالتزام بالقرار!”.
كما وصف حكومته بأنها لا تقبل اللوم ولا تعرف العار! ومما قاله في سياق رفض الحرب على العراق، ومناوئة حصاره وتجويع أهله: “أجد أنه من المحبط بشكل خاص أن يتم تحويل أي من جهود المساعدات التي نبذلها لتستخدم في تمويل احتلال العراق”! وبفطرة وعقل ورحمة أعلن رأيه: “بغض النظر عما قد يعتقده أي منا بشأن غزو العراق، فمن المؤكد أننا جميعًا نتفق على أن الفقراء في جميع أنحاء العالم لا ينبغي لهم أن يدفعوا ثمن العواقب”. صحيح أن هذه المجاهرة تحسب لصالح حرية إبداء الرأي في بلاده، لكنها تكشف عن نهم “الإنجليز” وشراهتهم بتكرار الاعتداء الذي ولغوا فيه ضد غيرهم في قرون مضت.
هذه الصرامة في الرأي الواضح، جعلت هذا الوزير، وهو البرلماني المتألق، يواصل المناظرة تلو الأخرى في مجالس بلاده المشهورة برزانتها، وبعدها عن التفاعل الزائد في الغالب. لكن “كوك” كسر هذه القاعدة البرلمانية بالوقار والتثاقل، ولم يطق الصبر على مجاراة بلاده لأمريكا في غزوها الآثم للعراق، وخاطب البرلمان معلنًا استقالته الاختيارية من منصبه وزيرًا للبرلمان قبل اشتعال الحرب بأيام معدودة. ومما حفظ عنه في خطابه التاريخي: “لا أستطيع قبول المسؤولية الجماعية عن قرار إلزام بريطانيا الآن بالعمل العسكري في العراق دون اتفاق دولي أو دعم داخلي”، وأعرب عن أسفه لأن “الحقيقة هي أنه يطلب من بريطانيا الشروع في حرب دون موافقة أي من الهيئات الدولية”.
وقد استقبل خطاب استقالة “كوك” المؤثر بتصفيق غير مسبوق من مجلس العموم بمن فيه من نواب، ووصفه مراسل هيئة الإذاعة البريطانية “أندرو مار” بأنه “بلا شك أحد أكثر خطابات الاستقالة فعالية في السياسة البريطانية الحديثة”، وذلك لأن هذا الخطاب قوبل بتصفيق متزايد من جميع أنحاء المجلس ومن القاعة العامة، على نحو غير معتاد بالنسبة للبرلمان البريطاني. وحسب ما كتبته مجلة الإيكونوميست في نعيها للوزير الراحل: ” كان هذا أول خطاب على الإطلاق يحظى بحفاوة بالغة في تاريخ المجلس”.
لقد كان “كوك” صادقًا مع نفسه، صريحًا مع شعبه، ناصحًا لبلاده وحكومتها، غير متشبث بمنصب أو مصلحة، ولا أدل على ذلك من تصريحاته المناهضة لأعمال إسرائيل في الإبادة والاستيطان والظلم، ومن يقوى على التفوه بكلمة تغضب “تل أبيب”؟! ويستبين منهجه من تعبيراته المباشرة -بغض النظر عن دقتها- ومنها وصفه لتنظيم القاعدة بأنه صنيعة غربية أساءت أجهزة الأمن والاستخبارات تقدير عواقبها؛ وهذا القول يشير إلى مدى العبث الغربي في أنحاء العالم بأكثر من وسيلة. وبناء على طريقة الوزير والبرلماني وتصريحاته، أثار “روبن كوك” بهذه السيرة التساؤل حول العلاقة بين الأخلاق والسياسة، وهل يمكن لهما الاجتماع في إنسان واحد؟!
أما على الصعيد الشخصي، فقد كان “كوك” يعتزم أن يصبح كاهنًا في كنيسة إسكتلندا، لكنه فقد إيمانه عندما اكتشف السياسة؛ فأصبح ملحدًا! ومع ذلك أقيمت له جنازة في كاتدرائية. وقد درس الأدب الإنجليزي وتخصص فيه، ومارس التعليم أول حياته. وبعد أن طلّق زوجته عقب تعيينه وزيرًا للخارجية كي يتزوج من عشيقته وسكرتيرته، لم تتوان طليقته عن اتهامه بالعربدة والسكر، ويبدو أنها تهمة نسائية عابرة للحدود جاهزة لأي زوج يقتحم العقبة ويتقحم ما تبغضه المرأة! ولست أنزه الرجل فالله به وبجنس الرجال أعلم. ولم تقف نشاطاته السياسية والفكرية بالكتابة والتعليق قبل المنصب وبعد الاستقالة، وله تاريخ حافل في هذا الباب دون أن يناقض قناعاته وما ترسخ في وجدانه.
وشاء الله أن تصيبه نوبة قلبية إبان تسلقه أحد التلال مع زوجه الجديدة في شهر أغسطس عام (2005م)، ومع أنه أسعف بمروحية إلّا أن القدر سبق ليفارق الحياة فراقًا طبيعيًا كما يبدو، وإن بقي الاحتمال لغيره، وكان عمره حينها دون الستين بسنة واحدة فقط. وفي شهر يناير عام (2007م)، نصب شاهد في مقبرة جرانج، بإدنبرة حيث دفن كوك، ويحمل الشاهد نقشًا كتب فيه: “قد لا أكون نجحت في وقف الحرب، لكنني ضمنت حق البرلمان في اتخاذ القرار بشأن الحرب”، وهي إشارة إلى معارضة “كوك” الصامدة لغزو العراق عام (2003م)، وهذه الكلمات من اختيار أرملته ونجليه من زواجه الأول كما يشاع.
إن عالم الغرب القوي فيه من الساسة والمؤثرين شرفاء أولوا ألباب، وأصحاب مبادئ، وفيهم بقية من فطرة، وإحساس بالرحمة والمشترك البشري، والحكمة تنادي بضرورة التواصل معهم، وتشجيعهم، حتى يزداد أمثالهم، فلن يؤثر على الرأي العام لبلادهم شيء أكثر من أقوال بني جلدتهم، ولو فعلنا ما فعلنا فلن تكون النتيجة مقاربة لما يحدثه هؤلاء الذين تساموا على السائد في ديارهم وثقافتهم، وصبروا أمام النصال التي ترمى عليهم حتى تكسرت نصال على نصال، فمن يحسن بحصرهم، ووصلهم، ونصرهم، فهم من القوة الناعمة الواجب استثمارها وتعظيمها؟
الرياض- السبت 11 من شهرِ رجب عام 1446
11 من شهر يناير عام 2025م
One Comment
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا المقال لفته جميله بخصوص رجل نُسي تماما في بلده وبين اهله
تعقيب بسيط
روبن كوك كان معارضا شديدا لبلير وسياساته وهدّد بكشف بعض الحقائق
ووفاته كانت اغتيالا محضا ولم تكن كما اشيع
وكتب البعض حول هذا وتحدى السلطات ان يعملوا له تشريح جنائي
المهم يبدو انه دفع حياته ثمنا لمواقفه