مواسم ومجتمع

البطالة تحت أقدام العمل

البطالة تحت أقدام العمل

كنت في جلسة أنيسة ذات شؤون وشجون، وقد ذكر غير واحد من الحاضرين قصصاً محزنة عن بطالة شبابنا في مقابل كثرة الوافدين الذين يعملون في وظائف وتيرية معتادة وليست تخصُّصية أو نادرة، وتعاقبوا على إيراد مشاهداتهم في مؤسسات حكومية ما بين وزارة وإدارة وأمانة وإمارة وديوان. ولم يكن غرض الحديث تعصُّباً ضدَّ الوافدين؛ بيد أنَّ الضَّغط الواقع على شباب البلد يحتِّم الخوض في هذا الموضوع دون هضم لحقوق إخواننا وأصدقائنا من الوافدين الذين قد لا يخالفوننا في أحقِّية شبابنا بديارنا.

وقد بذلت وزارة العمل جهوداً كبيرة لحل معضلة البطالة، إلا أنَّ النَّتائج لم تك على قدر البذل، وليت أنَّ الوزارة تملك من الجرأة ما يجعلها تدرس أسباب البطالة، وفشل بعض تجارب السَّعودة، وإحجام القطاع الخاص عن توظيف المواطنين في مقابل شرهه الواضح نحو الاستقدام واستجلاب الأباعد، ثمَّ تنشر دراستها على الملأ.

وحتى تسعى الوزارة إلى كشف الحقيقة ونشرها، فلا بدَّ من إجراءات تخفف من وطأة المشكلة وأليم وقعها على الدَّولة والأفراد. وأذكر أنَّ قراراً صدر سابقاً يقضي بالاستغناء عن المتعاقدين على وظائف يمكن شغلها بالمواطنين، ويبدو أنَّ تطبيق هذا القرار كان دون المأمول، فما أكثر الوافدين كنُّساخ وكتَّاب وإداريين ومدخلي بيانات وغيرها من الوظائف التي يستطيع شباب الثَّانوية فضلاً عن الجامعيين إتقانها، وقد رأيت في أحد مستشفياتنا الكبيرة آسيوياً مهمته كتابة أرقام المرضى على أنابيب العينات المسحوبة ووضعها في صندوق خاص، وأظنُّ القارئ الكريم يتفق معي في سهولة إحلال المواطن في هذه الوظيفة، وأنَّ أمثالها من الوظائف”المحتلة” كثير كثير.

وأيضا فلا شيء يمنع من إلزام الشَّركات الكبيرة بقصر الوظائف العامة على المواطنين، ومثلها الشَّركات المتعاقدة مع الحكومة بعقود ضخمة، والشَّركات الأجنبية التي تعمل في بلادنا وتستفيد من خيراتنا. كما أنَّ خلق الوظائف متيسر جداً من خلال المدن الاقتصادية والمشاريع العملاقة في شتى المجالات، ولا يحتاج الأمر أكثر من مسؤول قوي أمين ذي رؤية مستقبلية صائبة ويقدم مصالح البلد على غيرها من رغبات الأفراد وتوجهاتهم.

ومن خلق الوظائف سرعة بناء المنشآت الحكومية أيَّا كان حجمها، وتحمل بعض الوزارات كالتَّعليم والصِّحة والوزارات العسكرية إضافة إلى وزارة الموارد البشرية المنشطرة إلى عمل وخدمة مدنية عبء هذا الهمَّ حتى يجهزوا على أكثره، فإنَّ خدمة الأقربين من المروءة، ونفع المواطنين أمانة طالما كرَّرها ولاة الأمر، ومن الإثم مخالفة ولي الأمر في الطَّاعة، ومن العيب والخزي أن يكون البلد النَّفطي الأول في العالم بلد عطالة وبطالة وفيه ملايين الوافدين.

والبطالة شرُّ للرَّجل والمرأة؛ غير أنَّ الأخيرة قد تنشغل بالزَّواج لتصير ملكة في بيت بعلها، وأمَّاً مربية، ومديرة منزل مدَّبرة، ومع ذلك فللمرأة الحقُّ في العمل إذا لم تضع بيتها وحافظت على نفسها ومجتمعها من الشُّرور. وقد قرأت تصريحات متتابعة لنائب وزير العمل يصرخ فيها من البطالة النِّسائية، وأخرى لنائب وزير الخدمة المدنية يبشر بوظائف نسائية متاحة، ولا اعتراض لديَّ على ذلك مادام يحقق المصلحة المعتبرة، بيد أنِّي أخشي أن يكون حرص النَّائبين النَّشيطين متناغم مع هبَّة الرِّياح باتجاه شؤون نون النِّسوة؛ وهما ينوبان عن رجلين تشير بعض التَّوقعات إلى خروجهما من التَّأليف الوزاري القادم في ربيع الأول 1432، والوزارة أمنية لمن قارب ملامسة سقفها.

وبما أنَّنا في سياق توظيف المرأة فليت أنَّ وزير الصِّحة يأمر إدارة المشاريع في وزارته أن تعتني بتصميم المدن الطِّبية والمستشفيات الجديدة على أساس الفصل بين الجنسين قدر الإمكان ليكون عمل المرأة فيها مقبولاً ومأمونا، وهذا أمر ممكن ولو بالتَّدرج الحسن، ليغدو وزيرنا رائد فصل الجنسين بعد فصل التَّوائم. ولا أترك عمل النِّساء دون الإشارة إلى أنَّ إعادة النَّظر في نظام تقاعد المرأة سيتيح فرصاً وظيفية كثيرة، ويريح نسائنا اللائي ينشدن الرَّاحة بعد خروج للعمل جاوز خمسة عشر عاما، فهل من مصيخ؟

ومن البطالة المؤلمة حاجات ذوي الاحتياجات الخاصَّة للعمل والدَّخل المادي، وقد أحسنت وزارة العمل حين جعلت توظيف الواحد منهم يقابل توظيف أربعة من الأصِّحاء، ولبعض الوزارات الحكومية عناية بهذه الفئة الغالية علينا ولا بأس بالمزيد حتى لا يجتمع عليهم العجز مع الفقر والفراغ.

ومما يقلل من العمالة الوافدة، ويجعل السَّعودة منالاً سهل البلوغ ومثالاً واقعياً في أكثر المهن الاستفادة من المقيمين في مكة والمدينة من آسيا وأفريقيا، حيث صاروا كأهل البلد لطول مقامهم، والحيرة طاغية في التَّصرف معهم، فلم لا يستثمر المناسب منهم ويؤهل حرفياً ومهنياً ليحلَّ بديلاً مأموناً عن العمالة الغريبة في لغتها وعاداتها وربما دينها؟ ثم تمنح الجنسية لمن أثبت منهم التزامه ومحافظته على العمل ونظام البلد، وكم في ذلك من مكاسب اجتماعية واقتصادية وأمنية، وذات الشَّيء يمكن تكراره مع المؤهلين والمتعلمين منهم.

وأخيراً فإنَّ لدينا منظومة متكاملة للقضاء على البطالة أو تخفيفها، ولا يكلف ذلك أكثر من تعاون وتنسيق وتخطيط وتغليب للمصلحة العامة على غيرها، فمعاهد الإدارة والتَّقنية والصِّحة تدرب وتؤهل، وأنظمة العمل تحمي المواطنين من تسلط بعض الوافدين في القطاع الخاص لدرجة تنفير ابن البلد وتشريد مَنْ خلفه، ووزارة الموارد البشرية بشقيها تساعد الجاد من شبابنا ليحصل على عمل شريف لائق، أو تهيئ له فرصة عمل في دول الخليج ذات عائد مادي مناسب، ومَنْ لم تستطع خدمته فلا أقل من رعايته مالياً مادام غير مهمل ولا مفرِّط، وبذلك تنخفض نسبة البطالة، ويرتقي المجتمع بنضج شبابه وبناته، ويرتفع الولاء للبلد، ويسعد الشَّباب والشَّابات بالقدرة على بناء بيت الزَّوجية وهم في سنِّ الشَّباب لا الكهولة.

أحمد بن عبد المحسن العسّاف-الرِّياض

الخميس 03 من شهرِ شعبان عام 1431

ahmadalassaf@gmail.com

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)