قراءة وكتابة

اقتناص الفوائد وتدوينها

اقتناص الفوائد وتدوينها

يعيش الإنسان جلّ حياته بين استماع ومشاهدة وقراءة بمعناها الواسع، ولا يتوقف عنها إلّا حين ينام أو ما في حكمه. هذه الأعمال الحياتية الدائبة تفيد الموفق بما قد يفوت على غيره. هذه الفوائد تحتاج إلى من يقتنصها ويدونها دون الاكتفاء بوهم حفظها والركون إلى القدرة على استدعائها حال الحاجة إليها؛ فالحبر الشاحب أفضل من أقوى ذاكرة مثلما يقول الإنجليز. هذا الاقتناص والتدوين له مهارات وأدوات، من امتلكها فقد حاز الصيد الثمين ولا بد؛ ولو بعد حين.

إن مهارة تدوين الملاحظات هي طريقة لحفظ المعلومات المهمة بإيجاز، حتى يمكن الرجوع إليها بيسر. أما مهارة اقتناص الفوائد فهي التقاط الفائدة الأهم أو الأندر من بين كم كثير من المعلومات والإشارات والأفكار. بعض هذه الفوائد تكتب بماء الذهب، أو تكتب بماء العيون، وهي أندر من الكبريت الأحمر أو أغلى. من محاسن هاتين المهارتين أنهما يجلبان للمرء مهارات كثيرة مثلما سيتبين معنا، ولا غرو فهما من  المهارات العليا. قبل الحديث عن هذه المهارات من المهم الإشارة إلى أن التدوين واقتناص الفوائد مما تحدث عنه كثير من علماء المسلمين، أو طبقوه، والمكتبة العربية الإسلامية شاهد صدق على ذلك.

أولًا: لمن هذه المهارات؟:

الأصل أنها لكل أحد سواء أكان مثقفًا أم لا صلة له مباشرة بالثقافة. لكن أكثر من يستخدمها ويشعر بقيمتها هم:

  1. الباحثون وطلاب العلم.
  2. طلبة الجامعات والدراسات العليا.
  3. المهنيون: القانونيون/ الصحفيون/ الأطباء/ المتحدثون/…
  4. المشاركون في الاجتماعات البرلمانية والسياسية والإدارية.
  5. كتّاب التقارير.

ثانيًا: من فوائد إجادة مهارات الاقتناص والتدوين:

  1. حفظ العمر والوقت وصرف الزمن في المفيد.
  2. الحرص على صحبة العلماء وغيرهم من أهل الجدية والنفع؛ لأنهم مظنة الفوائد.
  3. الحفاظ على مستوى عال من التركيز خاصة مع كثرة المشتتات.
  4. زيادة القدرة على الحفظ والتذكر.
  5. رفع مهارات التفكير والتلخيص، والارتقاء بمستوى الفهم والإدراك.
  6. تمتين مهارة الكتابة ومهارة إعادة الصياغة.
  7. إتقان مهارات التقسيم والفرز وجمع المتشابه وتفريق المختلف.
  8. بناء القدرة على صنع السؤال وعلى النقد وهما قدرتان مهمتان للغاية؛ فالمستمع والمحاور الذكي هو من يحلب المعلومة حلبًا، ويعصرها عصرًا، بالسؤال والاستزادة والتعقيب والاستيضاح.
  9. استمرار التعلم فلا يشيخ الذهن، ولا تهرم المعلومات.
  10. تجويد الحديث الشخصي وتزيينه وتغزير فوائده.
  11. تعين على التأليف في موضوع ما، أو الجمع في كناش أو مجالس أو منتخبات.
  12. تعين على القراءة وتجعلها لذيذة عظيمة الفائدة، ويصبح للكتاب قيمة أكبر إذا كثرت الهوامش على أطرافه؛ فالكتاب إذا أظلم أضاء! أظلم أي كتب على هوامشه البيض بالحبر الغامق.
  13. تعين على صناعة الأسلوب وعلى امتلاك مهارات التمحيص والتمييز وتحديد الأهم.
  14. تمنحك فرصة ثمينه لكتابة ملاحظاتك على التدوين والفوائد.
  15. فيها مادة أولية نافعة لصناعة المحتوى.
  16. وسيلة مضمونة لحفظ الأفكار والخواطر والذكريات واليوميات.
  17. التعويد على الارتجال وقوة القلب على الخطابة والحوار.
  18. يحتاج التدوين إلى سرعة المعالجة للمعلومة، وهذه السرعة لا بد لها من إصغاء، وتفكير، وتلخيص، وكتابة. هذه المهارات الأربعة لا مناص لمن شاء إجادة التدوين واقتناص الفوائد من تحسينها. كيف يحسنها؟ الجواب: يمارسها باستمرار/ يقرأ ويستمع ويشاهد ويتابع عنها بتكرار/ يحاور ويناقش فيها.

ثالثًا: قبل اقتناص الفوائد وتدوينها:

  1. الاستعداد الذهني: كل موقف أو مجلس أو محاضرة أو ديوانية ستخرج منها بفائدة ولا بد؛ خاصة إذا قرأت في موضوع اللقاء من قبل، ودرست شخصيات أطرافه، وتوقد ذهنك خلاله.
  2. هذا الاستعداد المسبق سينفي الملل، وربما يجعلك أحد سادات المجلس إذا فتح باب النقاش.
  3. إعطاء اللقاء حقه كما يعطى للطريق حقه؛ فلا تنشغل بجهاز أو حديث جانبي أو مطالعة شيء لا يفيد.
  4. ضرورة وجود أدوات التدوين معك دومًا. في السابق كانت هذه الأدوات هي: القلم والورق وآلة التسجيل. الآن يغني عنها كلها جهاز واحد. بالتالي يكون الأصل أنك على أهبة الاستعداد المادي دومًا. لا ينغص عليك إلّا نقص شحن الجهاز، ولهذا الإشكال حلول بوجود شاحن إضافي أو أسلاك الشحن. قد يزعجك ارتباط الجهاز بالانترنت وبتوالي وصول التنبيهات. الحل يكون بقطع الإرسال كلية، أو قطع الانترنت، أو حجب التنبيهات. يمكن استعمال أجهزة تحاكي الورق الأصلي، وليس فيها تطبيقات تسرق الانتباه.
  5. دراسة طبيعة الشخصية الأهم والمتحدثين في اللقاء قدر المستطاع. هذا سيختصر عليك الوقت؛ لأنك ستعرف موضوعات عنايتهم، وطرائق حديثهم، ومناهجهم في البحث والفكر، مما يسهل عليك مهمة الاقتناص والتدوين، ويجعلك تتحاشى إغضابهم، كما حدث لأحد مرتادي مجلس العلامة محمود محمد شاكر -رحمه الله- حينما سأله عن جهود المستشرقين في خدمة علوم العربية.

رابعًا: من مهارات التدوين واقتناص الفوائد:

  1. هذه المهارات عدة أنواع هي: التدوين. التسجيل. التلخيص. التصوير. الرسم. كتابة الانطباع.
  2. من الضروري التمييز بين ما قاله المتحدث، وما فهمته أنت، وما قاله الآخرون.
  3. تحديد التاريخ والمكان والمناسبة وأسماء الحضور إن أمكن حصرهم، أو طبيعتهم والصفة الجامعة لهم إن كانوا كثرة.
  4. التدوين ليس كتابة كل كلمة بل كتابة المهم وربما المعنى.
  5. من طرق التدوين الجيدة:
  • كتابة أفكار رئيسة وتحتها ما يتبعها.
  • الربط بين المعلومات التي ترد في أوقات مختلفة بسبب التكرار أو نسيان المتحدث أو مجريات الحوار.
  • استعمال السؤال والجواب.
  • الإفادة ممن حضر اللقاء لإكمال النقص وسّد ثغرات الرواية أو الفهم.
  • استخدام الخرائط الذهنية وهذه مهارة سهلة وتعين عليها تطبيقات كثيرة وهي تحصر الموضوعات الكبيرة في صورة واحدة تمكن من التذكر. مناسبة حال قراءة الكتب وسماع المحاضرات المنظمة أكثر من الأحاديث المجلسية أو العفوية.
  • استخدم الجمل القصيرة ذات الكلمات الأساسية.
  • استعن بالعناوين الرئيسية والفرعية والترقيم لبناء الملاحظات بطريقة منظمة وواضحة.
  • استخدم الألوان لترميز الملاحظات وتحديد النقاط المهمة والعناوين الرئيسية.
  • استعمل الأشكال الخاصة بك كالخط أو النجمة لتعيين التعريفات أو المعلومات الهامة.
  • استفد من رسوم البيانات والجداول وبعض البرامج مثل إكسل لحصر أكبر كمية من المعلومات.
  • الإفادة من التقنيات الخاصة بالتدوين واقتناص الفوائد مثل تقنية كورنيل لتدوين الملاحظات، وهي تقنية منظمة تقوم على تقسيم الورقة إلى عدة أقسام منعًا للتداخل بين حديث المتكلم وتعليقات غيره.
  1. وضع اختصارات لتيسير التدوين وتسريعه. من المهم وضع مفتاح لهذه الاختصارات أسفل كل ورقة حتى تُفهم بعد مدة ولا تستغلق. مثل كلمة “الجامعة” بدلًا من الجامعة السعودية الإلكترونية، وكلمة “تيمية” بدلًا من شيخ الإسلام ابن تيمية. مما يفيد أيضًا استعمال بعض الرموز مثل = + وغيرها.
  2. إعادة صياغة الفوائد بما يجعلها أخصر مع التنبيه لذلك منعًا للخلط بين نص المتحدث وفهم المدون.  
  3. الجمل التي تنقل كما هي توضع بين أقواس الاقتباس مع الإحالة على صاحبها.
  4. التفطن لما قيل ولما لم يقل. هذا يتأتى بفن التقاط الفكرة من بين أكوام الحديث؛ فبعضهم يتعمد الإيهام أو الترميز أو التعريض، أو مبتلى بالتطويل والدوران. بعض كبار السن ينسى فيتشعب، والتشعب والاسترسال عند آخرين مهارة حديث أو كتابة كما نجده لدى الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله.
  5. كتابة الملاحظات بأسلوبك وصياغتك بحيث تسهل عليك الفهم والمراجعة فيما بعد.
  6. الحرص على المعلومات التي يتعذر وجودها في مكان آخر أو يصعب الإدلاء بها في مناسبة ثانية.
  7. كتابة أسئلة الآخرين وتعليقاتهم وما دار بعدها.
  8. القرب من المتحدث لضمان الاستماع والفهم خاصة مع انخفاض صوت المتحدث، أو كثرة الصوارف في الصفوف الخلفية. يتأكد هذا عند الطلبة في قاعات الدرس.
  9. رصد حركة الجسد نبرة الصوت للمتحدث لما فيها من دلالة وسمت.
  10. العناية بالخلاصات التي تختم بها الكلمات والجلسات.
  11. ملاحظة اهتمام المتحدث وتفاعله وغضبه وسروره حين تطرح مسألة أو يذكر إنسان.
  12. يمكن مراجعة المتحدث في بعض ما أشكل فربما لا تقابله مرة أخرى.

خامسًا: ماذا بعد القنص والتدوين:

  1. راجعها وحدك ثم راجعها كلها أو بعضها مع ثقاتك من الحاضرين أو حتى مع المتحدث المستفاد منه إن أمكن.
  2. حفظ المدونات بأكثر من وسيلة ورقيًا وإلكترونيًا وسحابيًا وبإرسالها للبريد الإلكتروني.
  3. وضع ملف خاص لمدوناتك مع تصنيفها وكتابة عنوان واضح لكل تدوينة كي يسهل البحث عنها.
  4. استخدمها في الحديث والكتابة. طعم بها طرحك. وانسب منها ما يجب نسبته إلى قائله فهذه أمانة.
  5. اجعلها سبيلًا لغيرها بتطوير المادة والبحث فيها والسؤال عنها والمتابعة المعرفية حولها.

سادسًا: أوقات يصعب فيها التدوين:

  1. الاستماع لخطبة الجمعة.
  2. قيادة السيارة أو ما في حكمها.
  3. رفض المتحدث. والرفض على نوعين. إما لأجل التركيز أو لأجل المنع ذاته.
  4. مراعاة واجب الوقت، ففرق الإنقاذ ليس لديها فرصة للتدوين مثلًا إلّا بعد الانتهاء من مهمتهم.

سابعًا: أفكار متفرقة:

  1. يوجد تطبيقات نافعة جدًا ومريحة في هذا الباب.
  2. النجاح فيهما يحتاج إلى الصبر والمواصلة والفضول ومعرفة الأولويات والتواضع.
  3. من النافع لك النشر على المنصات؛ فلا تكن جماعًا فقط. هذه التدوينات لابد أن تنشر على الملأ.
  4. إذا وجدت فائدة في غير مظانها فدونها في مظانها. مثلًا وجدت فائدة تاريخية في كتاب نحو، فتشير لهذه الفائدة على هامش كتاب تاريخي يعتني بها.
  5. بعد الفراغ من التدوين والاقتناص أعد تحرير ما كتبته حتى يكون في صورة مناسبة مكتملة.
  6. درب نفسك على مهارة الاقتناص والتدوين على اختلاف المتحدثين والمدربين وتباين طرقهم في الشرح والعرض.
  7. وازن بين الإصغاء والفهم وبين الكتابة، ويمكن بعد التأكد من فهم الكلام وشروع المتحدث في الإسهاب والتكرار أن تكتب المختصر دون أن يضيع عليك شيء ثمين.
  8. لا تهمل الإشارات وما بين السطور شريطة ألّا تطغى على الأصل؛ فالتعمق في منطقة الفراغ قد يقود إلى متاهة.
  9. الذكاء الاصطناعي معين مفيد دون تسليم له أو اكتفاء به.

إن التدوين واقتناص الفوائد عمل بشري قديم، ولأفذاذ أمتنا فيه القدح المعلّى؛ إذ روي عن بعض علماء الإسلام الكبار كالإمام البخاري -رحمه الله- أن يستيقظ من النوم للتدوين والكتابة عدة مرات في الليلة الواحدة، كما ورد عنهم اصطحاب المحبرة والورق في كل وقت، والحث على ذلك، فلا تكن همتنا أدنى منهم؛ ولتحقيق هذه الغاية النبيلة عقد نادي الاقتصاد الإسلامي بكلية الشريعة في جامعة الكويت هذا اللقاء ظهيرة يوم الأحد الثالث من شهر ربيع الآخر عام 1446، والله ينفع به السامع والمتكلم والقارئ.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 04 من شهر ربيع الآخر عام 1446

07 من شهر أكتوبر عام 2024م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)