عرض كتاب قراءة وكتابة لغة وأدب

موافقات بين الشعر الفصيح والنبطي

موافقات بين الشعر الفصيح والنبطي

الثقافة الشفهية قوة تضاهي التدوين، بل ربما تتفوق عليه بصعوبة الخلاص التام منها. من هذا الباب حافظت كثير من القبائل والشعوب والأمم على موروثها حتى لو تعرضوا لإبادات عنيفة كما نقرأ في قديم التاريخ وحديثه. من فضل الله على حضارتنا وثقافتنا أن السماع والتلقي والمشافهة والرواية أساسية فيها، وقد فتح الله عليها في علوم الرواية والإسناد مالم تسبق إليه من قبل فيما أحسب.

أقول ذلك تقدمة بين يدي كتاب حافل بالشواهد التي نقلت إلينا عبر الصدور من غابر الأزمان قبل أن تحفظ في المسطور والكتب. في هذا الكتاب الأنيق سبق واجتهاد وتوفيق. إن التوفيق للمبتكرات فضل من الله يهبه لمن يشاء. عنوان هذا الكتاب: ‏الموافقات بين الشعر الفصيح والنبطي، جمعها وعلق عليها: نواف بن محمد بن عبدالله الرشيد، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1446=2024م)، والطباعة جميلة مريحة.

بلغ عدد صفحات هذا الكتاب (360) صفحة. في هذا العدد موافقة لطيفة؛ فليس ببعيد أن المؤلف المثقف قد أطلّ على الشعر فصيحه وشعبيه عبر ثلاثمئة وستين درجة حتى أحاط بأكثر زواياه. ويتكون كتابنا الجديد من المقدمة ثمّ دراسات سابقة ليس عن الموضوع نفسه، وإنما تطرقت إليه ضمن موضوع آخر. عقب ذلك يقدم المؤلف كتابه في أبواب هي: الغزل، والشكوى والعتاب والاعتذار، والأطلال، والمدح، والهجاء، والأخلاق، والرثاء، والفخر، والزهد، والحكمة، والصداقة، والأنفة، والآداب، والوصف، فمتفرقات تتلوها المراجع، وفهرسان أحدهما للشعراء والآخر للموضوعات.

أما المؤلف فهو الشيخ د.نواف بن محمد العبدالله الرشيد، الذي يصرم الأوقات مع الكتاب والقراءة، وينشئ الأسفار لمقابلة الأشياخ والأدباء، وزيارة المكتبات، والوقوف على المخطوطات. وإذا خلا فخلوته مع المكتبة إن في الليل أو النهار، ويا لها من خلوة أنيسة. وبعد ذلك فهو نجل مؤلف وقارئ جلد ذي رأي وبصر بالتاريخ والوقائع، وله رأيه في الكتب والأشخاص والأنساب. كما أن المؤلف سليل أسرة عريقة معروفة في التاريخ والفروسية والإمارة والشعر، ولها مكارم ومحاسن لا تخفى ولا تنكر.

‏ذكر المؤلف في المقدمة باختصار أهمية الشعر ومرجعيته الأدبية والتاريخية وآثاره التربوية والعلمية. من ذلك قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “نِعمَ ما تعلمته العرب الأبيات من الشعر يقدمها الرجل أمام حاجته”، وطلب عبد الملك بن مروان من مؤدب أولاده بقوله:”علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا”. ثم أشار الرشيد إلى أنه كثيرًا ما يتوارد الشعراء على ذكر معني فيرددونه، وقد يكون هذا التوارد دون أن يسمع أحدهما الآخر، بل ربما فصل بينهما الزمان بتطاول والمكان بمفاوز، لذا قال المتنبي: “الشعر جادة وربما وقع حافر على حافر”.

ولا يمكن القطع بأن الذي سبق للمعنى قد اخترعه، أو أن المعنى حكر عليه. قال الجاحظ: “نظرنا في الشعر القديم والمحدث فوجدنا المعاني تقلّب ويؤخذ بعضها من بعض”. لأجل ذلك جزم القاضي الجرجاني أن التكرار حاصل دون سابق معرفة، وختم بقوله الحكيم المنصف:”أحظر على نفسي ولا أرى لغيري بتّ الحكم على شاعر بالسرقة”. إن هذا الباب مزلة أقدام، وكم مروءة خرمت فيه، وكم من أمانة ضاعت على عتباته.

وقد علل بعض الباحثين والنقاد المعاصرين هذا التشابه وأرجعوه إلى البيئة العربية التي يستلهم منها الشعراء في قديم الزمان وحديثه، وزاد بعضهم في الكيل حين وصفها بالفقر! الذي يبدو أن البيئة الواحدة سبب في تشابه المعالجات والأوصاف وبعض المعاني، أما جلّ المعاني فهي مشتركات بشرية تختلف طرق بيانها والدلالة عليها. يضاف لذلك أن وحدة اللغة تقرب المعاني، وتيسر الاقتباس. ويمكن القياس على الأمثال والحكم التي نجد معانيها لدى الحضارات والثقافات المتباينة مع صعوبة النقل منها خاصة في قديم الزمان. هذا الرأي لا ينفي البتة وجود الاختلافات، لكن مع الإيمان بوجودها فما أكثر القواسم.

من إشارات مؤلفنا النهم البصير حديثه ونقله عن موضوع السرقة الذي تباينت فيه الآراء بين الحدة والشدة أو العذر والتسامح. هذا الموضوع الحرج الذي يصعب الجزم به. بعض الأفكار والمعاني مشاعة وليست من المبتكرات حتى يدعى سرقتها. بل حتى تلك المبتكرات قد يعسر الجزم بنسبتها لقائل غير مسبوق عليها كما أشار المؤلف الموفق. الخلاصة النهائية هي أن جلّ الشعراء يدورون حول معان واحدة أو متقاربة، وهذه “الدندنة” سمة عامة في علوم كثيرة. ويبقى وصف عنترة للذباب الذي أجاد في وصفه هو السالم من التكرار حتى الآن، إذ تحامى معناه جميع الشعراء.

‏كذلك من لفتات الكتاب التنبيه إلى أن وصف الشعر بالنبطي لا علاقة له بالأنباط، غاية ما هنالك أن هشعر عربي ينتمي لصحراء الجزيرة العربية من قرون سالفة، وقد جانب اللغة العربية الفصحى مجانبة يسيرة؛ فمن هذا الباب شابه النبط الذين لا يحسنون العربية. على أن هذه المجانبة للفصحى ليست تامة، وفي كثير من الشعر الشعبي تقارب من الفصيح بتعديل يسير أو بدون. تحدث المؤلف عن ذلك ونقل عن آخرين من الأدباء والند والشعراء مثل الأديب عبدالله بن خميس، والأستاذ شفيق الكمالي والدكتور سعد الصويان.

بزغت فكرة هذا الكتاب النفيس إبان قراءة المؤلف؛ إذ لفتت انتباهه هذه الموافقات، ولا غرو فقد نشأ الشعراء القدامى ومن بعدهم في بيئة واحدة، وحكمتهم تقريبًا مبادئ متقاربة، وصادفوا الأحوال ذاتها. جاء التشابه في الشعر وبين الشعراء في المعنى، وبناء القصيدة، وخصائصها، وشكلها الفني، وبعض بحور الشعر، وبعض أبواب البلاغة، والمفردات اللغوية؛ حتى أن الشعر النبطي حافظ على سمات الشعر الجاهلي. هذا التشابه ليس لدرجة التطابق؛ فبعض المعاني وجدت في شعر وفقدت في الآخر.

ولأن مؤلفنا وهو الخبير بالكتب لم يقف على كتاب مفرد في هذا الموضوع، وإن سبقه آخرون نصّ عليهم واحدًا واحدًا من باب الأمانة العلمية، بيد أن سبقهم جزئي محدود ضمن كتاب يدرس موضوعات لا علاقة لها بفكرة كتابنا هذا. لذلك جمع الرشيد في هذا المؤلف الفريد ثلاثمئة موافقة، ولا يزعم أنه أتى عليها كلها، ولعلها أن تكتمل في طابعات قادمة، ويستدرك الفوات بما يفتح الله تعالى عليه به، أو يصله من جمهرة القراء. هذه الموافقات تتفاوت في قوتها؛ فمرة يكون الفصيح أقوى وهو الأغلب، وقد يتفوق النبطي أحيانًا.

من الأمثلة التي أوردها المؤلف في مقدمته قول مجنون ليلى ويقابله قول نورة الحوشان:

جننا بليلى وهي جنت بغيرنا  وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
اللي يبينا عيّت النفس تبغيه  واللي نبي عجز البخت لا يجيبه

منها كذلك قول ظافر العمري ويقابله قول عبدالله الطلحي:

لا تزرع الشوك في أرض تمر بها  فربما عدت فيها حافي القدم
والدرب خله سمح، لا تزرعه شوك  يمكن يجيك يوم وتمر حافي

وقول بكر بن النطاح الذي يقابله قول محمد العبدالله القاضي:

إني رأيتك في نومي تعانقني  كما تعانق لام الكاتب الألفا
فكم امسيت من بين الترايب  جضيع له كما ألف بلام

كذلك قول أشجع السلمي الذي قابله بقول محمد بن فطيس المري:

فها أنت تبكي وهم جيرة  فكيف تكون إذا ودعوا
لا تحسب إن دمعي نزل دون سبة 

ابكي من الفرقا وهي ما بعد جات

 

الشيء الأكيد أن رواية الشعر ونشره مفيد للغاية، وأن اللغة العربية بارعة في هذا الحقل أيما براعة. في هذه الرواية لغة وتاريخ وحضارة وذكريات. فيه معان شريفة عظيمة تكاد أن تنطمس تحت العدوان على الفضائل وشيوع الميوعة والتفاهة. فيه إعانة للكاتب والمتحدث كي يجد بغيته من الشواهد التي يزين بها مادته. فيها انتقاء يدل على المنتقي وما وهبه الله من كمالات ومحامد. إن مثل هذا الكتاب يربط بين نوعين من الشعر طالما كانت النفرة بينهما هي الأصل، وهي نفرة لا تخلو من اصطناع وعبث. أيها القارئ العزيز: استمتع بالشعر الذي يطربك وتستلذ بسماعه. هذا الكتاب سيكون خير سمير وأنيس ونديم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الجمعة  غرة شهر ربيع الآخر عام 1446

04 من شهر أكتوبر عام 2024م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. عرض أنيق كعادتك أبا مالك.
    “المكتبة في الليل” مثقف جميل، مريح للنفس، تنساب جمله غاية في الحسن واللطف، ولاشك أن كتابه قطعة من شخصيته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)