سؤال عن طريقة لإتقان لغة أجنبية؟
وصلتني رسالة على الواتساب من صديق طال عهدي به، ففرحت بالمرسل والرسالة. إن طول العهد بالناس لا يعني بالضرورة الجفوة، ولا يقتضي التواصل الكثيف قوة الصلة أو المحبة، فكثرة الصوارف تقطع الوصل المادي وإن بقي المعنوي منه عاليًا. المهم أنه بعد السلام وبث التحية والشوق، سأل عن كيفية إتقان اللغة الإنجليزية؛ لأن قريبًا له يحتاج لتعلّم هذه اللغة في مستهل حياته الوظيفية الجديدة. إن إجادة لغة ثانية وثالثة تضيف للإنسان ذي المقدرة والموهبة عقلًا وتجارب ثرية، وترفع من قدره وقدراته، وتزيد من استحقاقه المادي، لكنها بحدّ ذاتها قد لا تقدّم ولا تؤخر.
أجبت الصاحب القديم بالترحاب وتبادل المشاعر الصادقة بيننا -بإذن الله-، ثمّ أنبأته بأنني غير خبير في هذا الباب، وليس لي فيه قراءات كثيرة، ولا عناية تؤهل للفتوى فيه والاستشارة. لكني أردفت بأن اكتساب لغة أجنبية يحتاج إلى صدق الجدية وقوة العزيمة قبل أي شيء، فهي تمامًا مثل اكتساب أيّ علم أو مهارة. عقب ذلك شرعت أسرد له تجارب عدد من الناس الذين أجادوا لغة أجنبية، وأخبرته بأني سمعتها من أصحابها، أو من آخرين قريبين منهم، ولن أذكرها بناء على ترتيب وأولوية، إنما حسبما ترد متداعية من محفوظاتي. هذه التجارب الناجحة هي:
- تعلّم اللغة من قنوات اليوتيوب المجانية أو من منصات الاستماع المجانية كذلك. قال لي صاحب التجربة: تعلّم كبار أبنائي اللغة الإنجليزية من مدارسهم الأجنبية، بينما تعلّم الأبناء الصغار من تلك القنوات والمنصات، والصغار أبرع وأقوى دون أن أتكلّف مزيدًا من المال. مما يحسن بي اطلاعكم عليه أن صغار أولاده قد ظفروا بالالتحاق في حلقات تحفيظ القرآن والدور النسائية، خلافًا للكبار.
- إتقان اللغة بالتلقي المباشر عن التطبيقات المدفوعة، وهي كثيرة جدًا، وبعضها تفتح المجال لتجريب ساعات مجانية تشبه الطعم الجاذب أو الطارد. في بعضها يحدد لكل دارس معلم أو معلمة، فيختص بالدارس، ويحددان الوقت الملائم لهما معًا كل أسبوع. سمعت من اثنين لا يعرفان بعضهما أن ابنة كل واحد منهم أتقنت اللغة الإنجليزية إلى مستوى متقدم بواسطة هذه التطبيقات، وإحداهما بدأت الدراسة وهي طفلة، والأخرى شابة على مشارف الجامعة، وأشار ناقل التجربة الثانية إلى أن الطالبة قلبت اتجاه مكتبها في غرفتها ليواجه الجدار فلا تنشغل بداخل أو مار. بالمناسبة يقال إن المرأة أسرع في تعلّم اللغة من الرجل، ولم أتعمق في بحث هذه المسألة، فليست من شأني، ولا صراع في ذهني بين الجنسين ألبتة، وقد وقفت على أحوال رجال ونساء يتقنون سبع لغات وأكثر.
- قال لي صديق عزيز: درس زميل لنا في إحدى الدول الأجنبية عدة شهور فلم يفلح في إجادة اللغة حتى لكأنه لم يدرس حرفًا منها. يضيف الصديق: التقيت بهذا الزميل بعد أزيد من سنة، وعندما احتجنا للحديث مع آخرين باللغة الأجنبية انطلق كالسيل المتحدر لا يتلعثم ولا يقف! فسألته عن السر وراء هذه الفصاحة، ولم يحر جوابًا إذ أعلمني بأنه درس بضعة شهور متوالية في معهد لتعليم اللغة بالرياض حتى لانت له واستقادت.
- حدثني صديق -شفاه الله- أنه حينما تخرج في جامعته بإحدى دول الخليج، لم يكن يعرف من الإنجليزية إلّا بضع كلمات، وعندما التحق بشركة كبرى للعمل وضعوه في مكتب بارد، لكنه رفض الكسل والسكون، واختار أن يعمل في المواقع والمستودعات مع عمالة أجنبية على أنه واحد منهم، حتى أخذ عنهم اللغة، وأصبحت تجري على لسانه بسهولة. حقًا إن المعايشة اليقظة إحدى طرق تعلّم اللغة الأجنبية وغيرها من المغانم.
- سمعت عن رجل درس في المعاهد العلمية، لكنه استطاع إتقان الإنجليزية والإلمام بعدة لغات عالمية أخرى، من خلال حفظ الكلمات من المعاجم، واستخدامها مع الأجانب الموجودين بكثرة في منطقته الطرفية التي يوجد فيها قاعدة عسكرية، وحركة تجارية. إن حفظ الكلمات يوميًا، واستعمالها، مما يثبت اللغة الأجنبية، ويزيد في حصيلتها، خاصة لمن كانت لغته الأساسية متينة مثل طلبة المعاهد العلمية والدينية.
- روى لي زميل عن أحد الأثرياء الكبار أنه أراد تعلّم اللغة الإنجليزية دون أن يلتزم بفصل دراسي وجدول محاضرات، فذهب إلى إحدى بلاد المملكة المتحدة، واستقدم منها مدرسًا خبيرًا بهذا الفن، واشترط عليه أن يكون رفيقه في كل لحظة. وفعلًا أصبح هذا الأجنبي ظلًا للثري الذي يريد اكتساب اللغة، ويذهب معه أينما حل داخل البلاد أو خارجها، حتى أنه ذهب معه للبر، وفي الطريق للمناسبات والعمل، ولم ينقطعا عن بعضهما إلّا مع ذهاب المتعلّم إلى مكة. بعد سنة صار رجل الأعمال يجري تعاملاته الأجنبية بنفسه، ولا يحتاج إلى ترجمان، وهذه الاستقلالية مهمة لمن يمارس أعمالًا مهمة مع الأجانب، وقد سمعت بأن الشيخ الفقيه محمد بن عثيمين- رحمه الله- ألقى محاضرة وترجمها مترجم، وفيما بعد تمنى الشيخ لو كان يجيد الإنجليزية كي لا يلجأ لمترجم قد تقصر معانيه عن المراد أو تزيد.
- من التجارب الحسنة لمن شاء إتقان اللغة، مداومة قراءة صحيفة محلية أجنبية، والاستماع لإذاعة محلية أجنبية، فالأخبار غالبها معروف متداول، بيد أنها تكتب أو تذاع بلغة أخرى، مما يجعل الكلمات والتعابير مألوفة لدى المتلقى الذكي الذي حضر قلبه وألقى سمعه وتصلبت إرادته.
- أطرف ما سمعت في هذا الباب، أن أمريكية شابة مسلمة حديثًا، تزوجت من رجل بعد طلاقها، وكان الرجل لا يعرف لغتها وهي لا تعرف لغته، ووضع الله لكل واحد منهما محبة الآخر في قلبه، فارتشف كل طرف اللغة من الآخر، حتى صار الرجل اليعربي أمريكي اللكنة، وغدت الشابة ذات الأصول الأنجلوسكسونية تضارع العربية السمراء في منطقها العذب، وتعلما اللغة بلا آثام ولا مصاريف. طبعًا يقول بعضهم: إن تعلّم اللغة يتسارع حينما يكون بين جنسين مختلفين، ومثل هذه الدعوى تحتاج إلى برهان، وكثير من التطبيقات العملية تؤكد أنها مقولة طيّارة ربما تتهاوى بيسير الفحص.
- لا يغيب عن البال أن دراسة اللغة في ديار أهلها ربما يكون الأنفع والآكد ثمرة، إذا أحسن اختيار مكان التعليم، وصدقت النيات، وتوالت المتابعة، وكان الدارس يحمل بين جنبية همة وعزة، ولديه من المناعة ما يحميه من الرطانة التي لا تسمن ولا تغني من جوع؛ فبعض من يعرف لغة أجنبية لا يستطيع أن يقرأ بها كتابًا جادًا، وأقصى ما يقوى عليه سماع أغنية أو مشاهدة فلم، وكلاهما إلى الهبوط أقرب، وعن المراقي أبعد.
- ختمت لسائلي العزيز جوابي كاتبًا: حتى أكون منصفًا؛ فجميع الطرق السالفة سمعت عمن جربها ولم يفلح، ولذلك فالمسألة بعد توفيق الله تقوم على الدارس وجديته وما يخصصه من وقت لاكتساب اللغة.
بقي أن أقول بأن اكتساب اللغة لا يقف عند عمر معين، فقد سمعت عن العالم المسلم أ.د.فؤاد سزكين-رحمه الله- حرصه على تعلّم اللغات حتى على كبر. وقرأت عن سفير إنجليزي أنه يتعلم لغة أي بلد سيبعث إليها ممثلًا لحكومة بلاده. ومن القول المهم أن الحرص على اكتساب لغة أخرى يجب ألّا يقتصر على الإنجليزية، فلغات مثل التركية والفارسية والعبرية مهمة أيضًا، ولغات مثل الصينية والإسبانية والروسية مهمة كذلك، والأكثر أهمية أن يبرع المرء بلسان قومه وبلاده، ويعلي من قيمته داخل نفسه قبل أن يتعلّم لغة أخرى، فمن تحول إلى لغة أخرى وهو متين الصلة بلغته فسوف ينال الحسنيين غالبًا. من يدري ياقوم: ربما يكون للذكاء الاصطناعي تأثير على تيسير تعلّم اللغات، أو على الاستغناء عنها كليّة!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 13 من شهرِ صفر عام 1446
17 من شهر أغسطس عام 2024م
3 Comments
الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ، ساكتب تجربتي مع اللغة الإنكليزية ، نحن بالعراق ندرس اللغة الإنكليزية في مرحلة الدراسة الابتدائية في الصف الخامس والسادس ، وتستمر دروس اللغة الإنكليزية لثلاث سنوات في مرحلة المتوسطه ، ثم سنتين في مرحلة الثانوية ، ثم سنتين في مرحلة معهد اعداد المعلمات و في مرحلة المعهدين نقرا لشكسبير وبين مدينتين ، وكتب اخرى باللغة الإنكليزية ، فالبنسبة لي فإنني قمت بتدريس اللغة الإنكليزية للصف السادس لمدة اربع سنوات عندما كنت معلمة ابتدائية ، وعندما سافرت مع زوجي إلى بريطانيا لدراستي ، لم اجد صعوبة في التكلم باللغة الإنكليزية ، وكانت اللغة الإنكليزية لغة عالمية ، ذلك الوقت ، وهذا ما وجدناه عندما اضطرينا للسفر بالسيارة من بريطانيا إلى العراق ، ومررنا بعدة دول بلجيكا ، النمسا يوغسلافيا سابقا ، بلغاريا تركيا العراق ، فربما دراستنا في مراحل الدراسه ، ساعدتنا على تعلم اللغة
مقالة ثقافية معتقة تمزج بين عراقة العربية واكتساب ثقافة اللغات الأجنبية، كاتبنا المتميز بفكره وقلمه شعرت أثناء قراءة المقالة بطاقة جمالية متولدة من كتابة إبداعية نحو لغة أصبحت ضرورية بجانب لغتنا الأم، ووقفات إرشاديه جاده تذرها لنا كعادتك بكل إخلاص وموضوعية، تذكرت وأنا استمتع بقراءة هذه المقالة الأنيقة حينها لقول عبدالقاهر جرجاني متحدثاً عن -أسرار البلاغة قاصداً المعاني” ليس كل من دنا من أبواب الملوك فُتحت له..” -وليس كل من توجه للتعلم فُتح له بها، يجب أن يكون هناك شغف ورغبة حقيقة، لإنك حين تتجه لأن تتعلم شيء فإنك تحتاج كثيرا من الدربة للوقوع على مفاتيحها وإتقانها، وكل شخص سوف يجد التقنيات الخاصة التي تمكنه من تعلم اللغة الأخرى بما يتناسب مع قدراته وظروفه، وبحكم تخصصي الدقيق باللغة فإني اتفق مع هذه المقالة وأن الانفتاح على اللغات الأخرى وثقافتهم وإنتاجهم هو إضافة أخرى لآفاق الفكر والتجديد في مصادر المعرفة، واكتساب مهارات متنوعة ومتعددة في البحث …
كل التقدير لهذه المدونة وكاتبها المبحرة في أعماق الثقافة ومواضيعها الشيقة الآخاذه …
لكم التحية