تكميل التشريع والقانون
مهما سُنّ أيّ تشريع بالحذق والإمعان، فلن يبلغ درجة الكمال، وهذه “لن” زمخشرية تقع على معنى التأبيد -مع الاعتراض عليها عقديًا. وبالتالي سوف يشوب القوانين النقص، ولذلك تنبه معظم المشرعين إلى حتمية حدوث مشكلة النقص التي تحولت إلى ظاهرة عامة في جميع القوانين المدنية، مما دفع المشرعين إلى محاولة معالجة هذا الوضع بإقرار مصارد لسد النقص الحاصل وتكميله، كي لا يعجز القاضي عن الحكم، ولا يتخذ النقص ذريعة للتهرب من إحقاق الحق.
هذه المسألة -أي حتمية النقص وضرورة التكميل- هي لبُّ بحث جميل وقعت عليه، عنوانه: تكميل التشريع: دراسة مقارنة بين القانون الإماراتي والقانون العراقي، كتبه د.إسماعيل نامق حسين، وهو عضو هيئة التدريس بكلية القانون والسياسة بجامعة السليمانية في العراق، وقد نشر البحث في العدد السابع من مجلة القضائية، الصادر في شهر رمضان عام (1434) عن وزارة العدل بالسعودية، ويقع في (46) صفحة بين صفحتي (355-400) حسب تسلسل صفحات المجلة.
وتتداخل مسألة تكميل التشريع تداخلًا وثيقًا مع العدالة، وهي وسيلة فعالة لتطور القانون، وسبيل للاستجابة إلى متطلبات المجتمع، ومعين أساسي للقاضي ليضطلع بمهامه على أكمل وجه، وحتى يرتبط بالواقع. ولأن التشريع مصدر رئيسي أو وحيد للقوانين، وبالتالي تستقى منه الأحكام قبل أي شيء آخر، فقد يحدث ألّا يتضمن التشريع الحكم في أحوال معينة، أو تطرأ مستجدأت يعجز التشريع القائم عن التعامل معها، وبالتالي غدا تكميل التشريع طريقة مثلى لتحقيق العدالة، فوق كونه ضرورة واقعية، وهذا ما أوجب دراسة موضوع التكميل التي غابت عن المؤلفات حسب بحث الكاتب.
أما معنى تكميل التشريع فهو إتمام النواقص الموجودة أو المستجدة في التشريع بعد الاستعانة بمصادر القانون الأخرى، والنقص في التشريع هو الحال التي لا يجد القاضي في نصوص القانون المكتوب قاعدة يمكن تطبيقها في النزاع المعروض عليه. ويفرق البعض بين النقص في التشريع والنقص في القانون؛ فالأول يعني اختفاء الحكم أصلًا من التشريع، ويوجد في الثاني الحكم والقواعد بيد أنها لا تستغرق تفاصيل القضية كلها. ويضيف آخرون فرقًا بين التشريع الناقص والتشريع المتناقض، ويطلق على الثاني “تشريع غير متجانس”، وعلاج التناقض التطهير والإصلاح، وعلاج النقص هو التكميل، علمًا أن هذا الإتمام والتكميل لا يجوز إلّا بناء على إرادة المشرع الصريحة.
ويرجع حصول النقص في التشريع إلى أسباب توجب التكميل هي:
أسباب فنية:
ترتبط بقدرة المشرع على التنظيم الفني، أو غلبة التجريد على الروابط داخل التنظيم الفني، أو قصورها عن بلوغ مستوى من النضوج التشريعي، ومن أمثلة ذلك سعة الروابط الاجتماعية ودقة تفاصيلها؛ فيتحاشى المشرع المساس بها تاركًا المجال مفتوحًا لاتفاق الأفراد أنفسهم، أو للاجتهاد القضائي. ويتصل بعضها بالوجدان العام للجماعة أو بالمجال العام مثل فكرة النظام العام والآداب العامة، مما يصعب معه وضع قاعدة معيارية. وقد يحجم المشرع عن معالجة بعض الأمور لاعتبارات تتعلق بالسياسة التشريعية، ويدع التنازع فيها لاجتهاد القضاء حتى تستقر المسألة على أساس ثابت، وتستبين منها حقيقة المصلحة، وتصبح الأحوال أكثر تهيأة للتشريع، وهذا النقص في التشريع متعمد مقصود.
أسباب عملية:
فالإرادة التشريعية لا تستطيع الإحاطة بحقائق الحاضر ومدى ما قد يستجد في المستقبل، وبالتالي تتوجه عناية المشرع إلى المعاني أكثر من الصور والفروض، ويفرغ فكرته في صيغ تواجه عددًا من الفروض لكنها لا تستوعب كل شيء. ولأن قدرة الإرادة التشريعية على البصر بحقائق الحياة لا تسمح بكمال الحكم التشريعي، ولديها قصور أكيد في هذا الباب، فلا مناص من حتمية النقص في التشريع، هذا غير وجود النقص الفطري في التشريع لعلل ترتبط بالمستقبل، والروابط المجتمعية، والحوادث والمستجدات، وإن حبس اللفظ وتجسيد صياغته في معنى لمما ينجم عنه القصور والجمود غالبًا.
أسباب أخرى:
يضيف آخرون أسباب تتعلق باللغة التي لا تكف عن التطور، وهذا الحراك اللغوي يقلق سكون التشريع. ومنها نسيان المشرع لأنه من جملة البشر، وتوجد هذه الأسباب ما يسمى النقص المجرد في التشريع، وهو نقص يؤكد على حتمية التشريع.
كما اختلف الفقه حول مسألة كمال التشريع من عدمه، فذهب الرأي الأول إلى إنكار النقص في التشريع، ودافع فقهاء الألمان عن نظرية كمال التشريع بشدة. والصلة وثيقة بين نظرية كمال التشريع ونظرية الفصل بين السلطات، فدعوى الكمال تزيد من قوة نظرية الفصل، وتمنع التعدي على حدود الصلاحيات، وتلجم السلطة القضائية عن تقحم أعمال السلطة التشريعية.
ويستند أصحاب هذا الرأي إلى نظريتين هما: نظرية الحيز القانوني الخالي، وخلاصتها أن نشاط الفرد حر فيما خلا عن أي قاعدة قانونية، وبالتالي فالنقص محال لأن الميدان مفتوح لحراك الأفراد، والنظرية الثانية هي: نظرية القاعدة العامة المانعة، ومختصرها أن يوجد في كل نظام قانوني قاعدة عامة تبين حلول ما لا تشمله القواعد الخاصة، وبالتالي فلن يوجد نقص في التشريع. وهذا الرأي النافي للنقص يمكن قبوله في النظام الجنائي، لكن لا يسلم بصحته في النظام المدني.
بينما يذهب الرأي الثاني إلى إنكار كمال التشريع مهما بلغ المشرع من علم وحذق وبصيرة، فلا مناص من وجود أحوال تخرج عن الرصد المعياري للقانون مما يفرض الحاجة إلى التعديل والتكميل. وينادي أصحاب هذا الرأي بالواقعية القانونية قائلين إن اليقين في القانون -طبعًا البشري منه- وهم وخرافة لا تؤمن بها إلا جماعات تعيش في مرحلة الطفولة، ولم تصل بعد إلى النضج.
ويرى هؤلاء أنه لا يجوز لواضع القانون أن يفكر في اشتمال قانونه على كل شيء، ففي اختلاف حاجات الناس، واتصال أوجه النشاط ببعضها، وتشعب المصالح، واتساع العلاقات، ما يدل على استحالة قدرة المشرع على التنبؤ بكل شيء، ومهما حصر واضع التشريع من مسائل ففي بطنها تفصيلات واحتمالات لن يدركها. وقد خلصوا إلى أن أي قانون مهما بدا كاملًا، ما يكاد يفرغ منه واضعه، حتى تثور بصدده آلاف المسائل أمام المفسر والقاضي. ويجزم الباحث أن الإجماع شبه منعقد اليوم على الاعتراف بإمكان وجود النقص في التشريع، والنتيجة اضمحلال الرأي الأول.
لأجل ذلك تختلف مسالك القوانين في مناهج التكميل، وفي كيفية التعامل مع ظاهرة النقص في التشريع، فمنها ما يجيز التكميل دون وضع أطر أو قواعد، ومنها ما يجيز التكميل لكن مع الإرشاد إلى أصول منهجية يبنى عليها التكميل على تفصيل في هذا الباب،. ويمكن بيان هذه الاتجاهات كما يلي:
تكليف القاضي بالفصل في القضية بنفسه:
لا يحدد أصحاب ها الاتجاه كيفية الفصل، ولا يزود القاضي بأي وسيلة لتكميل النقص، وقد نصت بعض القوانين على إلزام المحكمة والقاضي بالحكم والفصل في المسألة، ولم تجز الامتناع بحجة غموض القانون أو فقدان النص أو نقصه. ويعاب على هذا الاتجاه أنه ترك القاضي أمام قضية قانونية مفتقرة إلى الاجتهاد، ولم يحدد له ضوابط الاجتهاد وخطوطه العامة.
تحديد وسائل تكميل التشريع ليستخدمها القاضي:
تلزم هذه القوانين القاضي بالفصل في النزاع حال وجود النقص التشريعي، وتمده في الوقت ذاته بتوجيهات عامة يتبعها في هذه الأحوال، والغاية من هذه التوجيهات تقييد حرية القاضي حتى تتسق الحلول التي يذهب إليها مع النظام القانوني السائد في البلاد، وكي لا يأتي بحلول غريبة على نظام البلاد القانوني، وعليه فالقاضي ملزم بإيجاد الحلول من منطق التشريع وفلسفته، ولا يعدو هذا الاتجاه كونه إذنًا من قبل المشرع وتكليفًا منه للقاضي كي يقوم باداء هذه المهمة.
إلزام القاضي باتباع طرق محددة لتكميل التشريع:
يعطي الاتجاه الثاني سلطة واسعة للقاضي في تكميل التشريع، لكن هذا الاتجاه بعد أن كرر فكرة سابقيه وضع قوانين أشد توجيهًا للقاضي وأكثر تقييدًا لحريته، وتفرض على القاضي اللجوء إلى طريقتين للتكميل هما: التكميل الذاتي أو الداخلي، والتكميل الخارجي، ويقصد بالداخلي الاستعانة بالقياس داخل التنظيم القانوني، أو بالرجوع للقواعد العامة، أما الثانية فتعني تكميل التشريع من خلال الرجوع إلى المصادر الأخرى، وعليه فلا بد أن يعتمد القاضي على إحدى هاتين الطريقتين في التكميل، ويلتزم بهما التزامًا كليًا يقيد حريته، وتختلف القوانين التي تتبنى هذا الاتجاه في تعيين مجالات التكميل، وفي التقديم والتأخير بينها.
عقب ذلك عرج الباحث على عقد مقارنة تطبيقية بين القانون العراقي والقانون الإماراتي في مسألة تكميل التشريع، وبينهما تشابه في الطريقة، واختلاف في قنوات التكميل وترتيبها. وطرح الباحث مسألة مهمة هي: هل الهدف هو تطبيق القانون أم تحقيق العدالة؟ وهل إحقاق الحق أولى بالرعاية من استقرار الأحكام؟ وهل يجب أن يلتزم القاضي بتطبيق القانون حتى لو كان مناهضًا للعدالة؟ والذي يبدو من رائه أن العدالة عنده مقدمة على أي شء، والعدالة ركن أصيل في التشريع الإسلامي كما يكرر. وقد نقل الباحث عدة نصوص من هذين القانونين، ومن قانون الأردن واليمن، وفيها جميعها عناية بالشريعة الإسلامية وفقهها ومقاصدها على اختلاف في مستوى العناية والمكانة لهذا الفقه العظيم الجدير بالتقديم ديانة ومصلحة، وهو ما أكده الباحث غير مرة في صلب البحث، ونقاشاته، وفيما ختم دراسته من توصيات ومقترحات.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الأربعاء 18 من شهرِ محرم عام 1446
24 من شهر يوليو عام 2024م