السّياسة من خلال السّيرة!
لم تعرف البشرية، ولن تعرف، شخصية أكمل من شخصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا فسيرته أجمل السير، وقصته أحسن القصص، وأحداث حياته معالم مهمة للعلماء، والدعاة، والمصلحين، والقادة، ولكل إنسان داخل بيته، أو خارجه، وأيا كان موقعه من تراتيب المجتمع.
وقد تسابق أسلافنا في سباق مشكور محمود، إلى تدوين سيرته العطرة، ورواية دقائقها فضلاً عن مفاصلها العظيمة، وتفننوا في التأليف والتصنيف، فمنها كتب للسيرة، وأخرى في الدلائل، وثالثة في الشمائل، ورابعة في فقه السيرة، فضلاً عن مؤلفات هنا وهناك في شؤون متنوعة.
وإذا كانت التراجم مشتركة بين عظماء كل أمة، فقد زاد نبينا عليه الصلاة والسلام على كبراء البشر، أن هيأ الله من أصحابه وتابعيهم بإحسان، من يحفظ قوله، وفعله، وسكوته، وإقراره، وينقل مجريات حياته كلها من استيقاظه إلى منامه، وفي كل مكان يغشاه، وعلى أي حال كان، وتلك لعمر الله خصيصة تفرد بها الجناب الكريم.
والعناية بالجوانب العقدية، والتعبدية، الخلقية، أمر مفهوم ومفسَّر، وقد نال قسطاً قريباً مما يستحقه، فالنجاة كل النجاة في إتباع هديه، وامتثال أمره، فهو-صلى الله عليه وسلم- ليس قدوة في أمر أو جانب واحد فقط، بل أسوة في كل شيء، بأبي هو وأمي.
ومن الجوانب المهمة جداً في حياة سيدنا أبي القاسم عليه الصلاة والسلام، تلك المتعلقة بالشؤون السياسية، سواء حين كان النبي صلى الله عليه وسلم قائداً للجماعة المؤمنة في مكة بطوريها، أو في تنقله بين القبائل والمواسم، إلى أن استقر في المدينة، وأسس الدولة، وشرع في مرحلة جديدة.
وعسى أن تنهض الهمم؛ لدراسة السيرة المنيفة في أول مبتدأ الدعوة الإسلامية، حين انتشرت في مكة كدعوة علنية في أفكارها، خفية في ترتيبها، ثم حين ظهرت الدعوة ككيان واضح، بجماعة ذات جسم لا يمكن تجاهله؛ من ضمن مكونات المجتمع المكي، وأخيراً الجهود التي بذلها النبي عليه السلام مع القبائل، وفي المواسم، وضمن الجوار المكي.
ويعدُّ حادث الهجرة بحد ذاته كنزاً في الإلهام، ويليه إنشاء الدولة في المدينة، وإدارة المجتمع المديني بتنوعاته، وقيادة المعارك والحروب، وعقد التحالفات، وإبرام الاتفاقيات، وقسمة المال، والتعامل مع الخيانات الفردية أو الجماعية ممن نقضوا العهود، والتصرف حال الأزمات، واستخدام الاقتصاد والإعلام في إدارة الدولة، وتوجيه أهدافها.
وكم في سيرة هذا النبي العظيم من جوانب لا مناص للمسلم من الالتفات إليها بعناية فائقة، واستلهام عبرها، ونشر دررها للناس مؤمنهم وكافرهم، فمن مثل رسول الله-عليه الصلاة والسلام- في حربه وسلمه، وفي حكمه وقضائه؟ ومن مثله في سياساته المحلية، وعلاقاته الدولية؟ ومن يدانيه في إدارة المال، وتنمية المجتمع؟
أحمد بن عبد المحسن العساف-الرياض
الخميس 27 من شهر رمضان المبارك 1438
22 من شهر يونيو 2017 م