قراءة وكتابة لغة وأدب

مدخل إلى الكتابة الإدارية

مدخل إلى الكتابة الإدارية

الكتابة الإدارية عمل له خصائص عديدة، إذ تكاد أن تكون عملية مستمرة؛ لارتباطها اللصيق بالأعمال التي لا تنقطع ليل نهار. وهي عملية ليست خاصة بالحكومة فقط؛ إذ تمارسها الكيانات الأخرى أيًا كان حجمها وتصنيفها. كما أن هذه الكتابة تتصل بأكبر عدد من الناس، وربما تصبح صلتها بجميع الناس في بقعة واحدة وأصدق مثال هو البيانات الحكومية العامة التي تذاع بعد كتابتها. وينبني على الكتابة المرتبطة بأعمال الإدارة نتائج مهمة حالية ومستقبلية؛ مما يزيد من خطر الكتابة الإدارية، ويعظم الحاجة لإتقانها بإحكام.

للكتابة الإدارية شروط يأتي على رأسها الوضوح، والدقة، واستعمال أقل عدد ممكن من الكلمات، والبعد عن أي إضافة يمكن الاستغناء عنها، والحذر من قلبها إلى كتابة أدبية صرفة مهما كانت الدواعي جذابة. ومن شروطها السلامة اللغوية في الإملاء والنحو والمعنى والأسلوب، وبيان المراد العملي من المتلقي بجلاء، وضرروة اعتمادها على نص أو منطق أو مصلحة معتبرة، مع حتمية الإشارة لمصدِر الكتابة، وتاريخها.

هذه الشروط جلها موضوعية وقد يتيسر التفصيل فيها والزيادة عليها مستقبلًا، وللشكل في الكتابة الإدارية شروط أخرى حتى تهاب لدى ناظرها، ولا تقتحمها عين أو تزدريها ذائقة سليمة، وعلى رأس الشروط الشكلية التنظيم الملائم، وحسن الإخراج، وتقليل الفراغات، وضبط البداية والنهاية، وتنسيق المحتوى حسب مواضعه المناسبة، مع العناية بنوع الخط، وحجمه، وألوانه، وعدد الفقرات، والأسطر، والعناوين الرئيسة والفرعية.

كما أن الكتابة الإدارية وصف يقع على شريط طويل من الأنواع المختلفة؛ ففيها المكاتبات الداخلية والخارجية، والعلنية والسرية، والبرقيات المختصرة، ومحاضر الاجتماعات، ومذكرات العرض والإحاطة والتفسير، والتقارير، والمختصرات، والخلاصات، والبيانات، والاستشارات، والتصريحات المكتوبة، والأوامر، والتعليقات الدبلوماسية، والنشرات التعريفية والإعلانية، وغير ذلك مما ينسب إلى أجهزة إدارية صرفة، أو شؤون تتصل بالإدارة الخاصة أو العامة، وهي باب من أبواب العلم والعمل المفتوح منذ القدم، والمتاح للتطوير إلى نهاية الدنيا.

لذلك فالعناية بالكتابة الإدارية ليست شأنًا حديثًا، بل هو هاجس قديم، ولأجل ذلك قرّب الزعماء حولهم الكتّاب المجيدين، وصيروهم في مناصب الاستشارة أو الوزارة، هذا غير الاستعانة بهم للكتابة المباشرة بلسان الأمراء والسلاطين والملوك والخلفاء. وقد حفلت الكتب بتراجم أولئك الكتّاب، وبأخبارهم، وبنصائح تخصّ الكتابات السلطانية؛ لأن ما يصدر عن علية القوم ينبغي أن يكون من أعلى الكلام وأرقاه في المبنى والمعنى، وليس حسنًا بحال أن يخرج كتاب للعلن، وينسب لمقام رفيع أو اسم كبير أو مؤسسة قيمة، ويكون فيه من الأغلاط ما تحمّر معه خجلًا منه وجنات الرجل المقطب غليظ التقاطيع والأحاسيس، فضلًا عن حسان الوجوه رقيقات المشاعر.

مع ذلك كله؛ لا تزال الكتابة الإدارية معضلة يصرح بها تارة، أو تهمس الحقيقة عنها همسًا تارات أخرى، والسبب يعود لعدة عوامل لا ينفرد أحدها بوزر ما تعانيه هذه الكتابة من مشكلات، فمنها الضعف الثقافي العام، وما تعانيه اللغة العربية من مشكلات في سبل التعليم وطرائقه، ومستوى الفهم والتفاعل. ويضاف لذلك أن كثيرًا من المواد التي تخدم الكتابة الإدارية -حسب اطلاعي- لم تصل إلى جذر المشكلة، واكتفى غالبها بعلاج السطح الخارجي، والانصراف المباشر إلى المطلوب دون المرور الضروري على ما يسبقه من مراحل، وإن كان مرور العجلان اليقظ غير الوسنان، وبالتالي حرمت هذه المحاولات من بلوغ أساس الخلل، ومنبع الإشكال، دون إنكار ما فيها من محاسن، وما لها من فضل وسابقة.

لأجل ما مضى، وبناء على مفاوضات مع مؤسسات راغبة في التدريب المحكم، اجتهدت بعد سنوات من التتبع، والقراءة، والنقاش، والتأمل، أن أدلي بدلوي في هذا الحقل الذي أحبه ويندرج تحت الكتابة وفنونها بعامة، وشاركت في بعض ميادينه كاتبًا، أو محررًا، أو مدربًا، والغاية الوصول إلى رأي يمكن تطويره والبناء عليه، لمعالجة هذا الواقع معالجة جذرية. وتقوم الفكرة التي أتبناها الآن على الأسس التالية:

أولًا: التدريب النظري والعملي:

تنطلق جلّ الكتب والبرامج التدريبية من الكتابة الإدارية وفنونها مباشرة، ويفترض هذا الإجراء أن المستفيد لديه قاعدة أساسية عن الكتابة، ولأن الواقع ليس كذلك بمجملة، تغدو الثمار دون المأمول، وعليه فالأفضل أن يبدأ البرنامج التدريبي بمادة عن فن الكتابة من أصوله وأسسه؛ فمن أجاد في هذا ولو بأقل مستوى مقبول، فسوف يفلح في الكتابة المتخصصة بعدها، وهي الكتابة الإدارية التي تأتي في المرحلة الثانية من التدريب، وقد يتلوها مرحلة ثالثة عن نوع محدد من الكتابة الإدارية حسب رغبة المستفيد. ومن المهم أن تصبح جلّ التطبيقات العملية المتصاحبة مع التدريب حقيقية لا مصنوعة، ويتحقق هذا القيد باستلالها من واقع عمل المستفيدين من التدريب خاصة إن كانوا ينتمون لكيان واحد أو كيانات متشابهة.

ثانيًا: التطبيق على رأس العمل:

 هذا التطبيق هو أنفع وسيلة لإفادة المشاركين، والارتباط بواقعهم الحقيقي، والوقوف على تقييم التدريب، ومستوى التنفيذ، وقد يكون المدرب قريبًا ممن شارك معه، وربما توكل المهمة لقدماء الكتّاب في المنظمة المستفيدة نفسها، ويمكن الجمع بين الأمرين، وهو عمل شاق بيد أن آثاره الحميدة تخفف من مشقته وتجلب التيسير المعنوي.

ثالثًا: المتابعة عن بعد:

أتاحت وسائل التواصل والاجتماع المرئي عن بعد سبلًا لم تكن يسيرة فيما سبق، وعليه فيمكن إضافة ساعات تعليمية أو للمتابعة والتصحيح بواسطة تطبيقات التواصل المرئي، وتكون أقل رهقًا على الأطراف كافة، وأخفض سعرًا، وهي أكيدة في التأثير الحسن خاصة بعد ساعات من التدريب النظري، والتطبيق العملي، وإذا وجدت عناية من المستفيد أشخاصًا ومؤسسات.

رابعًا: لقاء المشكلات والحلول:

سيكون من النافع جدًا الاتفاق على موعد بعد نهاية التدريب بأقسامه الثلاثة السالفة، والغاية من هذا الموعد، حصر المشكلات التي واجهت القائمين بالعمل الكتابي عقب التدريب، وكيف تعاملوا معها، مع فتح الباب للنقاش مع البقية، ومع المدربين والخبراء، وسوف يخرج الحاضرون من هذا اللقاء بقيمة أكبر من المتوقع، خاصة إن أحسن الجميع الاستعداد والتحضير له. ومن حسنات مثل هذا اللقاء بعد سدّ الفجوات، وتراكم الخبرات، أن التفاوت بين أفراد الفرق الكتابية سوف يتقاصر، بارتقاء الأدنى إلى مراتب أعلى.

خامسًا: بناء مكتبة الأصول المرجعية:

إن وجود مكتبة ورقية أو إلكترونية متاحة للعاملين في ميادين الكتابة الإدارية سوف يرتقي بهم لغويًا وفنيًا، فبعضهم ربما لا يقوى على صرف الأثمان الغالية، أو ليس له طاقة على القراءة من تلقاء نفسه. ومن محتويات هذه المكتبة غير الكتب، والمجلات المتخصصة، والاشتراكات في القنوات العلمية المدفوعة، حفظ “أرشيف” لأعمال سابقة من منتجات المؤسسة نفسها، كي يقف المعاصرون على التاريخ الكتابي لكيانهم، وليبقى هاجس التعليم الكتابي حيًا لا يخفت وهجه، ولا تنخفض له راية.

ومن الكتب المهم توافرها: المعاجم بأنواعها للألفاظ والمعاني، وكتب الأخطاء الشائعة، ومختصرات تعليمية واضحة في النحو والإملاء، ومراجع في المصطلحات والتراكيب، ومنتخبات يسيرة من عيون كتب العربية وآدابها. وفي حال كون هذه المكتبة إلكترونية خالصة ومحفوظة سحابيًا؛ فلن يرد إشكال عن مساحة التخزين الفيزيائي، وبالتالي فتكثير الكتب ليس أمرًا عسيرًا، وفي حال وجود مكتبة حقيقية فمن المناسب ختم الكتب وترقيمها، وضبط نظام الاستعارة إن وجد.

سادسًا: التبادل مع النظراء:

لا تغلق المنظومات الإدارية الأبواب والنوافذ على نفسها، وفي هذا المجال يمكن لها أن تستضيف المسؤولين عن الكتابة الإدارية من منظمات مثيلة، أو ترسل إليها موظفيها من المسؤولين عن الكتابة الإدارية، والغاية من الزيارات توثيق الصلات وزيادة المهارات. ومن هذه البابة الإيفاد لحضور المؤتمرات، والبرامج التدريبية، فبعضها مفيد بذاته، وبعضها يثري بنقاشاته، وخيرها ما جمع الأمرين، والجمع متيسر يصار إليه دون مسارعة إلى الترجيح حتى نظفر بالحسنيين، وهذا الصنيع يشبه ملاحظة الأسواق من التجار، وهو أدعى للتجديد والابتكار بعد معرفة الرائج والمفقود.

سابعًا: إصدار دليل خاص للكتابة:

حين تنشر أي مؤسسة دليلها للكتابة الإدارية، وفيه الضوابط العامة المعروفة في الكتابة والكتابة الإدارية، ومعه تنبيهات تخصّ المؤسسة نفسها، وتعبر عن ثقافتها التنظيمية، وعن تاريخها، ولغتها، ومصطلحاتها، وتضع الأطر العامة لما تنتجه من تقارير وكتب ومواد مكتوبة، ولما يستعمل من صور وشهارات وخطوط وألوان وغيرها، مع بعض التحذيرات، وإضافة جداول للألقاب والتعريفات، ومراجع للاستزادة، فهذا يعني أننا أمام مؤسسة متعلمة بلغت حدًا من النضج، وهي جديرة بأن تكون في هذا المضمار من المتقدمين الذين يشار لهم بعين التقدير والاعتراف بالفضل، وتصنع المؤسسة ذلك بعد توارث الخبرة، وتداول المعرفة بين أجيالها، وإعمال معارفها في هذا الباب بلا توان وبتجويد إثره تجويد أعلى.

هذه خلاصة الفكرة، ولا ريب أنها متاحة للتطوير والتعديل، والزيادة والنتخفيف. ومن الواضح أن تنفيذها يحتاج ليس إلى وقت ومال وجهود متوالية ومضنية فقط، وإنما يحتاج إلى قناعة داخلية بضرورة هذا العمل، وخطورة إهماله، كي لا يستكثر ذو قرار ما يستلزمه التدريب على الكتابة الإدارية، وما يتطلبه من إجراءات قد تتأخر معها أعمال أخرى، ذلك أن المرجو المأمول منها يستأهل الصبر والمصابرة، والمرابطة عند أسوار الكتابة الإدارية كي لا يقتحمها من ليس لها أهلًا، وحتى تحاط بالحراس ذوي ديمومة المراس، وحينها ستسلم الكتابة الإدارية من أيّ علة أو بأس، ولا أظن أن الذكاء الاصطناعي سيمنح إفادة شافية قريبة في هذا الحقل.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 14  من شهرِ ذي الحجة عام 1445

20 من شهر يونيو عام 2024م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. لله دركم ودر من علمكم دكتورنا الفاضل.
    ليتك (فضلا لا أمر) تحقق لنا ما جعلته (سابعا)، ولو بشكل مختصر، فتحرير رسالة إدارية أصعب من كتابة مقالة علمية (بالنسبة لي).
    شكرا جزيلا لكم دكتور على هذا المقال الرائع الماتع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)