أيام التشريق والكتابة
تأتي أيام التشريق عقب عيد الأضحى المبارك مباشرة، وهي موسم يتبع العيد بما فيه من مباهج وفرحة، وتمتاز هذه الأيام الفاضلة ببعض أعمال العيد وخصائصه؛ إذ اقتبست منه، وإن الكتابة لتشابه هذه الأيام حين تستعير مما يسبقها أو يجاورها من أعمال مثل القراءة والتفكير. وفي هذه الأيام درس للكاتب ودروس في الكتابة، وما أحرانا بالتأمل السالم من التعسف، مع فسح المجال للقول المقبول النافي للتحجر والتيبس، فالكتابة تحتاج إلى قدر من السيولة والتفاعل، إضافة لحاجتها إلى قدر من الصلابة والثبات، والجمع بينهما بعلم وحكمة أجدر بفوز الكاتب بما يحب، وأجدى له من الصلابة الصماء، ومن السيولة الفجة الجارية بلا خطام ولا زمام.
ففي أيام التشريق يظهر المسلمون والحجاج شعائرهم جذلين بها، مفتخرين بأصلها الرباني ومرجعيتها الدينية، ويعلنونها صراحة بالصوت والصورة، سواء في مكة أو باقي الديار، والكتابة حرية بأن تظهر للناس في طرائقها وبركاتها ومقدماتها الشاقة، وتزيل الحجب عن عوالمها، دون وقوف عند حواجز المكان والزمان، وبلا اعتبار لأوهام أو حسابات خاطئة، بما يجلّي الغايات ويوضح الأهداف. وما أحسن أن تكون ثقافة الكتابة على قسمين أحدهما عام للناس كافة؛ فالكتابة أصبحت من سمات العصر، والآخر خاص لجمهرة الكتّاب على اختلاف فنونهم الكتابية، وتباين أساليبهم ووجهاتهم.
كما يستعين المسلمون بذكر الله المحدد، أو بعامة الأذكار خلال أيام التشريق المعدودة، وفي أيامها مع أيام العشر المعلومة، على الطاعات والقرب وذكر المولى سبحانه، وهكذا تفعل الكتابة التي تُستجلب بمقدمات تمهد لفعل الكتابة، وهي مقدمات تزيد العمل الكتابي متانة وتأثيرًا، حتى وإن كان فعل الكتابة قد يتم بدونها، بيد أن الكتابة عقب إعمال الجوارح سمعًا ومشاهدة، وبعد القراءة والتفكير، وإلحاقًا للحوار والتدبر، ستكون عملًا أجلّ، وهي للتأثير الحميد أقرب، ولنيل الخلود المجيد آكد.
وفي أيام التشريق أعمال متنوعة، والكتابة عمل عريض فيه التنوع الكبير بالمصادر والأدوات والطرق وقنوات النشر، ولكل يوم من هذه الأيام اسم مع انضوائها تحت اسم التشريق؛ فهي القر والنفر الأول والثاني، وهي الأيام المعدودة، تمامًا مثلما يطلق الكاتب على العمل الكتابي عنوانًا كبيرًا تحته عناوين فرعية تدل على المعنى المراد مباشرة أو تأويلاً؛ فلا خير في عمل لايدل مدخله على نتيجته، ولا يشير رأسه إلى قلبه، وباب الاستثناء الإبداعي مفتوح على مصراعيه بعيدًا عن الإغراب والترميز المغلق.
ثم إن هذه الأيام سميت بالتشريق لأن اللحوم تشرق وتبرز للشمس حفظًا لها، وأفكار الكاتب وأعماله عزيزة عليه شريفة عنده، ولذا يحرزها في موضع أمين، ومكان آمن، قبل النشر طلبًا للحفظ وحراسة لها وتمكينًا للمراجعة، وخير للكتابة بعد ذلك ولكاتبها الإجادة والإحسان في انتقاء وقت تقديمها للناس بارزة بعد الحفظ والحماية؛ فلا أنفع للكتابة والكاتب من الانفتاح على عقول ومجتمعات وأحوال؛ كي تتفاعل مع هذه المحيطات، ففي تفاعل الآخرين مع المنتج الكتابي مزيد تمتين وإثراء له وللكاتب، وفوائد للمجتمع الثقافي والعلمي، ونفع للدين والمجتمع والوطن، بتثبيت الصواب وتكثيره، ومحو الخطأ وتقليله، وتنفيذ المقترحات الوجيهة والممكنة، وإصلاح الخلل القائم والمتوقع.
كذلك فإن الفرح قرين أيام التشريق؛ وعلى نسقها يتصاحب الفرح مع الكتابة، فكم من انغلاق فتح بالكتابة، وكم من ضيق أتاه الفرج بالكتابة. وفي أيام التشريق يحرم الصيام ويمنع؛ فالكل يحيا بسعادة وبهجة في ضيافة الله الرحمن بالتعبد والتأله والتوبة ورجاء القبول. وفي التشريق عبادة مخصوصة برمي الجمار، والكاتب يرمي بكلماته وأفكاره فيصيب الهدف، ويكسب الطاعة، وإن الكتابة لباب من أبواب العبادة، وحري بالكاتب أن يشعر دائمًا بمراقبة الله، وبمعية الرب السميع البصير القدير، وهذا الشعور يدفعه لئلا يصوم عن حق، أو يفطر على باطل؛ لتصبح الكتابة له مغنمًا لا مغرم فيها ولا مأثم، وحتى ينال بالكتابة الحبور في الدنيا والأجور في الآخرة، وربما أدركته محامد ولسان صدق، مثلما تصنع أيام التشريق بالكرماء الذين يفرجون الكروب، وينفسون الهموم، ويفتحون المجالس والبيوت للزوار وطلاب الحاجات.
هذا وإن أيام التشريق لأيام أكل وشرب وذكر لله، وأيام بُعال -على رواية إن صحت- ولذا يفرح بها الأزواج، ويتهيأ الشبان والشابات لدخول عالم الزوجية من غير التقدم إليه بإسفاف أو تبرج أو مشين الفعال، وهكذا الكتابة التي تقترن بابتغاء المصالح العامة، وتتجه صوب تحقيق المنافع الخاصة والعامة، ولا تنتهك المحظور، وتشير للمرغوب بالمقدور عليه، وبما يسع ولا يلسع، وكم ترك الأول للآخر، وكم في المباح من سعة ومخارج، والله يجعل مواسمنا كلها مواسم قبول وخير ومحبة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-مكة
الاثنين 11 من شهرِ ذي الحجة عام 1445
17 من شهر يونيو عام 2024م
7 Comments
نفع الله بعلمك وزادك الله علماً
احسنت وأثريت جزاك الله خيرا
آمين وإياكم
من المشاعر المعظمة ، أسأل الله أن يبارك في حرفك ويكتب له القبول في دنياك ويجعله ذخرا باقي بعد رحيلك حتى تلقى مولاك راضي عنك..
ماشاء الله 👌🏻 جميل
بوركت ابامالك
( معارضة ) رائعة بين ايام التشريق والكاتب والكتابه
اجدت وافدت
كل عام وأنتم بخير؛ تقبل الله من الحجيج حجهم
ومن الداعين دعاءهم …
وأعاده على الأمة الإسلامية بخير وأمن ورخاء وسخاء…
للحظات كاتبنا المبدع، وقفت أتأمل الربط بين الكتابة وأيام التشريق؛ وفيها من الغرابة الإبداعية الجميلة والدهشة ما لا يتسع له المقام لحصره، مهيبةٌ مواسم الحج؛ تأتيها الجموع من كل فجّ عميق، تتلاحم الأفكار وتزدحم، وتفيض الكتابة كما يفيضُ الحجيج، ترف قلوبنا مُلتحفة رحاب السماء بالدعاء وتضج مشاعرنا مُتلهفة للقرب، لأن الروح جفت انتظارًا والكل متشوقا ليوم الارتواء، لا أخفيك أن هذه المقالة جعلتني اتدفق بأفكار لم تدر يومًا بذهني،
“الكتابة حُجَّةٌ للهروب، وحاجة للبوح، تفريغٌ للمضمور، وتفريجٌ للمطمُور، يراها الجميع إبداعًا لقلمك، بينما هي التياعًا بقلبك، يُبصرون ما بالسُّطور من حروف، ويجهلون ما بينها من جروح، يثنون عليها تعجبا، وتثنيك هي توجُّعًا!
اما الحج رحلة قاصدة مساعيها لله، نُضمد بها جروحنا وحاجاتنا إليه وحده كل تعب الحج يعقبه لذة الإلتجاء، بينما الكتابة لذتها رحلة نحو الذات وسفرا إليها متجردًا من كل شيء، إن هذه الدنيا -على رحابتها- لتضيق بنا، ويسعنا دعوات يوم الإشراق و تدفق بين دفترٌ وكتاب!
الكاتب والاديب احمد حفظه الله ورعاه ، كل عام وانتم بخير سايلة العلي القدير ان يبارك فيكم وفي أسرتكم جميعا ، ويعيده عليكم وعلى بلادكم باليمن والخير والبركات والطاعات ، سرني هذا الصباح بعد صلاة الفجر وانا افتح الايباد تنزيل تعليقك القيم ومما يزيدني سرورا تعليق القراء الافاضل عليه ، ولفت انتباهي تفسير التشريق ، للحم وعرضه للشمس ، متعكم الله انت وكل أفراد عاءلتك بالصحة والعافية ، وبسط الرزق عليكم