عرض كتاب قراءة وكتابة

طواف في ميدان الكتابة!

طواف في ميدان الكتابة!

الكتابة حمل ثقيل بيد أنه جميل، ويشبه من بعض الوجوه عملية الولادة، من حيث الصعوبة، والثقل، والأخطار المصاحبة، والآلام المترافقة، والاحتمالات المتنوعة، وحتمية الولادة، وفي النهاية يكون للمنتج قيمة غالية، ومكانة عالية في نفس صاحبها، تماماً كما هو حال الطفل عند والديه.

وضمن خلوة مفاجئة، قررت اصطحاب كتاب لطيف مفيد، يؤنس ولا ينهك الذهن، وكان نصيب هذه الصحبة الرائعة لكتاب عنوانه: الكتابة بحبر أسود، تأليف: حسن مَدن، أصدرت مسعى للنشر والتوزيع طبعته الثانية عام (2016م)، ويقع في (349) صفحة من القطع المتوسط.

والمؤلف كاتب وناشط من البحرين، له عدة مؤلفات وقصص، وأسلوبه في الكتابة سلس رائق، وكتابه عبارة عن مقالات تختلف في حجمها، نشرت في الصحف أولاً، ثم أعيد تحريرها وجمعها في هذا الكتاب، الذي يتكون من إهداء، ثم سرد المحتويات، فأربعة أقسام، وأخيراً مقتطفات مما قيل عن الكتاب بعد صدور طبعته الأولى، التي تنقص عن هذه الطبعة بسبعين صفحة تقريباً، كما أخبرني المؤلف في اتصال هاتفي.

عنوان القسم الأول عن الكتابة، وفيه (33) مقالة، بينما يحوي القسم الثاني (18) مقالة جميعها تتحدث عن الكاتب. ويضم القسم الثالث (16) مقالة عن الكتب، ويختم المؤلف القسم الأخير عن القراءة بمقالات عددها (18) مقالة، وبالتالي فمجموع المقالات (85) مقالة، وهي مختصة بالإبداع الكتابي، وما يحيط به من شؤون الكتب والقراءة.

ويهدي الكاتب عمله إلى الشغوفَين بالمعرفة علي وَ وسن، وإلى جيلهما، وهي لفتة تربوية مهمة للعناية بالأجيال القادمة، وتهيئتها لصناعة المستقبل، ومعالجة الأحداث، والنهوض بالأوطان صغيرها وكبيرها. ولاريب عندي أن تعليم الكتابة أساسي في هذا السبيل، فطريق الكتابة يستلزم القراءة، والتفكير، والتحليل، وكلها تبني الوعي الذي تحتاجه أجيال أمتنا، خاصة مع طوفان التفاهات وتقزيم الاهتمامات.

يبدأ المؤلف الخبير بالحديث عن الجملة الأولى، ويؤكد على أهمية روح الكتابة المرتبطة بالكاتب؛ فقد يحسِّن كاتب ما عباراته التي ولدت ميتة، بينما تسير مقالة كاتب آخر واثقة الخطى بعبارات سهلة نابضة بالحياة، حاملة معها من الحرارة والصدق ما يجعلها باقية حاضرة مؤثرة.

ويرى الأستاذ حسن، بأن أهم ما يمنح الحيوية للكتابة، هو التحرر من الأقنعة الزائفة، بمعنى أن يكتب المبدع ما يعتقده حقاً، وليس ما تمليه عليه الأحوال، والعوائد، فالكتابة الناضجة المؤثرة لا تقية فيها، ولا مناص لمن رام التأثير من الغوص في أعماق الروح؛ ليستخرج مكنونها وليس ما يطلبه القراء!

ويؤكد المؤلف على أهمية الاستمرار في الكتابة، ولو أن تكون على هيئة يوميات أو ذكريات؛ فهي للكاتب كالتمرين اليومي للرياضي. ومما يعين على ذلك الالتزام اليومي، والمثابرة، والوحدة، والصمت، والمشي، ونفي جهاز الهاتف وما يحويه من وسائل التواصل الاجتماعي، وكم في اليوميات والذكريات من فتوح يطرب منها الكاتب قبل غيره.

وثمت علاقة وثيقة بين الكتابة والاستشفاء، ومن لم يشعر بالسعادة والانشراح بعد إنهاء الكتابة فتركها خير له من إضاعة الوقت معها! ومن المعين على الكتابة العزلة، والتأمل، وكم فيهما من راحة للنفوس المتعبة. وفي الكتابة هروب من أجواء الحزن، وتغافل عن وطأة الألم، وقد خلد التاريخ الأدبي إبداعات بعض المرضى؛ الذين جعلوا من الكتابة دواءً ومهرباً.

والدنيا بماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، وأحداثها الخاصة والعامة، وتفاصيلها الدقيقة فما فوقها، ومجرياتها الواضحة أو الغامضة، وحكاياتها، ومخلوقاتها، ومن وما على الأرض، كلها منجم متاح للكاتب كي يستقي منها أفكاره، من خلال خبرته، أو سماعه، أو خياله، ومن خلال الإبقاء على طبيعة الطفولة المتسائلة دوماً.

وحتى يتميز الكاتب ويحقق أهدافه، فعليه أن يؤمن بعمله، ويغامر غير آبه برأي القراء مادام مقتنعاً من سلامة فكرته أو وجاهتها، وأخيراً يجب أن يختط لنفسه طريقاً غير مطروق، وهو الأسلوب الذي يكتب به من غير أن يكون صدى لغيره، أو مقتفياً لأثر سابقيه خطوة بخطوة.

يحث الكاتب أبو علي وَ وسن زملاءه على الكتابة الرشيقة البعيدة عن الترهل، ويحقق الكاتب ذلك بالإيجاز، وهجر الزخارف اللفظية، والحذر من الاستطراد لغير ضرورة، والتدرب على سوق الفكرة وعرضها بأقل قدر من الكلمات، وأعمق ما يمكن من المعاني، وبوضوح تام، وتلك آية الموهبة.

وفي الكتابة ترميم انكسارات النفس، وإضاءة لعتمة الدروب، ومن الحكمة الحذر من الكتابة الآنية المرتجلة، ومجانبة التعقيد الذي يمثل آفة بعض المثقفين، فآية النص العظيم استمرار تألقه مع الزمن دون أن يبلى؛ وليس بما فيه من غموض ودهاليز.

وبين الكاتب والأمكنة علاقة وثيقة، ولا مناص له من صنع حميمية معها خاصة مكان القراءة والكتابة، وسبق لي استعراض كتاب مصور جميل عن بيوت كتاب عالميين كبار. وللكاتب علاقة صداقة مع الكتب؛ وعلاقة خاصة جداً مع كتاب أو عدة كتب تفتح له أقفال الإبداع التي تواجه الكاتب أحياناً.

ولدى القراء رغبة في التأويل والافتراض؛ وعلى الكاتب أن يتحمل سوء الظن والتفسير، خاصة مع كثرة التصيد، وتقديم سوء الظن، وتضييق مساحات الحرية. ويوطن الكاتب نفسه على ما سيجده في مشوار الكتابة، فمهما حرص على البعد عن الموضوعات الحرجة، فهو والغ في السياسة ولا مفر له من ذلك البتة، ولذلك يكون مالم يقله الكاتب أهم مما قاله في بعض الأحيان.

ويغرف الكاتب مادته من الحياة وما فيها، ولابد للكاتب البصير من نبوءات وتوقعات، ومهما اجتهد الكاتب في التحرر من سطوة القارئ فسيظل حضوره قوياً في مكونات عمل الكاتب الواعية أو اللاواعية؛ ولا بأس من ذلك شريطة ألا يتعاظم تأثيره.

ولكل كاتب عمل فاصل في مسيرته، ومنه ينطلق الكاتب إلى آفاق الشهرة والظهور، وقد يحمل هذا العمل سوابقه ولواحقه، وربما يكون سبباً في طمس غيره بالمقارنة معه! وما أسعد الكاتب حين يجدد حوله نقاداً متذوقين صادقين، يعينونه على تجويد مادته، وإنضاج نتاجه.

وأما القراءة فهي خروج النفس من ذاتها، ومن المهم قراءة الكتب التي توقظنا كما يقول كافكا. وقد يكتب المرء سيرته من خلال كتبه التي قرأها، وبوصف حياته التي قضاها مع خزانة كتبه، التي تضم أزكى الأرواح وأرقى العقول، وثمت كتب من هذا القبيل.

وقديماً كان النقد يعلي من أسهم الكتاب، وكان للنقاد كلمتهم المؤثرة، إلى أن آل الأمر إلى مهارات الترويج والتسويق الدعائي، فضلاً عن حضور المال والسلطة والتعصب الفئوي، فمنحت هذه العوامل قيمة لأعمال لا تستحق إضاعة دقيقة واحدة معها؛ حتى غدت الكتب الأكثر مبيعاً هي الأكثر سوءاً في الغالب!

والعداء تاريخي سافر بين الكتاب والأنظمة المستبدة، وبين الكتاب والجماعات العنيفة، حتى تعرضت الكتب والمكتبات إلى إحراق، ومصادرة، ومطاردة، ومنع، ومن عجب استمرار هذا الإجراء في عصر أصبحت الكتب تتوافر بعدد هائل في وعاء إلكتروني صغير!

ويتساءل المؤلف في بعض مقالاته: هل هناك كتب رجال، وكتب أخرى للنساء؟ وهل للنهار كتبه المفضلة، بينما تختص كتب أخرى بوقت الليل فقط؟ وفي موضع سابق ناقش شأن الكتابة حسب الجنس، وهل تتميز كتابات الرجال عن إبداعات النساء؟ وهل تستطيع المرأة البوح كما الرجل؟ وهل تنفرد الأعمال الرجالية بالمنطق، بينما تحوم الأعمال النسائية حول الوجدان فقط؟

ويرى الكاتب أن الجدل الثقافي يدفع لمزيد علم وإتقان، وعليه فمن المهم الظهور وعدم الانكفاء، ومناقشة الآخرين، ومفاتشتهم، فهذا حرث في العقول والخبرات مفيد لأطرافه كلها. وينصح المؤلف الكاتب بقوله: اقرأ عندما تريد الكتابة، وعندما تعزف عن الكتابة، وعندما لا تستطيع الكتابة، وهو باختصار يقول ما معناه بأن القراءة حياة الكاتب، وبدونها يموت.

ومن فقه القراءة ألا نكتفي بملاحقة الأفكار فقط، بل نلتقط طريقة عرضها، وإذا لم يعجبك كتاب فدعه، ولا تضع معه وقتاً. وثمت علاقة وثيقة بين السفر والقراءة، ويحسن بالمسافر انتقاء الكتب التي تصحبه، وتنويعها، ومن الرائع أن يجعل القارئ له بصمات على كل كتاب حوته خزانته.

وإن التعرض للفنون يمنح النفس مزيداً من التوهج؛ ولذلك فملاحظة الجمال، والتفرد، مهارات ترافق الكاتب والشاعر كي يسمو إبداعه. وحين تغيب الحقائق عن المبدع، فسيلوذ إلى الورق أو شاشة الكمبيوتر، ويسطر إبداعه نثراً أو شعراً أو رسماً.

وعوداً على الكاتب، فمن أبرز ما يميزه قدرته على الاحتفاء بالعادي، وإضاءة عتمة الروح، وترك مساحة للتأويل، وإيراد الكلام سمحاً بعيداً عن التكلف. وعلى الكاتب ألا يستعجل ولا يتذمر من تأجيل الكتابة أحياناً، فالفكرة الجيدة ستؤرق صاحبها حتى يكتبها، وسيجد لها متسعاً من الوقت؛ فالكتابة أكثر المهن عزلة في العالم.

وفيما رواه المؤلف عن الروائي المصري العالمي نجيب محفوظ، ضمن نصيحة لرسام حيث قال: كلما زادت المحلية عندك أصبحت عالمياً، ولأن الأستاذ حسن أجاد هضم نتاج حضارات عالمية في الكتابة والإبداع، ثم أحسن في صياغتها، فسيكون منتجه أكمل لو عاد إلى إرث أمتنا الضخم في القراءة والكتابة، حتى يصبه في قوالبه الأنيقة؛ ويعيد سبكها وعرضها، وحينها سيكون كتابه مناسباً جداً للترجمة، حيث يقدم للعالم خبرات حضارتنا.

وربما أن قسمة الكتاب إلى كتابين أنفع له، وتزيد من فرص انتشاره، بحيث يكون الأول عن الكتابة والكاتب، والثاني عن الكتب والقراءة مضافاً معهما حديث عن المكتبة، وسيخدم المؤلف الشباب القراء والكتاب، وستكون الفائدة أعلى حين يضمن المؤلف خبراته الشخصية في زوايا الكتاب.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 04 من شهرِ صفر عام 1439

24 من شهر أكتوبر عام 2017م 

 

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)