إيران والعرب!
في البدء، لا يخالف أحد في أهمية الموقع والجوار لأيّ دولة، وإن تفاوتت الأهمية بين عدد من المجاورين، دون أن يعني هذا نفي الأهمية القصوى حتى عن الأباعد مكانًا وموضعًا. وربما لا يخالف أحد في مركزية استدعاء التاريخ لدراسة جذور العلائق ومصائرها المحتملة دون الاكتفاء به دون ما سواه. وقد يتفق القراء على أن من عايش وعاين وعرف الشعوب والعوائد والأعراف قد يغدو أقرب من غيره للإصابة، وأجدر بوضع اليد على المكامن الحقيقية لأبعاد هذه المسائل الإستراتيجية، بعد استكمال عدة الباحث ومنهجيته وآدابه.
هذه الثلاثية اجتمعت في كتاب عنوانه: العلاقة السياسية بين إيران والعرب جذورها ومراحلها وأطوارها، تأليف: عبداللطيف بن عبدالرحمن بن عبدالله الحسن، الذي صدرت طبعته الأولى عن مكتبة العبيكان عام (1439=2018م)، ويقع في (510) صفحات، ويتكون من مقدمة ثم خمسة أبواب، تحت كل واحد منها عدة فصول، وأخيرًا الخلاصة والمصادر التي بلغت خمسة وتسعين مصدرًا.
يدرس هذا الكتاب إيران متكئًا على تاريخها القديم ووقوفًا عند عصرها الحاضر، ويجلّي الحوادث المهمة في ذلكم التاريخ على اختلاف سماته، ويبحث في مزايا الموقع ولوازم الجوار، ويطل على الديانات والمذاهب والشعوب المكونة لبلاد فارس، وهذان الأمران هما ضلعا المثلث الذي أشرت إليه في المقدمة، وإن علم البلدان والجغرافيا لمسرح رحب للتاريخ، وإن فهم الشعوب لسبيل آمن لتفسير ما كان أو ما قد يكون، وقد عمر الكتاب بمادة علمية بلدانية وتاريخية ومجتمعية، ولغة رفيعة، بعيدة عن الصخب حتى مع المخالف.
ثمّ يكتمل بناء المثلث بباحث درس في مدارس النجاة الأهلية بالزّبير، وأكمل تعليمه في كلية الحقوق بجامعة بغداد، ثمّ أصبح مدرسًا بجامعة البصرة القريبة من إيران، وواصل الدراسات العليا في القانون متقنًا لغتي بريطانيا وفرنسا، ولم يكف عن البحث في شؤون التشيع والفرس وجذورهما، وصدرت له عدة كتب في هذا المجال. وقد استند المؤلف د.عبداللطيف إلى تدريسه طلبة من الشيعة والفرس، ومزاملته لعدد من الأساتذة من الطائفة أو العرق، إضافة لتمكنه في علوم الشريعة والقانون، وإلمامه بمناهج علمي الاجتماع ودراسات الإنسان “الإنثروبولوجيا”.
أما الكتاب فيتحدث الباب الأول منه عن تاريخ إيران القديم بما فيها من قبائل، وديانة، ودولة ساسانية ذات امتداد شمل العراق وأجزاء من الشام وتركيا، ومن المنطقي أن يكون الباب الثاني حول تاريخ إيران بعد الفتح الإسلامي، وقد كان فتحً مكرً، وتوسع كثيرًا في العصر العباسي، حتى نجمت ظاهرة الموالي، وهي الظاهرة المهمة التي أفرد لها المؤلف فصلين في هذا الباب؛ إذ كان لهم تأثير ثقافي وديني وسياسي وأمني حتى سطوا على الدولة في بغداد، وكانت لهم ثورات ضد الدولة العباسية، وحروب مع السلاجقة وغيرهم.
ويقف بنا الباب الثالث عند حدث مفصلي في تاريخ إيران وواقعها، بل وفي مسألة التشيع بعامة، وعنوانه إيران في العصر الصفوي، وهذا الباب مهم للشيعة قبل السنة؛ فما أحوجهم لتنقية مذهبهم مما أحدثه العصر الصفوي حتى يتخلصوا من زيادات كثيرة، ويقتربوا إلى جسد أمتهم الإسلامية الكبير، ويكتشفوا العلاقات الصفوية الصليبية، وهذ المسلك الرشيد مطروق من بعض علماء الشيعة ومؤرخيهم، والمرجو أن يستمر حتى مع التضييق والتخوين إنقاذًا للمذهب وشبابه من أفكار غريبة دخيلة. ومن موضوعات الباب أثر الأفغان الشيعة في إيران، وهجرة علماء جبل عامل إلى إيران، وموضوع جبل عامل وعلمائه جدير بأن يلتفت إليه، وعنه ألف أحد المؤرخين كتابًا لست أعلم عن توافره للبيع.
عقب ذلك نصل إلى الباب الرابع عن الفكر السياسي الإيراني وعلاقته بالعرب، وفيه فصل عن أثر فكر الشيعة الاثنا عشرية في إيران وبدايات ظهور ولاية الفقيه وتطور فكرتها، وفكرة النيابة عن الإمام الغائب لدى الصفويين. وفي الفصل الثالث بحث الكتاب العلاقة بين الشاه وعلماء الدين في إيران، وكنت قد قرأت سابقًا أن الشاه كان ليبراليًا في الداخل مضيقًا على العلماء، لكنه يتمسح بالعتبات “المقدسة” خارج الحدود، ويتلطف مع علماء المذهب البعيدين. وفي الكتاب نقل عن الإمام البرقعي الذي لم يسلم من الشاه أو من الخميني! وسيرة البرقعي قمينة بالنشر.
ويدرس الباب الخامس الثورة الإيرانية سنة 1979م، وفيه تتبع لثورة الخميني، وعرض للقوى السياسية في عهد الثورة الإسلامية، وبعضها تيارات ليبرالية أو يسارية أو قومية، وإن معرفة أحزاب إيران وشخصياتها لمن الأهمية بمكان. ومن بديع ما في هذا الباب على قصره، فصل يجلّي عناصر تكوين الشخصية الإيرانية وهي الانتماء القومي، والشعور الديني، والفكر اليساري، وتعدد القوميات، والتأثير الصوفي، والفروقات الاقتصادية، وانعزال الشخصية الإيرانية عن محيطها الإسلامي.
كما واصل د.الحسن فلي هذا الباب الطويل الإشارة عبر فصول مستقلة إلى القوة العسكرية بعد الثورة، ومضيق هرمز، واحتمالات الحروب مع إيران سواء كان الطرف الاخر عربيًا أو أمريكيًا أو إسرائيليًا. وجعل الفصل السابع من هذا الباب عن تدخلات إيران في البلاد العربية وتصدير الثورة وعلاقة إيران بما حولها من بلاد عربية وإسلامية. وعرج على الأقليات في إيران وهي أقليات عرقية ودينية تجعل الفرس والشيعة أكثرية لكنهم محاطون بمختلفين ومخالفين مجموعهم ليس بالقليل، وأي حراك منهم يربك إيران أو يصرفها عن استطالة العنق والمطامع لما وراء الحدود البحرية المتشاطئة معها على خليج عربي في أكثر جانبيه الشرقي والغربي معًا!
ومن لذائذ هذا الكتاب أنه لم يهمل التحولات الاجتماعية بعد الثورة، مع تكرار بيان أهداف الثورة الإيرانية ومشروعها التوسعي، ولم يغفل عن اتصال إيران بالصهيونية وهو اتصال لم ينقطع بعد زوال الشاه كما قد يظن البعض، وخاتمة الفصول كان عن التغير السياسي سواء في الداخل الإيراني الضاغط، أو في الخارج بعد حروب أمريكا الكلامية المعلنة مع إيران، وبعد حروبها الفعلية في أفغانستان والعراق بتحالف ظاهر مع إيران كذلك! والله يكفيناهم بأمر من أمره القوي الرشيد.
إن هذه الدراسة ضرورية لكل ذي عناية بالشأن الإيراني، وهي تستدعي التاريخ باعتباره الحكم الشاهد، وقد لاحظ الباحث د.عبداللطيف الحسن أن العلاقة بين إيران والعرب والسنة والشيعة مرت بثلاث حقب توتر بين القرن الرابع والسابع الهجري، وبين القرن التاسع والحادي عشر، وفي القرن الخامس عشر. ورأى الحسن أن الحرب أو الصراع بين العثمانيين وبين الصفويين تجاوز قرنًا ونصف القرن، كانت الغلبة فيه دائمًا لصالح العثمانيين.
كما وجد المؤلف أن الثورة الإيرانية فرضت نفسها على العالم الشيعي من خلال ولاية الفقيه خاصة بعد الحرب العراقية الإيرانية، ومن لطيف إشارات الكتاب أن الإحياء الشيعي استوعبته المؤسسة الدينية خلافًا للحال مع السنة. ويرى المؤلف أن التوتر القائم بين الطرفين السني والشيعي والعربي والإيراني هو نتاج عوامل هي الأحياء القومي، والأحياء الديني، والسياسة الدولية الفاعلة التي تحركها القوة الأمريكية على وجه الخصوص، فهي التي شاركت في إعادة تشكيل التركيبة الاجتماعية في العراق كما حدث قديمًا في الأحواز.
كذلك استبان للمؤلف والقارئ معه أن التمدد الإيراني يتكرر على مدى تاريخ العلاقة بين العرب وإيران، ويكون له دوافع فكرية داخلية في إيران تغذيه وتؤججه، إضافة إلى امتلاك القوة التي تجعل الأمة الفارسية تنتفش وتتعاظم، ويزيد هذه القوة غرورًا ما تراه من ضعف العرب، والانشغال في مشكلاتهم الداخلية، ولا أنجع في إبطال هذه النشوة العرقية، وإحداث إفاقة من تلك السكرة المذهبية، إلا بإكمال مسيرة التكامل الاقتصادي والسياسي بين بلدان الخليج العربية مثلما قال المؤلف، والله يجمعنا على خير، ويحمينا من كل ضر وشر.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 10 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1445
23 من شهر ديسمبر عام 2023م