محمد المفدى: النحوي الأول
بلادنا -المملكة العربية السعودية- هي مهبط الوحي، وموئل العروبة؛ ولذا فليس بغريب أن يكون لها القدح المعلّى والمقام الأسنى في العلوم المرتبطة بالشرع المطهر، واللسان القويم، والتاريخ الإسلامي والعربي، والأنساب والتراث، بل العجيب ألّا نكون في المقدمة فيها أو من المزاحمين على الصدارة والتوجيه في حقولها الخصبة، وهذا باب من أبواب تثبيت العراقة، وترسيخ السيادة، وتحقيق الأمن القومي، وسبيل من سبل تنشيط الاقتصاد، وازدهار السياحة العلمية، ورافد يغذي القوة الناعمة.
أقول ذلك لا تعصبًا، ولا تهوينًا مما لدى الآخرين من المسلمين والعرب، وإنما هكذا جرى القدر، وهذا هو المتوقع من لوازم التاريخ، ومقتضيات المكان، وتبعات الإرث السامي. والحمدلله على كثرة العلماء في بلادنا من علماء الشريعة وفنونها، وأشياخ اللغة بفروعها، وأساتذة التاريخ بحقبه، وحفاظ الأنساب ورواتها، ونقلة التراث والتقاليد وحماتها، وإنهم لسلسلة كريمة، وسند ذهبي، يعقب برشد الثاني منهم الأول، ويخلف بخير اللاحق منهم السابق، فلا تفنى المكرمات بالتعاقب المتوالي المحكم.
فمن أولئك الكرام الشيخ د.محمد بن عبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن بن حمد المفدى (1350-1445=1931-2023م)، المولود بأشيقر في إقليم الوشم بنجد السعودية، والمتوفى بالعاصمة الرياض يوم الأحد الثاني عشر من شهر جمادى الأولى الموافق للسادس والعشرين من شهر نوفمبر، بعد حياة ناهزت المئة، عمرها بفضائل ومكارم، وحفلت بمغانم ومحامد، وكان في جيله ومن جاء بعدهم من الحجج في الإنجاز العلمي والتعليمي والعملي، وغدا من الأدلة الشاهدة على أهلية قومه للنهوض بعلوم الأمة، وحفظ أمانتها، وعلى أثر الجدية في التحصيل والإمامة، وأن من سار على الدرب وصل.
أما إذا أردنا إلقاء نظرة عابرة على مكونات شخصية الشيخ الجليل؛ فسوف نجد أثرًا كبيرًا للوالد الذي استنهض عزيمة ولده الضرير، وحثّه مرة تلو أختها على طلب العلم بإيراد نماذج من العلماء فاقدي البصر، وتابعه في ذلك مع التيسير عليه، والإذن له بالسفر والرحلة لعدة مدن سعودية. وفي مسيرة الشيخ لطلب العلم رحلات كثيرة لم يقف ذهاب البصر حائلًا دونها، وكم في سير العلماء الذين ابتلاهم الله بفقد حاسة أو أكثر من حجة علينا، وطريق لتحفيز العاجز الكسول، وكم في الرحلة العلمية من مباهج وفوائد.
كما نجد في سيرورة الشيخ المفدى نحو العلم الاجتهاد البين؛ فقد حفظ النصوص الشرعية والأدبية والشعرية منذ صغره، وجلس بين يدي الأشياخ في المساجد والكليات، وارتبط بأكابر أهل العلم ودرس عليهم، وأثمرت هذه النهمة التي لم تتقاصر أو تنزوِ حتى مع تقدم العمر وبلوغ المراتب العليّة عددًا من الشهادات والدرجات، وعددًا من المؤلفات والبحوث والمقالات والتعقيبات والإشراف على رسائل عليا أو مناقشتها، مع بذل النفس لدارس أو مستشير، وكان أجلّ أعماله -أو من أعلاها كعبًا- رسالته للدكتوراة التي صرم فيها سنوات ثمان بمصر، وأصدرها في ثمانية مجلدات، وكانت أطروحته بإشراف د.محمد رفعت أحد حجج العصر في النحو.
ثمّ كان من فضل الله على الشيخ النحوي أن أصبح أول سعودي يحصل على درجة الدكتوراة في النحو من مصر -أو من أوائلهم-، وأيًا كان فهو أحد شيوخ النحاة الكبار في عصرنا وفي بلادنا. ولم يبخل بعلومه على طلابه في قاعات الدرس والبيوت والمجالس والمناقشات العلمية أو التعليقات على كتبهم. ومن حدبه وبعد نظره إقامة الدرس ولو كان الحاضر طالبًا واحدًا فقط، ولأجل هذا تقاطر أهل النحو واللغة إلى الاحتفاء به بعد تقاعده من العمل في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام وطلبه إنهاء التعاقد معه، وتتابعوا على الشهادة له، والإشادة به، وذكر محاسنه التي يستحقها؛ ولا جرم أن يكون هذا منهم وأكثر؛ فسمة اللغة ومن اتصل بها النبل والوفاء والشهامة والمروءة، ومن شهد جنازة الشيخ وحضورها رأى مصداق ذلك، والله يجعلهم شهود تزكية مقبولة له عند الله الرحيم الغفور.
ليس هذا فقط؛ فقد ارتاد د.المفدى مجالات لم تعهد ممن حرموا نعمة الإبصار؛ فتعلم الضرب على الآلة الكاتبة في شبابه، ودرس اللغة الإنجليزية مبكرًا، وحرص على التعامل مع الحاسب الآلي، ونجح في بعض التمديدات الكهربية، والأعمال الفنية التي لا يبرع فيها بعض من تبرق عيونهم، وتفتح أحداقها بسعة لافتة أحيانًا! ومن عزيمته المبكرة أنه اهتبل فرصة قدوم رجل من أهل بلدته “أشيقر” ممن سكنوا الزُّبير اسمه أحمد بن عبدالمحسن أبا حسين، عقب عودته للمملكة عام (1369=1949م)، وسبق له دراسة هذه الطريقة وإتقانها في بغداد؛ فدرس الشيخ المفدى على يديه قراءة “الخط البارز” المعروفة بطريقة “برايل”، وأصبح مع أ.د.محمد بن سعد بن حسين، وأ.علي السويد أول ثلاثة أتقنوا هذا النوع من العلم الخاص في المملكة، وقد نفع الله بهم من ابتلي بفقدان البصر حتى حمل الراية د.عبدالله الغانم وقام بها حقّ القيام، وتعاونت معهم وزارة المعارف حتى خصصت لهم فصولًا ومدارس حظيت بزيارة من الملك سعود وهي زيارة مساندة وشدّ أزر وتشجيع.
وهذه يا أيها القارئ العزيز الكريم خلّة حميدة لأولئك النفر بحرصهم وتتبعهم حتى أنهم ذهبوا لمقابلة من يجيدها في جدة لاحقًا، وصفة صدق وسلامة من الأنانية حينما ذكر الشيخ المفدى الأوائل معه ولم يزعم التفرد بها، وفيها وفاء لمن علمهم. وإنها لخصلة مباركة لأهل بلادنا الذين أتقنوا شيئًا من العلوم والمعارف والمهارات في غربتهم ثمّ نقلوها لمواطنيهم بإخلاص وبلا منّة، ونجدها جليّة عند العقيلات، وأهل الزُّبير، ومن ارتحل من وسط البلاد وشرقها وشمالها للخليج والعراق، أو سافر من غربها وجنوبها لمصر، وأخيرًا نضرع للمولى أن تتزايد بركاتها وتعظم خيراتها في جموع المبتعثين للدراسة في الخارج، الذين نرجو من الله أن ينفع بهم؛ فيكونوا خير رائد وسفير لبلادهم وذويهم ومستقبلنا المأمول.
وعودًا إلى الشيخ الراحل وخصاله، فهو الجريء المقدام في الدرس والتجربة، والصارم إداريًا بلا عسف، العميق علميًا دون بحث عن الغرائب والصعوبة، أوالخوض في لجج الجدال والتأويل حتى مع مكنته وقدرته خلافًا لما يتفوق فيه بعض الناس استعراضًا أو بلاء يضيع معه العلم والحلم والحكمة. ومن صفاته الحرص على نقاء المعتقد، وسلامة المنهج، وتجنب الخوض فيما لا يفيد، وإدامة التعبد والذكر والصيام، وتوقير الصلاة والأذان، والتقرب من العلماء، وخدمة طلبة العلم، والإنصاف مع نسبة الفضل لأهله؛ فحين سألوه عن أعظم النحاة في السعودية أجاب: الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، وهما أكبر عالمين شرعيين في المملكة إبان زمنهما.
كذلك منها حسن الأحدوثة والمعشر خلافًا لما يشاع -تعميمًا وظلمًا- عن النحاة من الحزونة والقسوة، ومن خصاله قوة الذاكرة، وفخامة الحضور مع هيبته، والاحتفاء بالجمال حتى جمال الخط الذي قد يغيب عمن يرى بعينيه أن يظهر الفرح بحسن الخط الذي كان يُوصى به لنيل الحوائج، وجُعل ثاني الفصاحتين؛ وإنه لكذلك، ولي مع الخط وقفة آمل أن يفتح الله عليّ بها، ويكتب لها الوقت المناسب. كما كان الشيخ مقبلًا على الحياة الدنيا ومباهجها، ويتبدى هذا في لطيف القول، وطلاوة السرد، وحلاوة الحكاية، وحسن اللباس، وزين المظهر، والسفر للسياحة، ولا غرو فهو كما أخبرني -بتأثر- رفيقه في السكنى بمصر الشيخ أ.د.محمد بن أحمد الصالح ذو جدية، وتصون، وتعبد، وابتغاء نصيبه الشرعي من زينة الحياة الدنيا، مع النأي عن أيّ ملهيات أو سفاسف من الأمور تأباها الديانة والفطرة ولو كانت تسوّق -زورًا وتلبيسًا- تحت مسمى الغسيل والكي!
ومن كماله عنايته بأسرته العريقة وأفرادها حتى مع سنّه العالية، ووضعه الصحي، وفقدانه للبصر، وهذا شأن عبق من طبع الأسر العريقة الذي بمثله نسعد ولأصحابه ندعو. ومن موافقات سيرته أن زمن دراسته للماجستير ثمّ الدكتوراة في مصر ترافق مع حروب ضدّ دولة “إسرائيل” على مصر وبلاد عربية أخرى، ثمّ شاء الله الواحد القهار أن يرتحل الشيخ عن الدنيا بعد أن عاش قريبًا من قرن، وهو ممتع بصحته وعقله وعلمه، وكانت وفاته في أيام حرب ضارية مع اليهود المحتلين لفلسطين، وإن الله لغالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد 19 من شهرِ جمادى الأولى عام 1445
03 من شهر ديسمبر عام 2023م