المهندسونَ: عقولٌ وآمال
طلبَ مني أحدُ المشرفين على موقع طلاب كليةِ الهندسة في جامعة الملك عبد العزيز بجدَّة، أنْ أكتبَ لهم مقالةً خاصة؛ وقد رأيتُ الكتابة عن المهندسين قديماً وحديثاً؛ لأنها مقالة موجهة إليهم بالدرجة الأولى؛ معتذراً عن تأخري في إجابة مطلوبهم.
والهندسةُ مهنةٌ شريفةٌ رفيعة؛ أربابها أهلُ عقلٍ وحكمة؛ وقد عُرفوا منذ القدم بتقدمهم في العقليات والمنطق، والحساب والطب، والنجوم والموسيقى، بالإضافة إلى براعة بعضهم في اللغة والفقه والحديث. وفي زماننا بز المهندسون غيرهم في الإدارة والتدريب، وعلوم المال والأعمال؛ حتى أن عدداً من المهندسين يديرون بعض المصارف والأسواق المالية، وكذلك كبريات الشركات ومؤسسات التنمية البشرية؛ والمكثرون من المشاركة بالبرامج التدريبية يشهدون بتميز المهندسين في التدريب.
وبلغَ من تغلغل المهندسين في مناحي الحياة؛ أن تساءل أحدُ الكتاب الليبراليين عن سبب وجود المهندسين على رأس بعض الجماعات الإسلامية، مثل حكمتيار وأربكان وحشاني وعياش وغيرهم؛ وهذه شهادةٌ غير مجروحة على انتشار التدين والتقى في أوساط المهندسين. ولأمريكا الصليبية الإرهابية في حربها ضد المسلمين حساسيةٌ من المتعلمين؛ وحين يكون المتعلم مهندساً تزداد هذه النفرة، لكنها تبلغ ذروتها مع المهندس المسلم الذي تبدو عليه سيما التدين، كما وقع مع مهندس الأجهزة الطبية عصام المهندس، ومع مهندس الحاسب الآلي سامي الحصين.
وقد ألَّف العلامة أحمد تيمور باشا كتاباً بعنوان “أعلام المهندسين في الإسلام” صدرت طبعته الأولى عام 1422 عن دار الآفاق العربية، تحت رعاية لجنة المؤلفات التيمورية؛ وذكر في كتابه تراجمَ عددٍ من المهندسين، إضافةً إلى بعض المصطلحات الهندسية، ونبذة عن التصوير والنقش عند العرب؛ ومما لاحظته في التراجم المذكورة طول عمر المهندسين، وتعمقهم في علوم أخرى، وأن الأندلس كانت بلد الكثير منهم ؛ وكأن الطبيعة الجميلة تزيد من اللياقة الذهنية والبراعة العقلية التي يحتاجها علمُ الهندسة. ولم يترجم في كتابه لأي مهندسةٍ ولو أنه عثرَ في بحثه المتعمق على امرأة بارعةٍ هندسياً؛ لما تواني في ذكرها رحمه الله رحمةً واسعة.
وللمهندسين المسلمين في ذمة التاريخ شهادةُ حقٍ حيث حفظتْ لنا التواريخُ الكثيرَ الطيب من وصفِ القصور والصروح، وما فيها من إحكامٍ وتشييد وتنميق.كما حفظت لنا طائفةً صالحة من أعمالهم كشقِ الأنهار، وعقد القناطر، وإجراء الماء، واتخاذ المصانع العجيبة، ونقل المقريزي في خططه أن مساكن الفسطاط كانت على خمس طبقاتٍ وستٍ وسبع. ولما شرعَ المنصورُ في بناء بغدادَ، قسَّمها إلى أربعةِ أرباع، وجعل على كل ربعٍ مهندساً، وضم إليه اثنين من رجاله للإشراف. وأجادَ المهندسون في حفرِ عين زبيدة؛ خدمةً للحجاج والمشاعر المقدسة وآثارُها الباقية خيرُ برهان.
وكان المجتمعُ الإسلامي يفتخرُ بالمهن والحرف والصنائع وبأهلها، خلافاً للوضع في هذه الأزمنة؛ وذكر العلامة البشير الإبراهيمي، أنه اطلع في مكتبة آل القاسمي في دمشق على مخطوط حافل، مارأت عينه مثله في موضوعه، وهو كتاب “بدائع الغرف في الصنائع والحرف” للشيخ محمد سعيد الحلاق؛ أرَّخ فيه لصناعات دمشقَ الجليلة، التي أخنى الزمان على أكثرها، وجلا فيه صفحاتٍ من مجدها الصناعي البائد. (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي جمع نجله أحمد طالب الإبراهيمي الجزء الثالث صفحة 566 نشر دار الغرب الإسلامي-الطبعة الأولى 1997).
وجمع الأستاذ عبد الباسط الغريب عدداً من العلماء الذين نُسبوا لحرفٍ امتهنوها أو كانت لآبائهم، وجلها حرف هندسية وصناعية، وذلك في كتابه “الطرفة فيمن نسب من العلماء إلى مهنة أو حرفة” نشر دار الراوي- الطبعة الأولى 1421. وعقد السخاوي فصلاً في “الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ” خصه بأنواع ما أُلِّف في أخبار الناس وطبقات الفنيين وغيرهم، وسردَ منها أربعين نوعاً. وكان لفظ “المعلم” لقب تكريمٍ لكبارِ ذوي الفنون، ثم أخذ يتراجعُ بتراجع الفنون في الشرق، حتى آلَ إلى ما هو عليه اليوم. ومن الطبيعي أن يكون الفنيون في أي مجتمعٍ أكثرَ من المهندسين؛ وآملُ ألا يكونَ الواقعُ خلافَ ذلك؛ علماً أن للفني قيمةٌ سوقية عظيمة في بعض بلدان آسيا الصناعية؛ لأن المصانع تقوم على جهودهم. وقد أورد تيمور باشا عن بعض مُتَرْجَمِيه أنَّ منهم مَنْ توصلَ لفنه بالتمرن لا عن علم درسه، وفي هذا تأكيدٌ على ضرورة ومزية الممارسة اليدوية، فليستْ الشهادةُ كلَّ شيء.
والهندسةُ علمٌ توارثته بعض العوائل؛ فكم من مهندسٍ ابنِ مهندس، ففي ترجمة موسى بن شاكر أنه كان بارعاً في الهندسة، لكنه تفرغ لعلم النجوم فكان بنوه: محمد وأحمد والحسن أبصرَ الناس بالهندسة والحيل “الميكانيكا”. ومن العوائل الهندسية بنو أبي الرداد الذين يعرفون الآن في مصر ببني الصواف، وقد تولوا بعض المهام الهندسية منذ زمن المتوكل العباسي، وظل فيهم قروناً متطاولة كما ذكر تيمور باشا. وكما أنه علمٌ متوارث؛ فهو لقبٌ متوارث لعددٍ من العوائل الكريمة في بلدان المسلمين، كالسعودية، ومصر، والأردن.
ولأوائلنا ولعٌ بترجمة كتب الفنون والعلوم التي تنفع المجتمعات الإسلامية؛ فكتاب “إقليدس” في الهندسة ترجمه ثلاثةٌ من أشهر العلماء، بثلاثِ ترجماتٍ مختلفة، واختصره عالمان، وألَّف على نسقه عددٌ من العلماء. (الموسوعة العربية العالمية الجزء السادس عشر صفحة 539.الطبعة الثانية- نشر مؤسسة أعمال الموسوعة 1419). بينما تراجعت حركةُ الترجمة في العصور المتأخرة، وتغير اتجاهها، ولهذا الموضوع المهم مكانٌ آخر يُبسط فيه.
وللمهندسين في زماننا جمعياتٌ ومنتديات؛ ونحن ننتظرُ منهم أن تكون هذه الجمعياتُ والمنتدياتُ مناراتٍ لخدمة الإسلام والمسلمين بل والإنسانيةِ جمعاء؛ ونعجبُ من تهاون بعض خيار المهندسين في تولي زمام الأمور لهذه الدوائر، التي قد يُستغل بعضها لنشر ما لا يرضاه المسلم العامي فضلاً عن المهندس العاقل المثقف؛ لأن ثمةَ جهاتٍ ترعى إشاعةَ السوء بكل طريق ماوسعهم الجهد وأمكنتهم الحيلة؛ علماً أن رسائل إخوان الصفا الباطنية دخلت للأندلس بواسطة مهندس يُدعى الكرماني.
ومن أخبار المهندسين الطريفة أن أبا علي المهندس المصري قد عشق فقال شعراً تلوح عليه الهندسة:
تقسم قلبي في محبة معشـر**********بكل فتى منهم هواي منوط
كأني فؤادي مركز وهم له ********** محيط وأهوائي لديه خطوط
ولما تغلب الروم على مرسيه، أكرمَ ملكهم الرقوطيَ المهندس وبنى له مدرسةً؛ فكان يُقرئُ بها المسلمين، والنصارى، واليهود، جميعَ ما يرغبون مما يتقنه من الفنون القديمة بألسنتهم. وهذا من ذكاء هذا المحتل في الاستفادة العلمية، خلافاً لما يفعله ائتلاف الاحتلال الصهيوني الصفوي للعراق الحبيب؛حيث قتلوا عدداً من علمائه وأساتيذه؛ والمشتكى لله القاهر وحده.
وفي ترجمة الحسن بن الهيثم، أنه وعد بعملٍ في النيل لم يُسبق إليه ينتفعُ منه الناسُ ومصر؛ فاستقدمه الأميرُ العبيدي الباطني الحاكم بأمره، فلما وقفَ ابنُ الهيثم على النيل، ورأى آثارَ مَنْ سبقَه مِن المهندسين ، تأكد من استحالة تحقيق وعده، فأعتذر من الحاكم الذي أظهر قبول العذر وأضمر الشرَ لابن الهيثم، ووكلَ إليه بعض الدواوين؛ فقبلها ابن الهيثم مضطراً، ثم أظهر الجنونَ والخبل، ولزمَ بيته حتى تيقن من وفاة الحاكم؛ فخرج من داره وأظهر العقلَ واشتغل بالتصنيف. وقد قررت جامعة فؤاد الأول عام 1939 (جامعة القاهرة الآن) تخليد اسمه؛ بإنشاء محاضرات ابن الهيثم التذكارية، لتُلقى بكلية الهندسة فيها.
وبلغ بعض المهندسين منزلةً رفيعة، حتى تولى أحدهم الوزارة لبعض أمراء الأندلس؛ وصاهر بعض الحكام أحد المهندسين، وحضر جنازته وصلى عليه، ولُقِّبَ بعضهم ب ” مهندس الحرم “. والهندسة من أكثر المهن في مجالس وزراء عدد من البلدان العربية؛ ومع ذلك فليس للمهندسين سُلَّمٌ وظيفي مميز كما لغيرهم من الوظائف والمهن.
وتشرئبُ أعناقُ المجتمع الإسلامي لأبنائه من المهندسين؛ ليقودوا نهضةً تقنية تسهم في رفع الصفة الاستهلاكية عن المسلمين، وتعزز من الاستقلالية الذاتية للأقطار الإسلامية؛ ويورد لنا العلامة محمود محمد شاكر خبرَ الجبرتي الكبير:حسن بن إبراهيم الجبرتي العقيلي ( 1110-1188 ) الذي كان فقيهاً حنفياً كبيراً، نابهاً عالماً باللغة والكلام، وتصدر للإمامة والإفتاء وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، ولكنه في سنة 1144 ولى وجهه شطر “العلوم” التي كانت تراثاً مستغلقاً على أهل زمانه؛ فجمع كتبها من كل مكان، وحرص على لقاء مَنْ يعلمُ سرَ ألفاظها ورموزها، وقضى في ذلك عشر سنوات حتى ملك ناصية الرموز كلها في الهندسة والكيمياء، والفلك والصنائع الحضارية كلها، حتى النجارة والخراطة، والحدادة والسمكرة والتجليد، والنقش والموازين، وصار بيته زاخراً بكل أداةٍ في صناعة، وكل آلة وصار إماماً عالماً في أكثر الصناعات، ولجأ إليه مهرة الصناع يستفيدون من علمه، ومارس كلَّ ذلك بنفسه، وعلَّم وأفاد حتى علَّم خدمَ بيته.
وروى ابنه المؤرخ أن طلاباً من الإفرنج حضروا إليه عام 1159 وقرؤوا عليه علم الهندسة؛ وأشار أبو فهرٍ -رحمه الله- إلى أنَّ طلاب الجبرتي اختفوا بعد احتلال نابليون مصر كما اختفى كثيرٌ من الكتب! ويرجح أن المحتلين قد أغروا بطلاب الجبرتي الكبير بعض سفهاء المجرمين لقتلهم. (بتصرف من كتاب المتنبي – محمود محمد شاكر صفحة 82-83، مطبعة المدني 1407).
ومما لايفوت التنبيه إليه ماذكره الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله- في كتابه معجم المناهي اللفظية:” إطلاق مهندس الكون على الله سبحانه لفظة مبتدعة من إطلاقات الماسونية كما نصوا على ذلك في كتبهم، إضافة إلى أن لفظ “مهندس” وأصله “مهندز” ليس من فصيح كلام العرب “انتهى مختصراً من (معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر أبو زيد، الطبعة الثالثة 1417 صفحة 445 دار العاصمة). ويقول أحمد تيمور باشا: ليس في كلام العرب زاي بعد دال؛ ولذا صير العرب زاي “مهندز” سيناً. وليت المشتغلين بالتعريب والترجمة، يستصحبون هدا الأنموذج حفاظاً على سَنَن اللغة العربية ونظامها.
أحمد بن عبدالمحسن العساف-الرياض
الجمعة 14 من شهر الله المحرم 1428