عبدالله الصبيح والمسار الصحيح
لا يختلف جدول الضرب سواء كان الضارب والمضروب في بلدة متدينة أو ملحدة، أو في بلد متقدم أو متأخر، وحتى بين الدولة الغنية التي تعرف الأرقام المتطاولة والدولة الفقيرة التي لا تتجاوز الخانات المعدودة فالناتج والطريقة سواء بسواء، ومثل علم الرياضيات علوم الصحة المرتبطة بالدواء والجسد، وأقسام الهندسة بأنواعها، وغيرها من علوم تطبيقية بحتة، مع أننا لا ننكر أن بعضها يتأثر بالموروث والثقافة والحضارة؛ لكن أصول هذه العلوم تبقى متقاربة.
بيد أن العلوم التي تسمى بالعلوم الإنسانية تختلف عن قسيمتها السابقة؛ فعلوم الاجتماع والنفس والتربية والبلدان والتاريخ والإنسان وأمثالها لها مساس وثيق الصلة وشديد الاتصال بالمجتمع ومكوناته التي تميزه، وهذا أمر عام لأيّ مجتمع مهما كانت أصوله الدينية واللغوية والتاريخية، وهو في حقّ أهل الإسلام آكد؛ لوجود المصادر الشرعية، وثباتها، ويسر الاستمداد منها بلا اعتساف، وسهولة النظر العقلي الصحيح فيها، وهذا هو المسار العلمي الصحيح لا ريب فيه.
وأتصور أن أستاذ علم النفس الاجتماعي الشيخ الدكتور عبدالله بن ناصر الصبيح (1378-1445) واحد من هؤلاء السائرين على ذلكم المسار الرشيد، والمنهج الحميد؛ فقد درس علم النفس في أمريكا، لكنه لم يحبس ذاته وعقله وما تربى عليه داخل الإطار الغربي كما يفعل جمع من الدارسين للعلوم الإنسانية، فيعيش بعضهم في قلق الانفصال بين روافد التكوين، وما وفد عليه من مفاهيم، ومن بخس فنسف ماضيه وتابع الآخرين دون تمحيص؛ فسوف يجد ممن تبعهم الزراية والاحتقار قبل غيرهم.
وقد وفق الله عالمنا د.الصبيح إلى تلقى العلم كما هو في مدارسه الغربية، ونظرياته الكثيرة هناك البازغة من رحم حضارتهم، ثم جعل هذا العلم محكومًا بأصولنا الشرعية، منقادا لها؛ فالصواب ما كان صوابا بمنطوق النص أو بمفهومه، والخطأ ما حكمت عليه تلك الأصول بالتخطئة، وليس في هذا المنهج أي مجال لمهادنة أو انكسار باسم الحياء أو المداراة أو الحكمة غيرها؛ فبأي وجه سيقابل المرء ربه حين يقدم أقوال البشر وعقولهم على حكم الله وقوله وأمره؟! وإنما الحكمة في البيان الواضح المبني على العلم والاعتقاد.
طبعًا هذا لا ينفي البتة أن أبواب الانتفاع مما لدى الآخرين، وسبل الاجتهاد في الموجود عندنا أو عندهم، باقية واسعة إن في المسكوت عنه وهو كثير، أو فيما يسع الخلاف فيه وهو كثير أيضًا، دون أن يضطر المرء للتعسف في نسف الأصول أو ليّ أعناق النصوص كي يرضى عنها مزاج في الشرق أو الغرب، ولذلك فحين طبع د.الصبيح كتابه في تأصيل علم النفس وجد قبولًا من أهل الاختصاص، ومن أكابر المشتغلين بتأصيل هذا العلم المهم والمؤثر والخصب جدًا.
كما أن د.الصبيح لم يحجز نفسه داخل تخصصه على أهميته، وإنما استثمره فيما وفق إليه حين توسع في العلوم الشرعية خاصة علوم القرآن والتفسير والسيرة، وما أعظم نفعها لدارسي علم النفس وممارسي العلاج النفسي والسلوكي. وكانت له فيما أذكر عناية بمقدمة ابن خلدون؛ تلك الدرة الفكرية الحضارية المنتسبة لأمتنا وثقافتها، التي حجزت لنفسها مواضع الإمامة والخلود رغمًا عن الكارهين، وصار الدارس الجاد من أمم الغرب والشرق يتحدث عنها بانبهار، وربما ملأ أشداقه فخرًا بذكرها والإشارة إلى قراءتها.
ثم كان من بركة هذا الرجل العالم الذي ارتحل عن عالمنا يوم الجمعة الثاني من شهر صفر، وصلي عليه ظهر اليوم السبت في جامع الجوهرة البابطين شمال الرياض، أنه نشر علمه واضحًا بينًا لطلابه والباحثين، وفيما ألقاه من محاضرات أو ألفه من كتب ودراسات. ومن نعم الله عليه أن جعل له إسهامًا في تفسير القرآن العظيم الذي فيه شفاء للناس، وإذهاب لغيظ القلوب وحنق النفوس، وذلكم لعمركم من أجلّ التوفيق وأسنى الشرف، فغدا الصبيح مباركًا في علمه وعمله وهديه ورأيه، ولله الفضل والمنة.
كذلك لم يزرِ أستاذنا بعلمه وتخصصه وحاشاه؛ فلم يدخل به إلى طبوليات المسائل التي تجلب الشهرة، وحمى لسانه وقلمه من الخوض فيما يسيل له لعاب وسائل التواصل الاجتماعي كي تعيش عليه زمنًا، وهجر ما يخلب ألباب بعض فئات المجتمع، ويجتذبهم إلى منح الثقة أو دفع المال دونما تبصر بغية راحة النفوس المتعبة، وإنما ساق العلم في إهاب من السمو والوقار، وحفظ المكانة الجليلة للتخصص وأهله، وما أيسر العبث والاتيان بالمضحكات، وما أصعب الجدية والرزانة والأمانة، والعاقبة لها قطعًا.
ومما يعرفه الناس عن د.عبدالله الصبيح -رحمه الله- حسن المعشر، ولطف الجوار، وجمال الزمالة، وكريم التربية لأنجاله، والترفع عن التوتر والهياج ودخيل الأفكار، والحث الدائم على السكينة والتعاون، مع تواضع ووداد، وحرص على النفع حيثما حلّ تعليمًا ودعوة وصنائع خير ومعروف، وبأيّ صفة كان طالبًا أو مبتعثًا أو أستاذًا أو محاضرًا؛ ولذلك تألم محبوه من مرضه الخطير الذي دهمه فجأة فصبر واحتسب وصرح بتجربته والله يكتبها من حسناته؛ ثمّ حزنوا لرحيله المبكي، وتكاثرت الدعوات له في آخر عصر الجمعة، وتزاحم المشيعون في المسجد والمقبرة، والله يجعل ذلك من عاجل بشراه، ويؤمنه في مثواه بعد أن ارتاح من دنيا رخيصة تكاثر أن يُقال فيها حتى ممن لم يبلغ الثمانين: لقد سئمت تكاليف الحياة!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 03 من شهرِ صفر عام 1445
19 من شهر أغسطس عام 2023م
8 Comments
كتب الله أجرك ورحم الله الدكتور عبدالله وغفر له وأسكنه فسيح جناته
جزاك الله خيراً أبا مالك. الدكتور الصبيح من الرواد المقدمين في تخصصه وفي تأصيل العلوم الإنسانية. غفر الله له ورفع درجاته وأحسن فيه الخلف.
مقال ماتع نافع وبإذن الله وافي
جعل الله البركة في ذريته وطلابه وعلومه
جزاك الله خيراً يا شيخ أحمد على ما كتبت عن ابن عمي رحمه الله وغفر له
رحمه الله وغفر له
والله ما علمت الا منك
صديق وترافقنا في السفر وكان أية في الجدية وحب نفع الغير
رحمه الله رحمة واسعة فلقد كان نعم الرجل سافرت معه فما وجدناه إلا خير من نصاحب وكان لنا نعم الشيخ ونعم المربي
رحمه الله وجزاكم الله خيرا يا أبا عمر
عظم الله اجركم واحسن عزاءكم نسأل الله للفقيد الرحمة ولكم ولذويه الصبر والسلوان انا لله وانا اليه راجعون