لغة وأدب

وكان الجواب شعراً

وكان الجواب شعراً

الشعر ديوان العرب وسجل حضارتهم؛ حفظوا به الوقائع والمآثر، وتعاقبوا على حفظه والاحتفال به جيلاً إثر جيل. وكان ظهور شاعر في القبيلة فتحاً إعلامياً يبتهج له السادة والفرسان؛ ليكون شاعرهم الناطق الرسمي، والمتحدث الوحيد عن مفاخر الحي، كما يتولى مهمة الدفاع والذب عن أهله وجماعته.

 وكم ارتقى بالشعر إنسان وعلا اسمه، وكم طورد به آخر وغاب نجمه، ورب رأس حصيد لسان كما قالوا في الحكم والأمثال وصدقوا. وكان للشعر سوق ومناظرات يحضرها الفحول؛ ليستمعوا للناشئة والشعراء الجدد، وكانت هذه التظاهرة الثقافية محل العناية والاهتمام من القبائل؛ ليعرضوا ما عندهم ويروا ما عند غيرهم.

 ومع مرور الأيام وتعاقب الليالي، فقد الشعر منزلته المتقدمة ومكانته العالية، لجملة من الأسباب منها: ظهور وسائل الإعلام والترفيه الحديثة، وانتشار العامية واللهجات المحلية، وكذلك ظهور أنواع من الشعر أفسدت الذوق الرفيع؛ مثل بعض الشعر الطلسمي الحديث، إضافة إلى الاهتمام بالأشعار الشعبية إلى حد الهوس أحياناً.

ومما زاد الأمر ضغثاً على إبالة، صيرورة الشعر سلعة تباع وتشترى؛ فثورة الشعر تغلي مراجلها في نفس إنسان لتجود قريحته بفيض من مشاعره -والمشاعر غير قابلة لنقل الملكية- لكنها في زماننا تنقل بلا عقد ولا شاهد، مادام هناك من يدفع ويغدق؛ ولو كان بليداً غليظ الإحساس، لا يصلح لشعر ولا نثر.

وهذه بعض القصص، كان الشعر عمادها والمخرج الآمن من مأزقها، أحببت أن أبرز فيها شيئاً من أثر الشعر قديماً؛ إضافة إلى مراعاة جانب الإمتاع والفائدة.

  • النمام:

 النميمة خلق شائن قبيح منهي عنه، والنمام دنيء وقح ولا كرامة، ومحروم من دخول الجنة ابتداءً كما في الخبر الصحيح. وقد سعى رجل إلى أمير العراق عبيد الله بن زياد، بالوشاية في الشاعر عبد الله بن همام السلولي، فأحسن الأمير حين تريث ولم يلتفت لغرور السلطة وشهوة العقاب، واستدعى الشاعر وعرض عليه التهمة أمام الواشي؛ فأجاب ابن همام مخاطباً رجل السوء:

وأنت امرؤٌ إما ائتمنتك خاليـاً ******** فخنت، وإما قلت قولاً بلا علم!

فأنت من الأمر الذي كان بيننا ******** بمنـزلة بين الخـيانـة والإثـم!

وحينها تهلل وجه الأمير، ورد الواشي متسربلاً بالخزي، وذهب عجز البيت الثاني مثلاً يجري على الألسن.

  • الزفاف الحزين:

ومع الخليفة “المثقف” المأمون -عفا الله عنه- الذي أمهر “بوران” ابنة وزيره الحسن بن سهل، مائة ألف دينار وخمسين مليون درهم، وأهداها وبذخ عليها مالا يُحفظ له مثيل قبل عصرنا، ومنح والدها خراج ثلاثة أقاليم، إضافة إلى عشرة ملايين درهم؛ في صورة متكررة من صور الترف الباذخ، والفساد في بيت مال المسلمين، الذي لم ينبعث له مجدد بعد عمر بن عبد العزيز رحمه الله.

ولأن أكثر النساء بركة أقلهن مؤونة؛ كما روي في الأثر، فقد كانت بودان ليلة زفافها ممن تحرم عليهن الصلاة والصيام؛ وما أن دخل عليها المأمون زوجاً مسروراً؛ حتى خرج من غير أولي الإربة. وفي الصباح جاءه أحمد بن يوسف الكاتب مهنئاً “بالانتصار في المعركة حين اشتداد الحركة”؛ لكن المأمون تنهد بحسرة وألم ممض، قبل أن يجيب قائلاً:

فارس ٌ ماضٍ بحربته ******** صادقٌ بالطعن في الظلم ِ

رام أن يدمي فريسته ******** فاتـقتـه من دمٍ.. بـدم ِ

  • حسد النبوغ:

 كان المتنبي مقدماً في بلاط سيف الدولة، ولأن الحظوة عند الكبراء مجلبة للحساد، فإذا صاحب الحظوة نبوغ وتميز كان الحسد لئيماً مضاعفاً؛ ولذا فقد نال المتنبي حسد من أبي فراس الحمداني -وهو الأمير الشاعر- ومن ابن خالويه- وهو عالم اللغة والنحو ومؤدب الأمير- فحاولا استعداء سيف الدولة على شاعره في مثال لا يعز نظيره عبر العصور، ونجحا في المكيدة يوماً؛ فضرب سيف الدولة صدغ المتنبي بمحبرة أسالت دمه، وأبهجت الحساد؛ لكن أبا الطيب بدهائه وبديهته الحاضرة، نغص بهجتهم حين قال لسيف الدولة:

إن كان سركمُ ما قال حاسدنا ******** فمـا لجـرح إذا أرضاكم ألم ُ

وبيننا -لو رعيتم ذاك- مـعرفةٌ ******** إن المعارف في أهل النُهى ذِمم ُ

  • النقاد:

امتدح أبو تمام أحمدَ بن الخليفة المعتصم، فلما بلغ قوله:

إقدام عمرو في سماحة حاتم ******** في حلم أحنف في ذكاء إياس

وحيث “لاتعدم الحسناء ذاماً” فقد قال هواة النقد لمجرد النقد: “إن الأمير فوق ما وصفت، ولم تزد على أن شبهته بأجلاف العرب”، فأطرق أبو تمام قليلاً؛ ثم أرسل قذيفته القاصمة:

لا تنكروا ضربي له مَنْ دونه ******** مثلاً شروداً في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره ******** مثلاً مـن المشكـاة والنبراس

ولهول الصدمة على النقاد، وشدة وقعها، أخذ أبو يوسف الكندي الفيلسوف -وكان من المشاركين في النقد- الرقعة ولم يجد فيها هذا الرد المفحم، فقال متفرساً: “إن هذا الرجل لن يعيش طويلاً”؛ وصدقت فراسته؛ حين توفي أبو تمام عن ثلاث وأربعين سنة.

  • لغة الرموز:

سافر أبو العلاء المعري في رحلة مثيرة ماتعة من الشام لبغداد، التي كانت موطن الحضارة والعلم والأدب؛ وحضر مجلساً أدبياً راقياً في منزل الشريف المرتضى، وخلال أحاديث هذا المنتدى، انتقص الشريف من شاعرية المتنبي؛ وكان شيخ المعرة يجلّ أبا الطيب، ويستكثر على الشريف انتقاده، فقال من فوره: يكفيه -أي المتنبي- أنه القائل:

لكِ يا منازل في القلوب منازل ******** أقفرت أنت وهن منك أواهل ُ

فاحمر وجه المرتضى وتغيظ، وصاح بغلمانه أن أخرجوا هذا الأعمى الحقير. وحين استفسر الحضور عن سبب هذا الانزعاج المفاجئ من بيت شعرٍ ليس فيه ما يريب، أجابهم المرتضى قائلاً: لقد كان هذا الأعمى يقصد قول المتنبي في نفس القصيدة:

إذا أتتك مذمتي من ناقصٍ ******** فهي الشهادة لي بأني كامل ُ

فعجبوا من ترميز أبي العلاء؛ ومن فهم المرتضى.

  • المدح الكاذب:

عاتب الخليفة المأمون، الشاعر الماجن أبا نواس قائلاً: ماذا أبقيت لنا إذ قلت في الخصيب أمير مصر:

إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ******** فأي فتىً بعد الخصيب تزورُ؟

ولأن الشعر لا يعذب بغير المبالغة؛ والشعراء يجري في دماء كثير منهم أمشاج خاصة للمدح الكاذب يتأكلون به، ويقصمون ظهر الممدوح، فقد أجاب أبو نواس قائلاً:

إذا نحن أثنينا عليك بـصـالحٍ ******** فأنت كما نثني وفوق الذي نثني

وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحة ******** لغيرك إنساناً فأنـت الذي نعني

وفي الختام أشير إلى كثرة هذه القصص وأمثالها في كتب الأدب، وإنما اخترت هذه النماذج؛ لشهرة شعرائها، ولاحتوائها على مادة مفيدة.

أحمد بن عبدالمحسن العساف – الرياض

الخميس 9 من شهر جمادى الأولى 1426 

 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)