عبدالوهاب أبو سليمان: عالم مكة المتفنن
توفي مع فجر هذا اليوم الرمضاني معالي الشيخ الأصولي المتفنن أ.د.عبدالوهاب بن إبراهيم بن محمد أبو سليمان (1356-1444)، وسوف يصلى عليه بعد صلاة الظهر-وأنا اكتب هذا المقال- في الحرم المكي الشريف، ويدفن في مقبرة المعلاة المكية، ليختم ذلكم العالم المكي الكبير حياته، ويبدأ رحلته البرزخية نحو الله والدار الآخرة مستمسكًا بمكة، وحبها، كما صنع بنشاطه العلمي المتين، فكان بها قبره كما كان بها مولده، ولا غرو فهو القائل: ” الانتساب إلى مكة شرف كبير وهي أحب بلاد الله وفيها بيته المعظم ولها من الفضائل ما يفوق أي مدينة أخرى على وجه الأرض، ولقد أطلق على الساكنين فيها ألقاب: جيران الله، وأهل الله، وغيرها، فهل هناك شرف أكثر من ذلك”.
يمتاز الشيخ البروفيسور عبدالوهاب أبو سليمان بتأصيل علمي متين للغاية، بدأه في مدرسة الأيتام بمكة التي تخرج فيها عام (1369)، وواصل سلوك هذا الدرب في المعهد العلمي بمكة متخرجًا فيه عام (1373)، ثمّ وفقه الله لملازمة عالم الحرم الشيخ الفقيه المالكي حسن بن محمد المشاط ملازمة تكاد أن تكون لصيقة لمدة سبع سنوات سمان من أيام دراسته الثانوية، فنهل فيها من علمه الشرعي فقهًا وأصولًا وقضاءً وحديثًا، ومن علمه اللغوي نحوًا وبلاغة، ومن علومه العقلية في المنطق ومناهج التفكير، ولا ريب أن يقبس الفتى النابه من شيخه النحرير جذوات سلوكية، ومنهجية، صبغت حياة عالمنا المكي البارز، ولم تستطع جامعات بيروت ولندن محوها أو التغلب عليها، ولذلك لم يتردد في وصف الحرم الشريف بأنه جامعة مكتملة الأركان!
عقب ذلك تخرج الشيخ في كلية الشريعة التابعة لجامعة الملك عبدالعزيز بجدة عام (1377)، تلك الكلية التي أصبحت فيما بعد نواة لجامعة أم القرى، وهذه الكلية بالمناسبة هي أول مؤسسة تعليم عالٍ في المملكة. ولم يكتف الشيخ بما حصله من العلوم في جنبات الحرم المكي الشريف أو في معاهد مكة وكلياتها الشرعية، وإنما سمت به همته السنية إلى الدراسة العليا، فتحصل على دبلوم في التربية من الجامعة الأمريكية ببيروت عام (1382)، ونال عام (1390) شهادة الدكتوراه من جامعة لندن في القانون مع توصية بطباعة رسالته، ومع الدكتوراه استطاع الحصول على شهادة دبلوم من الجامعة نفسها في القانون الإنجليزي والدراسات الحقوقية.
لأجل هذا نقول عن عالمنا بكل اطمئنان إنه فقيه أصولي قانوني مؤرخ بلداني، ومثقف كبير ذو علم غزير في قضايا المجتمع والتربية والتعليم والبحث العلمي، ويجد هذا القول سندًا يرتكن إليه بلا مفنّد في مؤلفات معالي الشيخ وكتبه وأبحاثه وندواته التي شارك بها، وفي محاضراته التي ألقاها في جامعات عالمية مثل هارفرد، وبوسطن، وديوك، ونورث كارولاينا، وفي جامعات إسلامية بماليزيا، وأخرى إقليمية مثل جامعة مفيد بقم في إيران، وجامعات في عمان والإمارات، ولولا تميزه الضاربة جذوره في منابت العلم وأصوله، ومستوى المادة التي لديه، لما استقبلته بعض الجامعات السالفة ليحاضر على طلبتها، تحفه هيبة العلم، ويلازمه وقار الأستاذية، وتحوط به هالات الإجلال والتقدير.
فمن كتبه وأبحاثه ما يتعلق بالفقه وأصوله، وبعضها ذات منزع تجديدي أصيل، وله يد في التأليف عن منهجية الكتابة البحثية في الفقه والأصول ترشد السالك وتدل الحائر حتى لا يخوض خائض في لجة فيغرق أو يُغرق، ومن هذا الباب مؤلفاته وجهوده العلمية الخاصة بأئمة المذاهب الفقهية الأربعة، والمدونات الفقهية خاصة المالكية منها. ومنها كتب في مسائل اقتصادية ومصرفية ونوازل فقهية حديثة، وعدد غير قليل منها يرتبط بالزكاة أو بالحج الذي جمع في التأليف عنه الفقه مع التاريخ والحضارة وعلوم البلدان للمشاعر المقدسة والمواضع المكية؛ ولا غرو أن يفعل وهو الشغوف بمكة وتاريخ مكتباتها ودروس الحرم فيها، والبصير بأماكنها ومواضعها وعلائقها حتى كتب عن ترابط الحرمين مع جامع الزيتونة بمناسبة مرور ثلاثة عشر قرنًا على تأسيسه، وهو الباب من العلم الذي يمكن أن ينسج على منواله مع جوامع المسلمين الكبرى وجامعاتهم مثل الأزهر، والأموي، والقرويين، وعليكرة، وغيرها.
أما في مجال العمل فللشيخ يد طولي في التعليم بجميع مراحله، وأسناها أعماله في التعليم العالي بجامعة أم القرى أستاذًا في كلية الشريعة، ثمّ عميدًا لها، ومشاركًا في لجان وعمادات تخص وضع المناهج، وتقويم الأبحاث، وشؤون المكتبات، والمخطوطات، والترقيات، والدراسات العليا، وغيرها. وفي عام (1413) سمي الشيخ عضوًا في هيئة كبار العلماء، وهو ذو عضويات عديدة داخل المملكة وخارجها، وجميعها ترتبط بما فتح الله عليه من علوم يزينها الفهم والعقل والروية، وتشير بالبرهان الوثيق على المكنة والبراعة اللتين حباه الله بهما.
كما فاز معالي شيخنا الأستاذ الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان بجوائز نفيسة، منها جائزة الشخصية الثقافية للمهرجان الوطني للتراث والثقافة “الجنادرية”، وجائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية عام (1434) وموضوعها “التراث الحضاري في مكة المكرمة” عن كتابه الذي فاز بجائزة أفضل كتاب عام (1428)، وعنوانه: “باب السلام في الحرم المكي ودور مكتباته في النهضة العلمية والأدبية الحديثة”، مما يدل على مكانة الشيخ ومؤلفاته في علوم التراث والمكان؛ ولا ريب أن يكون ذلك كذلك وهو الذي يقول عن دافعه لهذه العناية: “يكون عنوانًا يرمز إلى اهتمامنا بالعلم، وشاهد صدق على توظيفنا الأماكن التاريخية الإسلامية توظيفًا حضاريًا بعيدًا عن الانحرافات الفكرية والعقدية، وأننا نعي التاريخ الوعي السليم الذي لا يشوبه دجل، أو خرافة، نعطي كل شيءٍ حقه، وقدره من المحافظة والتقدير”.
ومن خصال راحلنا الكريم الرفيعة بعده الظاهر عن الإعلام المثير، وقصره نفسه وعلمه على الأروقة العلمية وساحاتها فقط؛ لأن جعل العلم وموضوعاته مادة للتشويش والإثارة ليست من صيانة العلم وتقديره وتبجيل حملته؛ ولذلك لم يسع الشيخ الحكيم إلى نشر آرائه العلمية بطريقة تبلبل العامة، وتفرح المتربصين، فهي اجتهادات عن علم وقناعة، ومكانها مع العلماء وفي ميادين العلم، وليست ورقة يستظهِر بها مرجف أو مغرض، أو موضوعًا يسدّ الفراغ في بعض الوسائل، ولا عجب أن يفعل عالمنا ذلك وهو الذي لم يتفاخر عند أقرانه أو عليهم بما يعلمه ويتقنه من علوم وفنون ومعارف ولغات؛ لأنهم من أبعد الناس عنها بحكم التعمق في التخصص، أو ضعف العناية ببعض العلوم.
كذلك من خصاله التواضع الجم، وهضم النفس، ونكران المكانة، فكان يشتري الكتب من المكتبات وهو حريص ألّا يعرفه أحد، وإذا حضر لمؤتمر جلس في صف متأخر ومثله جدير بالصدارة، حتى أن معالي الشيخ أ.د.عبدالله التركي أصرّ عليه بأن يتقدم وإلّا نزل هو من المنصة التي يجلس عليها بحكم كونه متحدثًا. ومن خبره كثرة إشهاره لتاريخه القديم في مدرسة الأيتام إبان التحاقه بها طفلًا خصوصًا إذا سمع من الناس تفخيمًا له وتبجيلًا؛ فيذكر بداياته لمن لا يعلمها كي لا تتعاظم نفسه. وكان يواسي من وقعت عليه مظلمة في الجامعة أو غيرها، ويستمع للنقد وإن كان حادًا دون أن يدخل في عراك أو سجال مع صاحبه.
وإن الشيخ المختلف في مظهره عن جلّ علماء الشريعة في المملكة لم يصيّر من هذا الاختلاف الشكلي أساسًا لديه، وهو عند بعض الناس مسألة جوهرية لا يملّ من إعادتها للواجهة سواء ممن وافق الشيخ على اجتهاده أو خالفه فيه؛ ولم يحل هذا الاختلاف اليسير دون عضويته اللافتة في هيئة يرأسها ابن باز الذي يحتفي كثيرًا بالشيخ المكي، ويعرف له قدره، حتى قرنه أ.د.عبدالوهاب بالدعاء مع والديه لما وجده لديه من تودد ولطف. كما عرف منزلة العلامة الراحل أشياخ البلد الكبار، ولم يفت على الموفقين منهم فرصة الانتفاع من العالم الكريم المفيد البارع؛ لأن أهل العلم والعقل يعلمون يقينًا أن الرجل يشاركهم في الأصول، والتكوين، والغايات النبيلة لخدمة شريعة رب الأرض والسماء، ونفع عباده، وخدمة بلاده وبقاعه.
اسأل المولى الرحيم أن يحسن وفادته في خواتيم شهر رمضان، وأن يلهمه حجته، ويجعل ما قدم إليه خيرًا مما تركه، وأن يمن عليه بالأمن والسرور وانتظار قيام الساعة، وأن يعظم له الأجر على علمه وجهوده ومؤلفاته، وعلى مصابه الذي امتد سنوات عددًا. والعزاء كل العزاء لعقيلته السيدة فاطمة الكردي، ولنجله أنس، ولكريماته سحر، وسمية، وجمانة، وهبة، ولأقاربه الأدنين فمن بعدهم، ولطلابه وأهل العلم قاطبة أينما كانوا، ولمكة التي نحبها وتهوي الأفئدة لها ولحرمها الأقدس، ونحب أهلها، وتاريخها، ومواضعها، تعبدًا لله، وتأسيًا بالنبي الأكرم الذي ولد بمكة، وخرج منها كارهًا، وكانت أحب بقاع الله إليه.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 26 من شهرِ رمضان المبارك عام 1444
17 من شهر إبريل عام 2023م
2 Comments
رحمه الله تعالى واسكنه فسيح جناته
وجزاكم الله خيرا على هذا المقال النافع الرصين والترجمة الموجزة الرائعة ونفع بكم وحفظكم.
قرأت مقالك الأخير عن معالي الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان
ودعوت لك في ظهر الغيب
وبقية مقالاتك في المدونة .. لا فض فوك