جائزة الملك فيصل خلال نصف قرن
“مجد الأفراد لا يصنعه الجاه والنسب والحسب، وإنما تصنعه أعمالهم العظيمة الهادفة الى خدمة عقيدتهم وخير أمتهم وبلادهم والإنسانية كلها“، هكذا يقول في كلمة له منشورة الأمير خالد الفيصل رئيس هيئة جائزة الملك فيصل، تلك الجائزة التي أعلن الأمير عن تكوينها ونشأتها عام (1397=1977م)، ومنحت أول مرة في عام (1399=1979م) في ثلاثة مجالات هي خدمة الإسلام، والدراسات الإسلامية، واللغة العربية والأدب؛ وإنها لمن خير وداع قرن هجري سيتصرم، واستقبال آخر سيبدأ عام (1401).
ثمّ أضيفت لهذه الجائزة الباهرة جائزتان اثنتان، كانت الأولى عام (1402=1982م) في تخصصات الطب، ومنحت لمن يستحقها مباشرة، بينما جاءت الثانية عام (1403=1983م) في حقل العلوم، ومنحت في عام (1404=1984م) بعد أن حجبت في عامها الأول (1403=1983م)؛ مما يدل على أن الجائزة ليست هبة أو عطيّة تأتي بيسر، وأن اختيار الفائزين يعبر بمراحل مرهقة من الفحص والتدقيق والاستيثاق؛ ولذلك اكتسبت جائزة الفيصل مكانة عالمية، وسمعة عليّة، وصارت من مفاخر الجوائز، ومن أسمى الأماني، وكم من مرة ومرة سبقت غيرها في تكريم العلماء، وكم من فائزٍ بها تبعتها جائزة نوبل وغيرها في الاحتفاء به.
وتشتمل الجائزة على براءة من الورق الفاخر مكتوبة بخط عربي مبين، وعليها توقيع رئيس هيئة الجائزة الأمير خالد الفيصل. وتحفظ البراءة داخل ملف من فاخر الجلد، وعليها اسم الفائز، وملخص بأعماله التي أهلته للظفر بها. ومن مكونات الجائزة ميدالية ذهبية وزنها عشرون غرامًا من عيار أربعة وعشرين قيراطًا، وعلى واجهتها الأمامية صورة الملك فيصل واسم فرع الجائزة بالعربية، ويحمل الوجه الثاني شعار الجائزة واسم فرعها بالإنجليزية، وآخر شيء شيك بسبعمئة وخمسين ألف ريال للفائز الواحد، أو يقسم هذا المبلغ بالتساوي بين الفائزين إذا زاد عددهم عن واحد.
وخلال أربعة وأربعين عامًا (44) تقع بين عامي (1399-1444=1979م-2023م)، فاز بالجائزة مئتان وتسعون عالمًا أو كيانًا (290)، ينتمون إلى أربعة وأربعين بلدًا (44) من جميع قارات العالم. وقد حجبت جوائز الفروع ستًا وعشرين مرة (26)، مع ملاحظة أن جائزة خدمة الإسلام لم تحجب البتة وأنعم بخدام الدين المرتضى. وكذلك جائزة الطب لم تحجب مع أن عام (1991م) حسب موقع الجائزة لم يذكر فيه اسم فائز ولا خبر حجب، بينما حجبت جائزة الدراسات الإسلامية أربع عشرة مرة (14)، وجائزة اللغة العربية والأدب عشر مرات (10)، وجائزة العلوم ثلاث مرات (03).
والحجب يمنح الجائزة قدرًا أكبر من القوة والمصداقية، ويصيّر الجائزة أكثر اعتزازًا وإعزازًا، ويؤكد مرة أخرى على أن الهدف ليس المنح وملأ الفراغ، وإنما إبراز المستأهل المستحق. ولم تقتصر الجائزة على الأفراد إذ منحت لسبع مؤسسات في فرع خدمة الإسلام، ولمؤسسة واحدة في فرع اللغة والأدب، وأتصور أن المستقبل سيحفل بالمزيد لكثرة المشروعات المؤسسية المباركة التي يمكن أن ينالها التكريم. وفي بعض السنوات تقاسم الجائزة فائزان أو ثلاثة، وأظهر ما يكون ذلك في فرعي الطب (27) مرة والعلوم (24) مرة، ثمّ اللغة والأدب (19) مرة، وتتساوى الدراسات الإسلامية مع خدمة الإسلام بكون الفائز فيها أكثر من واحد بواقع ثمان (08) مرات.
كما أن الجائزة ذهبت إلى إحدى عشرة فائزة يمثلن 04 % من مجموع الفائزين، وأكثر دولة فاز مواطنوها هي أمريكا بسبعة وستين فائزًا (67)، ثمّ مصر وعدد الفائزين منها ثمانية وثلاثون فائزًا (38)، وتليها بريطانيا إذ فاز من الإنجليز تسعة وعشرون فائزًا، ومن السعودية بلد الجائزة فاز ستة وعشرون فائزًا (26)، وبعدها المغرب بأحد عشر فائزًا (11)، فالأردن وكندا بتسعة فائزين (09) لكل بلد، ثمّ العراق وألمانيا بسبعة فائزين (07) من كل دولة، وتبدأ الأعداد بالنزول بعد ذلك، وما أحرى الجائزة بصناعة بيئة خاصة أو رابطة تجمع الفائزين بها ولو عن بعد.
وقد فاز بالجائزة جميع ملوك السعودية منذ عام (1401=1981م) وبعض زعماء العرب والمسلمين، وجمع غفير من علماء المسلمين، ومفكريهم، ومثقفيهم، وأثريائهم المنفقين، مثل –مع حفظ المكانة والتوقير– ابن باز، والألباني، وابن عثيمين، وفؤاد سزكين، وإحسان عباس، والندوي، ونصيف، والشارخ، والطنطاوي، والحصين، وجمعه الماجد، وعبدالسلام هارون، وناصر الدين الأسد، وصالح بن حميد، وسوار الذهب، وسليمان الراجحي، ومحمد عبدالخالق عضيمة، والأمثلة تعز على الحصر، إضافة إلى مؤسسات إغاثية أو علمية أو لغوية أو تعايشية أو فكرية.
وطبعًا فاز بالجائزة علماء أفذاذ، وأسماء لامعة، في جميع الفروع، ومن بلدان كثيرة، حتى أن جائزة الدراسات الإسلامية، وجائزة اللغة العربية والأدب، قد ذهبت إلى فائزين ليسوا من العرب، وليسوا من المسلمين أحيانًا، وموقع الجائزة ينبئك عنهم؛ ولا ينبئك مثل خبير. وتعلن موضوعات الجائزة مبكرًا، وتستقبل الترشيحات من مؤسسات علمية منتشرة في أصقاع الدنيا، ثمّ تعرض على اللجان للدراسة والتقرير، ولجائزة خدمة الإسلام مكانة خاصة ومسار محدد لمركزيتها، وبعد نهاية أعمال اللجان تشهر أسماء الفائزين، وتسلّم الجوائز في حفل مشهود رفيع المقام والمقال.
إن هذه الجائزة لمن مصادر القوة التي يحسن بنا المحافظة عليها، والحرص على مكانتها المنبثقة عن حياديتها، ودقتها، والابتعاد عن أي حسابات غير علمية أو منهجية. وهي قوة ناعمة للبلد، وتمثل مع أخواتها من جوائز الملوك والأمراء والأميرات والأثرياء والوجهاء، إحدى سبل كسب القلوب قبل المواقف، إضافة إلى إحياء مآثر الأمة وأمجادها العلمية التي أفادت منها حضارات وعلوم بما نعرفه، وبما طواه الإنكار والاستكبار بيد أنه سيظهر ولا بد، وأيًا يكن فالجوائز جنائز لكثير من التارات والعداوات والإحن!
ومما يشار إليه في هذا الباب أن موقع الجائزة الإلكتروني حافل بكل ما يخصها، وفيه تسجيل لوقائع حفلات التكريم، وكلمات الفائزين، وبعضها كلمات ملكية أو رئاسية لها وقعها ودلالتها، وبعضها كلمات مميزة لها تاريخ أو حكاية مهمة، مثل كلمة شيخ العربية محمود محمد شاكر، وغيرها. ولربما أن الجائزة ستضيف بعدًا رائعًا إذا كان نظامها يحتمل ذلك؛ حين تذهب بين فينة وأخرى لأحد علماء المسلمين الراحلين الذين برزوا في مجال من مجالات الجائزة الخمسة، وما أكثرهم، وما أجدرنا بالتذكير بهم؛ رحمة الله ورضوانه عليهم جميعًا، وعلى صاحب الجائزة ومن خدمها أيًا كان موقعه؛ لأن استمرار الجائزة دليل على حسن النية والإدارة والمتابعة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الاثنين 21 من شهرِ شعبان عام 1444
13 من شهر مارس عام 2023م