شريعة وقانون عرض كتاب

مسائل عن تجديد الفقه الإسلامي

مسائل عن تجديد الفقه الإسلامي

أهدي إليّ منذ ساعات في ليلة سالفة أنيسة هذا الكتاب بعنوان: التجديد في الفقه الإسلامي، تأليف: الأستاذ الدكتور محمد بن أحمد بن صالح الصالح، صدرت طبعته الأولى عام (١٤٤٤=٢٠٢٣م)، ويقع في (١١٤) صفحة مكونة من تصدير فمقدمة، ثمّ خطة البحث وتمهيد، يعقبها خمسة فصول وخاتمة البحث، فأهم مصادره التي بلغت ستة وخمسين مصدرًا منها القديم والحديث، وفيها الكتاب والبحث وأوراق العمل، وبعضها مطبوع في كتاب أو ضمن أعمال مؤتمر علمي، وهي لا تختص بمذهب فقهي واحد، ولا تقتصر على علماء بلد دون غيره.

عرض أ.د.نظير محمد عياد أمين عام مجمع البحوث الإسلامية بالجامع الأزهر في تصديره للكتاب أهمية البحث، والحاجة الملحة له حتى مع وجود كتب ودراسات أخرى حول موضوعه. والحقيقة أني بعد الفراغ من قراءة هذا الكتاب ازدادت أهميته لدي؛ لوضوح عبارته، واختصار مادته، وقوة حجته، وسهولة فهمه من قبل أيّ قارئ، إضافة إلى تمسكه بالأصول حدّ التشبث الممدوح، وانفتاحه على الجديد والمستجدات دونما تفلت ممجوج.

ثمّ إن المؤلف الشيخ البروفيسور الصالح ما برح يلفت الانتباه في كل موضع إلى حقيقة راسخة، هي أحد ثوابت كتابه هذا، وخلاصتها أن التجديد لا يمس الأركان، ولا العقائد، ولا ما جاء بدليل قطعي الثبوت قطعي المعنى، ولا ما أجمع عليه العلماء، وأنه ينصّب على الفروع والنوازل، ويدل على خصوبة الفقه ومرونته، دون قابلية لأيّ تطويع أو اعتساف، ويؤكد على مرونة النصوص وعمومية المبادئ، وهو القول الذي سيتكرر بمعناه من أول الكتاب لآخره، ديانة، وإعذارًا، وتحرزًا، وعسى أن تنال المؤلف والكتاب السلامة من سوء فهم يؤول بالمحتوى إلى تفريط أو إفراط إعمالًا أو إهمالًا، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم!

يبحث الفصل الأول عن حقيقة التجديد الفقهي وفيه أربعة مباحث، ويدرس الفصل الثاني التجديد الفقهي والاجتهاد بأربعة مباحث أيضًا، بينما وقف ثالث الفصول مع التجديد وفقه المقاصد في مبحثين فقط، ثمّ جاء الفصل الرابع عن ضوابط التجديد الفقهي بمبحثين اثنين، وآخر الفصول وخامسها كان عن التجديد الفقهي في حياتنا المعاصرة الذي اشتمل على مبحثين اثنين كذلك. وغالب الفصول متوازنة في حجمها، بعيدة عن الإسهاب، ومن مزاياها التقسيم ذو الدلالة، وتحاشي تكلّف العبارة، أو الحشو المغيّب للمعنى.

إن التجديد المبتغى لا يعني استحداث شيء جديد أو غريب، وإنما تكمن حقيقته في إعادة البالي إلى ماكان عليه قبل البِلى؛ فالحوادث والوقائع لا تنحصر، وهي غير متناهية، أما النصوص فهي متناهية، ولذا فلا مناص من الاجتهاد والتجديد، مع بيان أنه من الواجب على المجدد بذل الجهد، وحماية جناب الشريعة، واستفراغ الوسع للوصول إلى حكم شرعي صحيح يرضى عنه الرب، ويتوافق مع مراده.

إذًا فالتجديد الفقهي المقصود فيه استعادة لنضارة الفقه وبهائه، وليس منه تطويع فقهنا الشرعي للأمزجة والرغبات، وهو تنمية من داخل الفقه مع الاحتفاظ بخصائصه وطابعه، وحاشاه أن يكون دعوة للتخلص من القديم، أو هدمه، أو تحريف نصوص الشرع، أو تأويل أحكامه الثابتة، أو تسويغ الجرأة عليها، والتملّص من لوازمها؛ وإنما هو تجديد شرعي، يمضى على وفاق قواعد اللغة، وأصول الفقه، ويخطو مقتديًا بطرقه الرشيدة المسلوكة من علماء الأمة الأفذاذ، وهذا التجديد المنشود يسير في خطين متوازيين حسب عبارة الشيخ المؤلف هما: الارتباط بالأصل، والاتصال بالعصر، وإنه لتعبير فيه الغنية والحرز لمن تدبر وعقل وأنصف.

وتبرز الحاجة إلى تجديد الفقه في الأحوال التي بُني فيها الحكم على مقتضى المصلحة المعتبرة إذ ينبعث سؤال مؤداه: هل تلك المصلحة قائمة الآن أم لا؟ ومن الأحوال الداعية إلى التجديد إذا كان الحكم بحسب العرف السائد المقبول؛ لأن الأعراف ربما تتغير. وتزداد الحاجة إلى التجديد مع التطورات المتتابعة في مجالات شتى من الحياة، وهي تطورات لا تقف، وما أوسع سبل التجديد لكل أمر لا نص فيه، أو وردت نصوصه بلا قطعية.

كما أن التجديد الشرعي تواجهه تحديات منها الجمود حتى من بعض طلبة العلم، والريبة والتوجس من الحكام والساسة، وتشرذم الأمة وانقسامها، والتطفل على العلم والفقه والفتوى من طلاب شهرة وظهور ومال، أو من حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام الذين بُليت بهم الأمة والدعوة الإسلامية، هذا غير العداء المستكن لديننا وشريعة ربنا في الوجدان الغربي؛ بما يجعلهم غير مستعدين لقبول أيّ شيء رباني المصدر والوجهة، خاصة ما كانت صبغته إسلامية.

وليس أمر التجديد من السهولة حتى يتقحمه أيّ أحد كأنه من الكلأ المستباح أو المباح؛ فلا مناص للمجتهد المجدد من العلم بكتاب الله وما فيه من محكم ومتشابه، ومطلق ومقيد، وناسخ ومنسوخ، وعام وخاص، مع أسباب النزول، ويضيف إليه العلم بالسنة الشريفة رواية ودراية، ثمّ العلم بمواطن الإجماع والخلاف، والقياس، واللغة العربية، وأصول الفقه، والبصر التام بواقع الناس، وفوق ذلك كله يمتاز المجدد بجودة القريحة، وإن هذه الشروط لكفيلة بطرد فئام من الهجامين على الفقه وتجديده، حتى تلقي بهم مجردين من الأهلية، مفضوحين عند الخلائق عقوبة لهم، وتنكيلًا بهم، وزجرًا لغيرهم.

والاجتهاد يكون مع ورود النص وبدونه، وهو مع النص بياني أو تعليلي أو تنزيلي، وبدونه يكون قياسيًا واستصلاحيًا وتنزيليًا. ولابد للمجتهد مع وجود النص من فهمه وتمييزه، ومعرفة درجة قطعيته ومعانيه، ثمّ يجتهد في تنزيله على الواقع، وهذا يستلزم فهم الواقع، وتحقيق المناط، والنظر في المآلات، واعتبار المقاصد، وإذا كان فهم الواقع يسيرًا على البعض؛ فإن تحقيق المناط لا يقوى عليه غير العلماء، وأما النظر في المآلات فشأن الملهمين الموفقين، وقليل ما هم، والحذر الحذر من مسألة اعتبار المقاصد؛ فهي مزلة أقدام إلّا عند من آمن واتقى وأحسن.

لأجل ذلك فلفقه المقاصد ضوابط منها الإلمام بنصوصها، ومراعاة مراتب المصالح والمفاسد، وإدراك فقه الواقع، وملاحظة تغيّر الأعراف. ولارتباط هذا الفقه بالمصالح فقد بينها المؤلف بأن المقصود منها المصالح الربانية البعيدة عن الهوى، وهي إما ضرورية أو حاجية أو تكميلية، ومنها المعتبر والملغى والمرسل. وللعمل بها شروط منها التوافق مع مقاصد الشريعة، وأن تكون حقيقية لا وهمية، وأن توصف بأنها عامة كلية وليست فردية أو فئوية، وألّا تسبب تفويت مصلحة أعم منها أو مساوية لها، وهي بهذه القيود شأن خطير يوزن بالموازين الشرعية الدقيقة، لا بموازين الأهواء والمطامع والشهوات.

وللتجديد الفقهي ضوابط مثل أن يقتصر على ما يجوز فيه الاجتهاد، وأن يرتبط بواقع المسلمين، وأن يكون قابلًا للتطبيق، وأن يترافق معه إثبات أدلة المسائل وبيان عللها. وللمجدد ضوابط على رأسها أن يمتلك أدوات الاجتهاد، وأن يكون عدلًا عارفًا بمقاصد الشريعة، مدركًا لأحوال الناس وأعرافهم، وأن يبذل للناس نفسه وعلمه فيما يرفع عنهم الجهالة، وينفعهم في دينهم ودنيهم. وبمثل ذلك يصدر الفقه وتجديده عن الفقهاء المتبحرين، فيدرك الصواب، ويصون الفقه التجديدي عن التخبط، ويحرسه من التلاعب، ويزيد من السياج المتين حول الفتوى، وبهذه الضوابط يبقى الفقه قائمًا يتصدى للواقع، لا يخفت صوته، ولا يتوقف قوله في كل مسألة مهما استجدت وكيفما تأتت.

ومن سبل هذا التجديد تيسير ما ورد في كتب الفقه، وإعادة صياغته وفاق متطلبات العصر ولغته المفهومة، خاصة في المقادير والشركات الجديدة والزكاة في التجارات المستحدثة، وبحث النوازل كافة سياسية واقتصادية وطبية وتقنية واجتماعية وغيرها، مع ضرورة الانفتاح على المذاهب الفقهية السنية الأخرى دون تتبع الرخص المردية، والحرص على الاجتهاد الجماعي لما فيه من بركة ووحدة وثقة وصواب. وصفوة القول إن تجديدًا هذا شأنه وصفته سيحقق اليسر، ويرفع الحرج، ويجلب المصالح، ويدرأ المفاسد، ويواكب العصر، ويبني الحضارة، ويحمي العلم من الدخلاء والأدعياء والمغرضين.

وآخر صفوة للقول المقال هي أن شيخنا أ.د.محمد بن أحمد الصالحعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريفقد اجتهد ونصح وأبان، وجدير بهذا الكتاب وأمثاله أن يفاد من مضمونها ونصحها، وأن يقتبس من صوابها ورشدها؛ فما أعظم دين الله، وما أوسع الفقه، وما أدوم حركتهما التي تقيهما من العوارض، وتحول دون تخلفهما؛ إذ حقهما التقدمة والقيادة، ولو فهم الناس هذا المغزى ووعوه، ونشط الفقهاء في إيضاحه وخدمته؛ لما وجدت الأفكار الزائغة مكانًا إن في الأذهان، أو داخل الأنظمة، أو عند التطبيق.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

ليلة الثلاثاء 17 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1444

10 من شهر يناير عام 2023م

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)