محمد القنيبط وأصناف من البر
أصدقكم القول؛ فمذ عرفت نفسي لا أميل كثيرًا لقراءة مقالات الصحف والمجلات؛ بسبب ضيق الوقت، وكثرة المنافسة في عالم المطبوع، ولأن بعض الأعمدة تُمنح لغير ذي أهلية أو استحقاق؛ فصرفت هذه الفئوية قراءً كثر عن المتابعة، وحَرمت من أقلام صادقة، وعقول منيرة، والحمدلله على تعدد الوسائط الآن، وانكسار الاحتكار. ومع موقفي هذا إلّا أني كنت أحرص أحيانًا على قراءة زوايا محددة، أو مقالات لكتّاب بأعيانهم، ومنها زاوية في مجلة اليمامة للكاتب الدكتور محمد بن حمد القنيبط، إذ لفت نظري، وأعجبتني لغته، ووضوحه، وبعده عن التزلّف، وعرفت فيما بعد أنه من أهل عنيزة، ومن الأساتذة في كلية الزراعة بجامعة الملك سعود.
أشتهر أ.د.محمد بن حمد بن محمد بن إبراهيم القنيبط ببره بوالديه وبوالدته موضي بنت حمد العليان على وجه الخصوص برًا مباشرًا، وبرًا غير مباشر، وفي الحياة وبعد الممات، وهذا من مقتضى الديانة، ولوازم حسن التربية، والنبل، وهو ديدن أبناء الأسر العريقة، والأعراق الأصيلة؛ فالعقوق لا يتسرب إليهم، والرحمة والحمية والحنان بادية فيهم، ونجدها في الدكتور القنيبط حتى مع أطفال يلاعبهم، ومع شباب يتقارب إليهم، ولا ينأى بنفسه عن مجالسهم وأحاديثهم، ويجد من الواجب الحديث عن آمالهم في الحياة والعمل.
كما استنبت هذا البر أن يتابع صاحبنا دراسة إخوانه وأخواته، ويحضر مناقشاتهم للرسائل الجامعية، ويشارك في جميع مناسباتهم، ويسابق إلى حفلات تخرج أولادهم كما لو كانوا أولاده، ويشفع للمحتاج من الأقارب والمعارف كي يعالج في أرقى المشافي، ولا ينساهم حتى من محصول التمر السنوي بعد تجميل سبل إهدائه وإرساله. ولقد واصل الرجل مسيرة البر إلى أنجاله باصطفاء الأم الفاضلة، وبكمال التهيئة والتزكية والتربية لذريته؛ حتى غدوا ثلاثتهم من المتميزين الناجحين، والله يجعلنا وإياهم جميعًا من الفالحين الناجين.
وهو بار بصحبته ورفاقه، وأظهر ما يكون هذا في مسارعته اللافتة للمشاركة في جبر مصابهم، وشهود جنائز ذويهم في المساجد والمقابر وأماكن العزاء، ومن يتصفح حسابه في تويتر فسوف يجد مصداق هذا الأمر الذي يدل على متابعته لرفقته، وتفقده لشؤونهم، والإسراع الحثيث لتقديم الخدمة التي يستطيعها، وفعل الواجب أو ما فوقه، ولذا لا عجب أن يعود صديق للقنيبط توفي والده وهو مبتعث في أوكلاهوما، وحين يصل إلى شقراء يجد أبا حمد من جملة مستقبليه الذين يخففون عليه ألم الفقد، وإنه لألم يفت الكبد فتًا. وحين علم د.محمد بوفاة والد أحد زملائه ركب الطائرة من فوره، وسافر إلى حائل ليؤدي الصلاة عليه، ويعزي صديقه المكلوم ثمّ يقفل راجعًا.
ومن تمام الصحبة وكمال البر بها تواصل اللقيا بين فينة وأخرى، وهذا عين ما يواظب أ.د.القنيبط مع زملائه الذين ترافق معهم في الدراسة أو في جامعة الملك سعود وكلية الزراعة وعلوم الأغذية، أو في مجلس الشورى، أو في غير ذلك، وإن حسن العهد لمن الإيمان، ويتجلّى هذا العهد الحسن في د.محمد بتواصله الدائم مع طبيب كندي مختص بالعلاج الطبيعي، إذ سبق أن راجعه د.محمد في عيادته وتلقى العلاج عنده، فاستمرت الصلة بينهما إلى أن زاره في كندا، فمَن من الناس يفكر في صلة أفراد تعامل معهم تعاملًا عابرًا أو مؤقتًا؟
وإذا كان هذا البر مع أقران أو ذوي فضل؛ فدونكم شيء من خبر القنيبط إبان أزمة كورونا -لا أعادها الله- ذلك أنه كان يوصي الذين حوله خيرًا بمن يعملون باليومية فانقطع أكثر رزقهم بسبب الإغلاق العام الاضطراري، ولم يقف عند حدود الحث النظري؛ بل سعى بنفسه إلى التواصل مع أيّ عامل اشتغل لديه، حتى أولئك الذين شاركوا في بناء منزله منذ زمن، أو عملوا في مصنع للأسرة قبل سنوات، وأرسل لهم المساعدات الغذائية وغيرها، وإن فضيلة التعاهد والتفقد لمنقبة لأربابها، وقمين بنا ألّا نغفل عنها، فهي من سنة الأكرمين.
أما أحد أدق صنوف البر لدى أ.د.محمد فهو ما يصنعه مع طلاب مبتعثين بالمؤازرة، والمتابعة، والتشجيع، وتذليل العقبات، ودلالتهم على ما ينفعهم في دراستهم. ومما يحفظه له زملاء الكلية أنه يبادر فيبارك للمقبولين في الدراسات العليا أو الابتعاث حتى لو لم يكن له بهم صلة علمية أو شخصية. وإن تعجب فاسمع لقصة عثمان وأبيه الذي يعمل في مصنع يعود لوالد القنيبط، ثمّ تعرض أبو عثمان لإشكال حرم أسرته منه؛ فلم يترك د.محمد تلك الأسرة الفاقدة لعائلها دون رعاية، وعقب ذلك أصر على تيسير دراسة عثمان في أمريكا، وتابعه حتى نجح بتفوق ونال الشهادة والبطاقة الأمريكية الخضراء. ولم ينس أبو حمد أن يجعل عثمان على قائمة الطلبة الذين يلتقيهم ويتحسس أحوالهم إبان زيارته السنوية لأمريكا، ومن لطفه أنه يصطحب بعضهم إلى ديزني لاند، ليدخل البهجة على قلوبهم، ويعرفهم على ثقافة البلد كي لا ينصدموا ولا يذوبوا، وبعد عودته للرياض يجلب السرور لأبي عثمان مبشرًا إياه بحال ابنه الذي يصفه القنيبط بأنه ولدنا عثمان!
كذلك من سمو البر لدى القنيبط أنه كان بارًا بفضيلة الاختلاف التي يزعم أكثرنا أنها لا تفسد للودّ قضية مع أنها في واقع بعضنا تفسد كل القضايا! ومن خبر د.محمد أنه انتقد الملحق السعودي الشيخ عبدالعزيز المنقور علانية إبان عمله في البنك الزراعي ثمّ أصبحا من أوثق الناس صحبة بسبب رقي الرجلين. ولم يمتنع د.القنيبط من الصلة مع وزير الزراعة الأسبق د.عبدالرحمن آل الشيخ وإن تخالفا في فلسفة زراعة القمح. وقد لاحظ شعراء عنيزة سمات القنيبط الجميلة، فكتب كل من أ.د.عبدالله العثيمين، والأستاذ أحمد الصالح “مسافر” قصيدتين في الثناء عليه متجاوزين صعوبة القافية مع حرف الطاء.
ومن جليل البر الذي يغيب عن عدد غير قليل أن البروفيسور القنيبط أحسن تمثيل قلعته الأكاديمية، والانتساب إلى قبة مجلس الشورى التي جلس تحتها ثلاث دورات متعاقبة؛ فكان ظهوره وراء الشاشات، أو في مقالاته المتوالية بالصحف والمجلات، مما يشرّف المؤسسات التي ينتسب إليها، لما في أعماله الفكرية من رزانة ومنطق، وعلم وفهم، ولغة وبيان، ونأي كبير عن أيّ اجترار لممجوج العبارات والتراكيب التي تُلاك لوكًا من آخرين للمبالغة في الثناء ومؤداها إلى الذم أقرب!
فمن القنيبط عرفنا كثيرًا من شؤون الزراعة والاقتصاد، ومسائل المياه ومستقبلها، ومن أطرف الموضوعات المائية نفيه الصائب لوجود جائزة في نوبل تُعنى بالمياه! وله آراء صارمة في تصنيفات الجامعات التي كانت موضة إعلامية فيما سبق دون أن تصمد حقيقتها أمام يسير البحث دون تقميش! وبمقالاته الجميلة دعى للقضاء على أكذوبة “الرجال واصل”، والبعد عن أيّ خطاب عام “ملغوص”، وإنهاء وهج الشركات الأجنبية والخبراء الأغراب، الذين لا يعرفون هم ولا أنسابهم -كما يقول د.القنيبط- جزءًا مما يعرفه أهل الاختصاص في السعودية، ومن مكر أولئك الأباعد أنه يسحبون المعلومات من أبناء البلد بجلسات فندقية لا تكلّف أكثر من قيمة القهوة؛ ثمّ يعيدون تصديرها لأجهزة رسمية بملايين الريالات أو عشرات أو مئات!
كما يكمل أ.د.محمد الحمد القنيبط مسيرته في البر الأكاديمي بحضوره النموذجي إلى مكتبه في الكلية، وفتح الباب للزائرين والمستفيدين إلى منتصف العصر، وفي مكتبه الجامعي كتب ومراجع ومجلات وأبحاث، وفيه أكثر من مئتي كوب لم يجمعها من المقاهي العامة وغيرها، وإنما اشتراها من مكتبات الجامعات العالمية الكبرى التي يحرص أ.د.أبو حمد على زيارتها سنويًا، ولعمركم إن زيارة الجامعات، والمكوث في المكتبات، وجلب الكتب والمراجع والدوريات، وبناء العلاقات مع الأكابر والمختصين، لمن جليل البر بالنفس، والتخصص، والطلاب، والبلاد، ومن ثمارها “القنيبطية” أبحاث منشورة، ودراسات عليا أشرف عليها، وأخرى حكمها، ولجان شارك بفعالية بأعمالها، وباب الخير والنفع للمجتمع والعلم مفتوح يلج منه أستاذنا ولوج القوي الأمين المرة تلو المرة، والله يسدده ويمتع بعلومه، ويبارك بعمره وآرائه.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 10 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1444
03 من شهر يناير عام 2023م
One Comment
أضيف إعجابي في هذه الشخصية الرائعة لجملة الشخصيات التي لم نعرفها إلا من خلالك، فأنت كمن ينقب عن الشخصيات الألماسية في ظل الاستنساخ الثقافي والفكري الذي يجتر ويعيد نفسه دون تميز،
والأجمل من ذلك كله وشدّني بحب وشغف إليه، اعتقدت أني فقط وحدي من لديه هوس الأكواب.. لتبرز شخصية لها ثقلها وبرّها و إحسانها تشاطرني نفس الهوس “وفيه أكثر من مئتي كوب لم يجمعها من المقاهي العامة وغيرها”، لله درّه ما أجمل ما كتبت عنه..