حول العالم مع دبلوماسي مصري
زرت مكتبة في شرق الرياض قبل أعوام؛ فلمحت عيني كتابًا صغير الحجم لافت العنوان، وبعد تقليب اشتريته بريالات دون العشرة، وجعلته من رفقائي في السفر، ثمّ كتبت عنه بعد أن أمتعني، وقررت البحث عن أخيه الأول المشار غليه في الثاني. وبعد تواصل مع الناشر، وتوصية لغير صديق، وبعد أن أدركني اليأس من تحصيل نسخة منه ورقية أو إلكترونية تمكن الصديق أنس بن إبراهيم جبلي مشكورًا من إحضار نسخة منه.
عنوان هذا الكتاب: حول العالم مع دبلوماسي مصري… تأملات في بعض الحضارات المعاصرة وفي سياسات بعض الدول، تأليف السفير: د.محمود سمير أحمد، صدرت طبعته الأولى عن دار الهلال عام (1993م) في قطع صغير يتكون من (415) صفحة، وتشتمل محتوياته على مقدمة ثمّ أحد عشر فصلًا سافرت بالقارئ عبر مساحات متباعدة من الكرة الأرضية، على اختلافها في الحضارة والثقافة والمناخ.
يتضح من الكتاب ارتباط المؤلف بالسفر منذ صغره، وحرصه على الدراسة وإجادة اللغات، واستثمار الوقت لبناء العلاقات، وإكمال الدراسات العليا، وتأليف الكتب، وتسجيل الملاحظات. ولأنه لم يرزق بذرية فقد صار انتقاله من بلد إلى آخرًا سهلًا عليه، وهو على وزارة الخارجية أيسر، ولربما أنه أفاد من هذه الميزة فيما تحصّل عليه من شهادات، وما كتبه من مؤلفات، وبسبب هذا الترحال أطلق على موظفي السلك الدبلوماسي وصف “البدو المحدثين”. ومن الموافقات الطريفة أن المؤلف في شبابه الأول كان يكتب خلف اسمه لقب السفير وقد أصبح سفيرًا!
يُعدّ هذا الكتاب مع أخيه الثاني من الكتب العربية المتميزة في أدب الرحلة والسفر، وأدب الدبلوماسية، وأدب السيرة الذاتية، وأدب الكتابة السياسية، وما أشد ارتباط هذه الجوانب ببعضها. وفي هذا الكتاب ثقافة، وسياحة، ومقارنة، وتحليل، وملاحظات، وليس بغريب أن يكون شانه على هذه الهيئة؛ إذ عمل الدبلوماسي في سفارات عديدة، وتمكن من زيارة بلدان كثيرة، ومن كان نبيهًا موثقًا فسيخرج بمادة ذات أثر.
يجد القارئ في الكتاب أحاديث مسهبة عن إسبانيا وشعبها، وأثر الحضارة الإسلامية في بلادهم، وحضور اللغة العربية في ثقافتهم ومعجمهم، مع تعريج على الرياضات ومنها مصارعة الثيران، وعلى الغناء والرقص الحزين منه وسريع الإيقاع، مع وصف للمناطق الجبلية والساحلية، وللنساء وجمالهن بالعيون البنفسجية الطبيعية بلا عدسات حتى مع ارتدائهن الملابس المحتشمة قبل أن يتورطن في التقليد. ولم يخل الحديث من شؤون سياسية إسبانية أيام سطوة السلطة والقوة فيها وما بعدها.
وسيرى القارئ بعين المؤلف في تركيا التي كلف بالعمل فيها نهاية عام (1948م) معينًا لا ينضب من التدين والتمسك بالشعائر الإسلامية؛ ولكأنه يقول لنا: قد خاب أتاتورك وخابت معه مساعيه! ومن عجب أن أتاتورك اختار شعارًا لجامعة أنقرة مكونًا من عدة كلمات عربية مع أنه عدو لهذه اللغة ولحرفها. وقد رصد المؤلف عدة كلمات عربية في لغة الترك، إضافة إلى مشاركة الصناع المصريين في أعمال تركية إنشائية خالدة، وفي الختام عقد مقارنة بين إسبانيا وتركيا وعلاقتهما بالعالم العربي.
كما يختصر الكتاب شرح القوى السياسية في أمريكا، وكيفية بناء القرار، والتأثير على صانعيه الظاهر منهم والخفي، وفيه وصف لبعض مدن أمريكا وخاصة واشنطون ونيويورك، علمًا أن عمله في أمريكا تكرر بصور مختلفة مرة في السفارة، وأخرى في بعثة هيئة الأمم المتحدة التي يصف مبناها محقًا بعلبة الكبريت، وما أكثر القابلية للاشتعال في هذا العالم الذي توصف منظمته الكبرى بأنها متحدة!
وقال عن أمريكا بأنها بلد العجائب والمتناقضات، وفيها قوى الضغط ومن أقواها اليهود والمرأة وأرباب المال. وفضح الفساد المستشري حتى أن عمد المدن ضالعون في جرائم مخدرات ورشوة وجرائم منظمة، ويكفي لبيان ذلك نقل زعم “ولسون” وهو رئيس أمريكي سابق بأن القرار في واشنطن بيد التجار ورجال الصناعة! وبسبب كثرة المحاضرات في أمريكا دعي كاتبنا لإلقاء عدة محاضرات مكنته من زيارة نصف أمريكا، وخلص إلى أن الارتجال بعد التحضير المتقن خير من القراءة المباشرة، ولا عجب أن يصف أمريكا بأنها أستاذه في فن المحاضرات.
أما في تونس فلن يختفي أثر المعاهد الدينية مثل الزيتونة والقيروان، وسيظهر حب أهلها لمصر وشعبها. وأورد الدبلوماسي بعض الكلمات التونسية مع معناها، والمهم ألّا تقول في مجلس تونسي رزين كلمتي “بيض” و “طحينة” حتى لا يساء الظن بتهذيبك وأدبك! وأخبرنا المؤلف عن شواطئ تونس، وأجوائها الباردة، ولبس المرأة الساتر حتى أنه يغطي الوجه أحيانًا، وروى خبر خطب بورقيبة الأسبوعية التي لم يستطع بها إقناع التوانسة بترك صيام شهر رمضان مع حب شرائح من التونسيين لرئيسهم. وقد نجح الرئيس في تقليم أظافر رؤساء الوزارة البارزين الذين يخشى من شعبيتهم، بيد أن آخرهم استطاع أن ينقلب عليه، ومن مفارقات بورقيبة منعه الطلاق والتعدد؛ ومع ذلك طلّق هو وتزوج بأخرى!
كذلك يحتوي الكتاب على فصول عن دول لاتينية مثل كولومبيا التي كلف بفتح سفارة في عاصمتها بوجوتا، وهي مدينة مرتفعة يعاني أهلها من نقص الأكسجين. وأستطاع المؤلف ربط العلائق مع العرب الشوام القاطنين هناك، وأفاد منهم في عمله التحضيري وما تلاه من مهام. ومن معلومات هذا الفصل أن العاصمة بوجوتا تسمى بأثينا أمريكا اللاتينية لكثرة ما فيها من مؤسسات ومعاهد تعليمية، ومنها أعراق السكان، وأصولهم، وأصناف المحاصيل الزراعية، والمعادن، واللغة الرسمية، وفنون الرقص والغناء، وأثر الكنيسة، وتاريخ البلاد قبل انفصال فنزويلا والإكوادور وبنما عنها، وهذا قادنا لأنباء الثورات الكثيرة في البلاد، وما نجم عنها من نشوء قلاقل وعصابات واغتيالات.
ومنها إلى المكسيك التي تشبه مصر من حيث سيطرتها الفنية على الناطقين بالإسبانية في القارة اللاتينية، وحب أهلها للغناء، والضحك، ووجود أهرامات فيها، وعناية سكانها بطبق الفول المدمس، وزراعة القطن بأراضيها. ومن مشتركاتهما أن لغتهما ودينهما قد تغيرا إلى لغة أخرى بحكم الفتح الإسلامي لمصر، والغزو الإسباني للمكسيك، وهو الغزو المهين الذي نهب الإسبان فيه كميات هائلة من الذهب، وذبحوا السكان الأصليين دونما تحرج.
وأغلب مناطق المكسيك جبلية، وتبتلى العاصمة بزلزال مدمر كل عشر سنوات، ويتسلل بعض شعبها لأمريكا عبر النهر حتى أطلق الأمريكان عليهم وصفًا احتقار هو “مبلول الظهر”. ومن جمال البلاد، ورخص أسعارها، وجودة مطبخها، وحب أهلها للفن، أضحت قبلة للسياح من أمريكا وكندا، وقد أفادت البلاد من جوار هذين البلدين، وتضررت بأن سلخت أمريكا منها عدة ولايات كبرى؛ حتى قال زعيم مكسيكي: مسكينة هي المكسيك بقربها من أمريكا وبعدها عن الله!
لذلك عانت المكسيك من حكم الجنرالات والانقلابات، وتوقع المؤلف لها حياة مدنية أهدأ وأحسن، وهو ما حدث بالضبط حتى صارت مجالًا للدراسة في غير كتاب. ويمتاز لحنها الغنائي بالشوق والحنين والحزن، وله طقوس خاصة بالغناء تحت نافذة الحبيبة آخر الليل أو مع إشراقة الشمس. وفيها شوارع وعمائر تضاهي مثيلاتها العالمية، إضافة إلى رياضات مثل مصارعة الثيران، وفنون ومناسبات، واهتمام بالرسم جعل من أبنائها ستة من أعظم الرسامين. ومما تمتاز به المكسيك رغبتها الصادقة بالاستقلال عن القرار الأمريكي، وتقديم ثقافة الشعب الأصلي ورموزه وأبطاله، وحجب ما يعود إلى المحتل الإسباني قدر المستطاع.
ثمّ عاد بنا المؤلف إلى أمريكا ومقر هيئة الأمم في نيويورك المشيد على أرض تبرعت بها عائلة “روكفلر” اليهودية، وفي مدينة غالب من يتولى عمادتها من اليهود وإيطاليا وإيرلندا، وروى لنا أخبار الجلسة العاصفة التي حضرها “خروشوف” ورفع فيها الحذاء وضرب به على المنضدة! ومنها ذهب إلى المقر الأوروبي للمنظمة في جنيف المنقسمة بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا؛ ليكون عضوًا في الفريق المصري العامل ضمن لجان نزع السلاح، وهي فكرة تقوم على منع تطوير السلاح المدمر، ومحاصرة انتشاره، وهو الهدف الذي لم يفلح فيه أحد حتى الآن، وأتصور أن المستقبل القريب سيحمل مع محاذير السلاح النووي مخاوف من أسلحة حيوية وإلكترونية، ويخلق مالا تعلمون!
وقد حدد الكاتب أوصاف شخصية الدبلوماسي العامل في أوساط الدبلوماسية المتعددة، وهي باختصار: سرعة الحركة وإجراء الاتصالات، وأن تكون شخصية اجتماعية منفتحة قريبة من الجميع، وقادرة على فن صياغة الكلام والقرارات، وممسكة بزمام فن الخطابة والإقناع، عارفة باللغة البرلمانية، ومتقنة لمهارة القراءة السريعة، وقادرة على استيعاب المشكلات في لمحات موجزة.
اخيرًا فلا يخلو كتاب هذه بعض صفته من ملح مثل قول الرومان: “زر نابولي ثم ّمت”، وإجابة عضو الوفد النيجيري الدامغة في قاعة الأمم المتحدة والمفندة لدعوى عضو أوروبي بأن الأفارقة يهينون النساء، وهو جواب جلب التصفيق، والبسمة، وجعل صاحب الجواب الإفريقي محط أنظار الجميع. ومن غرائب الكتاب استعظام المؤلف استخدام لقب “كافر”، ومع أنه يجيد عدة لغات أو يحسنها فمن العجيب أنه لم يطلع على وصفهم لنا بالكفر والهرطقة والبربرية وغيرها. وبالجملة فالكتاب ماتع نافع، وجدير به أن يقرأ، ولكن على ألّا يكون بالسعر الذي دفع فيه، وهو سعر مبالغ فيه جدًا كما سأفصله في مقال جديد عن مطارداتي خلف الكتب بإذن الله.
أحمد بن عبدالمحسن العسّاف– الرياض
الاثنين 09 من شهر جمادى الآخرة عام 1444
02 من شهر يناير عام 2023م
3 Comments
عرض رائع، و كأنني قرأت الكتاب. شكرا لك يا أستاذ.
رعاكم الله، ويسرني ذلك لأن نسخ الكتاب الورقية عزيزة جدا.
مدونتكم أخي العزيز رائعة بحق، بمحتواها الثري وجمال تصميمها.
لكم مني خالص الود والمحبة والتقدير