إدارة وتربية

غنائم وفرص في الجامعة!

غنائم وفرص في الجامعة!

حينما قبلنا للدراسة في الجامعة لم نسمع مثل هذه الكلمات من أحد، ربما لتقصيرنا في السؤال، أو اعتمادًا ممن حولنا على ما يعرفونه أو يظنونه من جدية وحرص لدينا، أو أنها قيلت لنا فنسيناها، أولم نعِ المراد منها لغبش في الذهن، أو بسبب اقتصاد الناصح في البيان. وأيًا يكن فقد اعتدت على الحديث مع مَنْ حولي من فتية وفتيات إبان التحاقهم بالجامعة، وحرصت على إفهامهم بقول أخاله صريحًا مختصرًا واضحًا، وفي وقت مبكر حذار التأخير.

فمما أقوله لحديث العهد بالجامعة: أنت الآن في مرحلة تشبه لحظة التوبة التي تجبُّ ما قبلها، وبالتالي فعليك نسيان سنوات التعليم العام بما فيها وبما كان منك خلالها، وأن تفتح صفحة جديدة بيضاء نقية، فتكتب فيها بقلمك ما تود أن يكون عليه مستقبلك، لأن رفع المعدل منذ البداية سهل يسير؛ بيد أنه يتعاسر كلما تقدمت بك الفصول! ويمكن لك أن تستهدف الانضمام مستقبلًا إلى هيئة التدريس في الجامعة، خاصة إذا كان تخصصك جديدًا يعاني من الندرة، وفي كل الأعمال والوظائف خير بما تعود به من مصالح، وما تدفعه من مفاسد. والخلاصة أن الاستمتاع بالدراسة الجامعية، والتفاعل النشط مع مرحلتها، فنٌّ قد يغيب الفرح به، وينقص مقدار استثماره عند بعض الطلاب والطالبات.

كما أقول لهم: إن الجامعة معمل ضخم وكبير، وهو متاح للطلبة كافة، والحصيف من نظر وتفكر وجرب، وعاش بواسطة الفرص الجامعية معترك الحياة، أو عانى صورة من عراكها الذي يخرج المرء بعده قويًا متمكنًا. وهي من السوانح الجديرة بالاهتبال من الطالب والطالبة للمرور تحت شلال هادر من التجارب والخبرات والتطبيقات التي يؤول نفعها عليه قبل غيره؛ فالشلال ينعش ولا يغرق، والعجب كل العجب ممن يدلف إلى الجامعة ويخرج منها وهو لا يعرف إلّا القاعات الدراسية، والمعامل والمختبرات، ومواقع المكاتب فقط!

ولم أترك الإشارة إلى نعمة بناء العلاقات في الجامعة؛ فهي على الأغلب أشد الصلات قوة وآصرة، فلربما تذوب علاقات ما قبل الجامعة، وتنصبغ علاقات ما بعدها بسمة معينة، ويبقى زملاء الجامعة هم الأكثر ارتباطًا ببعضهم، وكم سمعنا عن مجموعات استمرت الصلات بين أفرادها لأربعين سنة أو خمسين، وإذا كان الشأن كذلك؛ فلينظر المرء نظر المتفحص الرائز إلى أولئك الذين يصطفيهم لهذه المكانة؛ وحقيق بذوي الألباب ألّا يقتربوا من نافخ كير، وأن يجتهدوا في البحث عن حملة المسك ولو كانوا في الناس قلة!

وأحثّ الشبيبة من الجنسين على الاهتمام بتحصيل الثقافة بمعناها الواسع، والمشاركة في كثير من الأنشطة، واختبار مواهبهم وقدراتهم. وفي هذا السياق أقترح عليهم الإكثار من القراءة في تخصصهم إن كان مرغوبًا لديهم، وإن لم يكن فلينهلوا من التخصص الذي أحبوه، وحتى مواد الجامعة الاختيارية يمكن لهم تسجيل مواد عن مداخل ومقدمات لفنٍّ يقع في دائرة اهتمامهم، والمهم أن تبني سنوات الجامعة في طلبتها النهم الثقافي، وحب القراءة، وفن السؤال، وتتبع مظان المعرفة، وأن يغتنم الطالب الاشتراكات المجانية للجامعة في المواقع العالمية ومصادر العلم المتينة فلربما حرم منها بعد التخرج.

ومما أناشد الشبان والشواب لأجله حتى لكأني في إلحاحي وحدبي صاحب مصلحة ألّا يهجروا المكتبة المركزية في الجامعة، أو مكتبات الكليات والأقسام؛ فيا لله أيّ أنس فيها، وأيّ أجواء من السعادة تغمر قلب مرتادها ونفسه حتى تخرجه من هموم الدنيا باستلال لطيف مثل انحدار قطرة الماء من فِيّ السقاء. ومن هذا الباب إحاطتهم علمًا بأهمية إتقان مهارات الكتابة أو كتابة البحوث وإعدادها، ومعرفة مناهجها وأساليبها؛ فعيب والله أن يغادر الطالب الجامعة جذلًا بالشهادة التي يحملها، وهو لا يستطيع كتابة فقرة، ولا يقوى على التحدث أو إلقاء كلمة إن في حسن الأداء، أو مراعاة النحو والصرف ومخارج الحروف، أو في المضمون المبين!

كذلك أخبر أولئك الأجيال الطيبة بأن في الجامعة كنوزًا بشرية من العلماء، والمؤلفين، والباحثين، والمفكرين، والرموز في تخصصاتهم، ومن الحكمة البالغة والبصيرة النافذة أن يُسعى إليهم، فيُفاد من آرائهم، ويُقتبس من علومهم، ويُستمع إلى توجيهاتهم ونصائحهم، فلربما كان البعض منهم مباركًا فذكرك لمن ينفعك بعد أن وثق بمستواك وأهليتك، ولربما يصدر من أحدهم كلمة تكون “انقلابية” في حياتك ولكنها تؤدي إلى بركات متوالية وخيرات حسان، فلا تفوتوا الفرصة، ولا تتراخوا في تحصيل فضل اللقيا والنهل خارج القاعة، ويالها من رحلة قصيرة آمنة بعيدة عن عناء الأوائل في الارتحال للمشافهة والسماع، وهذا كله مع التنبه إلى أن كل أحد يؤخذ من قوله ويرد، ولا يسلم من هذا التعميم إلّا الجناب الكريم عليه أتم الصلاة وأزكى السلام.

ثمّ إني أتبسم إذ أقول للطالب والطالبة الملتحقين بالجامعة أو مَنْ كانوا في أوائل سنواتها: أحبب حبيبك هونًا ما! وهذا جزء من نصّ أثر شريف مرفوع أو موقوف، والقصد منه ألّا يتعصب ابن الجامعة وابنتها لشيء من فكرة، أو تخصص، أو كتاب، أو إنسان، أو طريقة، أو أيّ شيء، وأن يحتفظ بمساحة من خط الرجعة السلس الرزين، السالم من النتوء والخدوش، ويجعل له من الإمام المطلبي الشافعي رضوان الله عليه قدوة حينما يلتزم بقول أو رأي دون أن يمنع ورود احتمالية الخطأ عليه، تمامًا كما لم يُقفل هذا الإمام القدوة السبل نحو تصويب آراء حكم عليها في يوم سالف بأنها خاطئة.

وفق الله الطلاب والطالبات لكل خير في أمر دينهم ودنياهم، وأفادهم بالصواب مما كُتب وقيل، وجنبهم الفتن بما فيها من زلل وزغل وضلالة، وجعلهم سعادة لنفوسهم النفيسة ولوالديهم، وذخرًا لأسرهم ومجتمعهم وبلادهم وأمتهم. وقمين بهم أن يستنهضوا الهمم، ويشمروا السواعد؛ فسنوات الشباب ليست مجالًا للضياع في لهوٍ دائم، أو انصراف صوب مطلق الراحة وإن كانت لذيذة مستطابة، وإنما هي للبناء، والتحصيل، والتكميل، والاستزادة، والتعب الذي يكون جسرًا للراحة الكبرى كما قال أبو تمام، دون حرمان النفس والروح من شيء معقول وقدر مناسب من المرح والمتعة؛ فمَنْ تعب أولًا، واتخذ من الجدية سلّمًا وأصلًا يأرز إليه، جاعلًا غيرها في موضعه اللائق وهامشه الممكن، فسوف يرتاح في الأخير ويستقر، وآن له حينذاك أن يزيد شيئًا مباحًا من مساحات الهامش التي لو كانت زائدة في البداية لأضحى النقصان على الأغلب هو المصير والمآل، والله يحمينا من العيوب والنقص، ويكرمنا بكمال البداية والمنتهى.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 20 من شهرِ جمادى الأولى عام 1444

14 من شهر ديسمبر عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)