سير وأعلام

الشيخ أحمد الحواش: متن كثير الحواشي!

الشيخ أحمد الحواش: متن كثير الحواشي!

هي سنّة الحياة ومصير كل مخلوق بأن يفنى ويموت؛ لكن الشأن في شهادات المعاصرين الصادقة، فعدد جم من الناس خيارهم وأهل الاستغفار والتوبة والإنابة منهم حزن وتكدر، وكانوا من شهود الله بالخير والصلاح لراحل لا تُخشى عليه الفتنة، بعد أن وضع في قبره يوم أمس، وإن الثناء على أهل الفضل لمنقبة يتزين بها المثُني قبل المثنى عليه.

ولا يخلو الأنبياء فمن دونهم من الصالحين من هجوم سفيه بذيء جريء؛ يبين بصنيعه عن مقامه المتسافل، ويكشف بخبثه طبعه المتداني، والعزاء أن في أهل المروءة من يلقمه أحجارًا يستأهلها، ولو زاد شبرًا لزادوا له ذراعًا، والله يطرح البركة في أولئك الأغيار؛ لأنهم دروع صدٍّ وقذائف حقٍّ يخشى حروفهم المنطلقة كالسهام أيّ واحد عنده مسكة عقل سواء أكان من لئام المتأكلين المتصيدين، أو من الذين كانوا فيما مضى أهل باطن وظاهر؛ فطغى باطنهم واستبان.

وقد حزن الناس في بقاع عديدة عندما شاع خبر رحيل الشيخ الحافظ العابد الزاهد أحمد بن محمد الحواش (1379-1444)، الذي أمضى قريبًا من نصف قرن يؤم الناس في الصلوات والجمع والأعياد والتراويح والقيام وصلوات الخسوف والكسوف والاستسقاء في جامعه بخميس مشيط جنوب المملكة، وله ختمات مشهورة، وقيام طويل ينفرد به، فيُقصد مسجده لأجله؛ حتى أن الموائد ممدودة للمتسحرين، والخيام منصوبة للمعتكفين، والصفوف مليئة متراصة بالمصلين والباكين والمتأثرين، وطالبي الاستشفاء بالقرآن العزيز.

فهنيئًا للشيخ الصبر على المبدأ، والثبات على المنهج، والصلابة في التوقي والتقلل من الدنيا، حتى فارق الحياة يوم السبت الماضي السادس عشر من شهر جمادى الأولى عام (1444) على ماكان عليه من احتساب وعمل، ولا نزكي على الله أحدًا، وكل بني آدم خطاء باجتهاد أو بدون. وإن العزاء فيه يتصل ويتواصل، ويتجاوز أسرته الكريمة، ومدينته خميس مشيط التي عرفته وعرفها، وقبيلته القحطانية الكبيرة، وبلاده السعودية المباركة، ليشمل جميع أهل القرآن وأنعم بهم من معشر، ويعم أيّ مسلم يحب الصالحين ولو لم يكن مثلهم دومًا.

وفي هذا درس بليغ متكرر، وقاعدة عامة لا تخفى؛ فإن القلوب مجبولة من الرحمن على الود والمحبة لمن عمل الصالحات، وابتعد عن السيئات والمنكرات، مهما اجتهد أحد في سلب تلكم المكانة، أو الحيلولة دون بلوغ هذه المنزلة؛ فمن يجرؤ على اجتثاث قبول وضعه الله لعبده بأمر مباشر صادر من الرب القدير سبحانه إلى جبريل عليه والسلام وبقية الملائكة؟!

فمن بديع خبر الشيخ أنه ورث الخيرية عن أبيه، وحملها بعده بنوه، وتلك ذرية بعضها من بعض، وإنها لعراقة الإيمان وما أسناها وأبقاها. وإن هذه المناقب الرفيعة لا تُورث دومًا، ولا توَّرث بأجمعها، لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء، ويوفق له من اصطفاه من عباده وأوليائه، فأيّ نعمة أجلّ من نجابة الأبناء وصلاحهم واستقامة أمرهم، وأحسب أنه من الواجب على ثمرات هذه المدرسة الحواشية أن يخرجوا للناس -ولو بعد حين- سمات ومعالم من منهج الأب والجد في التربية والإصلاح، والمتابعة والتعليم، وسيصبح هذا الخبر المسطور من عملهم الصالح الباقي، وعلمهم المنتفع به إلى آماد متعاقبة.

كما أن الشيخ الذي عاش مع الناس وبينهم، وشاركهم في الأحوال عامها وخاصها، لم يجد صعوبة في أن يختط لنفسه طريقًا في التعبد، والتزهد، والعزلة عن الشرور والمفاتن، والبعد عن المغريات وما أكثرها وأعظم الدواعي لها، ولربما أنه وأمثاله ممن يعيشون في عصرنا يمثلون حجة من الله على الخلق الذين يستصعبون زمانهم، ويبحثون عن أيّ رخصة للانفلات وطاعة الهوى فمستقل ومستكثر، بينما كان الشيخ في نفر قليل من قوم صيّرهم الله للمتقين إمامًا وقدوة، وتلك كانت دعوة خليل الله والصالحين الموفقين من العلماء والعباد.

ومع أن الشيخ التزم بقدر من العزلة، وشيء من التواري، إلّا أنه لم يترك الناس والمجتمع دون تعليم ودعوة إلى الخير، وتنبيه على الفضائل، وحث على الصلاح والإصلاح، وصنع ذلك في محرابه ومنبره وأماكنه التي يغشاها أو يلقاه الناس فيها، ولم يغفل عن مهمة الدعوة والتربية والتزكية حتى وهو يدخل إلى غرفة والده المسجى في أحد المشافي بعد وفاته نتيجة حادث سيارة كما روى المحامي المبارك يحيى الشهراني عبر حسابه السنابي الجميل، وهو شاهد عيان على الواقعة.

ثمّ إن الشيخ الحواش مع العزلة التي ضربها على نفسه، والطوق الذي صنعه لحياته؛ كي لا يخرج عن محيطه الذي اختاره تورعًا وخشية، أو زهدًا وترفعًا، لم يكن مجهولًا لدى الناس؛ فجامعه الكبير في خميس مشيط موئل المتزاحمين والمتسابقين في رمضان وصلاة الجمعة وغيرهما، والمقاطع القصيرة والطويلة له تنتشر في طول شبكة الانترنت وعرضها ما بين صوتية ومرئية، وحينما شاء الله له أن يجاور في مكة والمدينة ويبتعد نهائيًا عن الإمامة والخطابة، لم ينطمس اسمه من وعي الناس وذاكرتهم، فسعت الجموع للمشاركة في وداعه المهيب، والصلاة على جنازته في الحرم المكي، وإتباعها إلى المقبرة التي لطالما اجتهد الشيخ -أحسبه والله حسيبه- في الاستعداد ليومها الذي سيأتي وإن طال العمر، وسيهجم وإن تتابعت الحواجز والموانع والاحتياطات.

ومن اللافت في سيرة الشيخ ومسيرته أن طول صلاته وتزينه للخلوة بمولاه هو دأبه حينما يصلي منفردًا بمقدار أزيد مما لو صلى بالناس إمامًا، وطول صلاته إمامًا خيار لمن يحتمل ويريد الصلاة خلفه، وفي غيره من الأئمة سعة لمن شاء التخفيف. كما يلفت النظر أن الشهرة الكبيرة التي نالها الشيخ -وهي ليست المقصد بإذن الله- جاءت إليه من القرآن الكريم والصلاة خلافًا لعدد غير يسير ممن بلغوا مرتبة الشهرة بأشياء ربما تسوء سيرتهم في الدنيا، ولا تنير قبورهم في البرزخ، والله يغفر لنا ولهم، ويهدينا للصواب والرشد، وهذا يذكرنا بطلب العلم الذي رفع مكانة أبي حنيفة وجعله جليس الخلفاء، والمبتغى منه الرضا والقضاء، وكم في الطاعات من عز وشرف.

وقد مات الشيخ بهي الطلعة، مشرق المحيا، مهيب المرأى، مات كما مات سلف له من الأبرار، وكما سيموت غيره، والبقاء فقط لوجه ربنا ذي الجلال والإكرام. ويبقى السؤال الذي يتركه هذا الرحيل المرير في نفوسنا: لقد كانت حياة الشيخ أحمد المحمد الحواش متنًا فيه من الفضائل المرتبطة بالقرآن، والعلم، والدعوة، والتزكية، والزهد، والكرم، والصبر، الكثير الكثير، فمن أيّ عيونها الصافية سوف نستقي؟ وما أحرانا بأن نقتبس منها؛ فنكون متنًا مع المتن وإن صغر بالقياس، أو على الأقل حاشية طيبة مباركة، والفرع يتبع الأصل، لأن الخير باق في المجتمعات العريقة، والأعراق النبيلة، إلى قبيل قيام الساعة التي ستقوم على الأشرار فقط.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 18 من شهرِ جمادى الأولى عام 1444

12 من شهر ديسمبر عام 2022م

Please follow and like us:

7 Comments

  1. انا لله وانا اليه راجعون.. ولدت وترعرعت بخميس مشيط حيث كان والدي وجدي يمارسان التجارة وكانت قراءة الشيخ في الصلوات الجهرية تشنف آذاننا واحياناً نصلي خلفه💔💔

    الشيخ ذكرى لاجمل ما انصرم من العمر

  2. السلام عليكم
    للتصحيح ولد الشيخ احمد عام ١٣٧٩ هجريه
    مات وعمره ٦٥ سنه
    لأني تشرفت بصحبته وملازمته اكثر ١٠ سنين

  3. انا لله وانا اليه راجعون
    رحم الله الشيخ العابد الزاهد التقي نحسبه كذلك والله حسيبه فكم من صلاة صليناها معه بخشوع وطمأنينة وأسأل الله أن يجعلها في ميزان حسناته وحسناتنا أجمعين وجزاك الله خير الجزاء
    والتصحيح ورد ذكر الأخ يحيى في مقالك وهو الأخ يحيى الشهراني وليس الشهري وكلنا اخوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)