عبدالله الموسى ومعالي الهمة والصيت البعيد!
حينما قرأت كتاب د.فهد العليان بعنوان “حكايا من الذاكرة“، أعجبني الحديث عن سير أناس من النسمات المباركة النافعة البعيدة عن الضجيج المزعج والأضواء الجهيرة، ووقفت بانبهار أمام ما كتبه عن أ.د.عبدالله بن عبدالعزيز الموسى، حتى وقع في نفسي أن أكتب عنه مقالة أخرى، أستفيد فيها مما سطره أبو علي، ولا أكون عالة عليه مئة بالمئة، وإن كان الرجل سيحملني لو فعلت ذلك بنفس رضية زكية كما عهدته.
لذلك بحثت قدر وسعي ووقتي، وسألت من استطعت الوصول إليه وتجاوب معي مشكورًا، وأعدت قراءة ما كتبه د.العليان، كي أخاطب القارئ بشيء غير مكرر؛ فالإحالة على الموجود تغني أحيانًا عن الإعادة. وعقب ذلك خرجت بتصور أتمنى أن يشاركني فيه القارئ حتى يحمد الله على وجود هذه النماذج الباسقة في البلاد، وفي مراكز الخدمة العامة ومناصبها العالية، خاصة في الشؤون التي تعني كل بيت تقريبًا، وتصنع المستقبل.
امتاز أ.د.الموسى بأنه رجل تأسيس من الطراز الرفيع، ويتضح هذا من مسيرة حياته العملية؛ فهو الذي أنشأ قسم الحاسب في جامعة الإمام ثمّ رعاه حتى أصبح كلية صار هو عميدها الأول، ولم يكتف بذلك بل كان وراء تأسيس كلية العلوم وإدارتها أول الأمر. وليس هذا فحسب، بل ساعد في تكوين اللجنة التأسيسية لدراسة مشروع إنشاء كلية الطب بجامعة الإمام حتى صارت إحدى الكليات الطبية المهمة في المملكة، ولا يظنن أحد أن التأسيس مثل شربة ماء بارد، بل هو أقرب ما يكون لانتزاع الشوك القاسي المؤلم من الصوف الكثيف المبلل!
ثمّ إنه لم يقف عند هذه الحدود؛ فالهمة العالية تدفع أصحابها للأمام، ولأجل هذا اصطفاه وزير التعليم العالي آنذاك د.خالد العنقري ليصبح وكيل الوزارة للابتعاث في وقت يوصف بأنه ذروة سنوات الابتعاث وحركته بعد أزمنة ركود وتراجع، وهذا يعني أنه سوف يتعامل مع مئات الآلاف من الطلاب والجامعات والأجهزة الحكومية في الداخل والخارج، ومع مشكلات دائمة مرهقة على طول أنواع المشكلات وعرضها.
كما تحوّل بعد ذلك إلى إنشاء جامعة فريدة في طريقتها ونهجها وهي الجامعة السعودية الإليكترونية، وبعد ستة شهور فقط شرعت الجامعة باستقبال الطلبة في أربعة فروع معًا، ولكأننا أمام أربع جامعات دفعة واحدة. ولا تزال الجامعة الإليكترونية سائرة على الفلسفة التي بنيت عليها، ولذلك فعندما حلّت كورونا جاثمة على العالم لم تشعر الجامعة بها كثيرًا؛ لأنها تطبق نظام التعليم المدمج من قبل، وتعتمد على جدية الطالب وحرصه من الأساس، ومما يلفت النظر أن تصريحات أ.د.الموسى المبكرة جزمت بأن التعليم الجامعي لن يكون حضوريًا كله، وهذه الآراء سابقة على جائحة كورونا ببضع سنين، وما أحوجنا لمن يجيد الاستشراف.
ليس هذا فحسب، فللرجل سمات إدارية لافتة، منها الصرامة الإدارية بلا عسف قاهر، ومعرفة الهدف والسعي إليه بلا تردد، ومتابعة المستفيد وجهًا لوجه بعيدًا عن التقارير الشفهية والمكتوبة التي تبتلى بالتزويق أو التزوير أو عظيم الدعوى حتى غدت مثل براقش التي جنت على أهلها! ولأجل هذا رأى زملاءه رئيسهم ينزل إلى أماكن الاستقبال، ويواجه المستفيدين مباشرة وكأنه موظف تسجيل أو تنسيق، وعرف بمعالجة المشكلة دون تأخير منذ بزوغها حتى لا تتفاقم فتعظم مؤونتها، فسمة القيادي أن يتخذ القرار بعد الدراسة والتشاور، ولم يعهد عليه التأخر في حضور الاجتماعات التي امتازت معه بقصر زمنها، وبركة منجزها.
وليس هذا فقط، فمع جديته الدراسية والإدارية، إلّا أنه اجتماعي ودود يألف ويؤلف، ولذلك كان موئل كثيرين من الطلبة المبتعثين في أمريكا لا في أوهايو وحدها خاصة عندما ترأس نادي الطلبة هناك؛ فكم من دارس أعانه، ومن وافد جديد استقبله، ومن حائر بين الخيارات أرشده، وعقب عودته إلى المملكة ابتدأ مع آخرين في عقد دورية سنوية تجمع الدارسين في جامعتهم الأمريكية، وهو لقاء مستمر من ربع قرن، وإن مثل هذه الملتقيات مما يبقي على الصلة، والتقارب، ويفيد في الحوار العملي المثمر، والأنس البريء.
ولقد شابه الرجل في صنيعه مع زملائه المبتعثين وهو طالب يدرس مثلهم، وفي صنيعه مع أعداد المبتعثين الغفيرة وهو على رأس وكالة الابتعاث في وزارة التعليم العالي، شابه الشيخ عبدالعزيز بن محمد المنقور ذلكم الملحق التعليمي الذي لا ينسى، والعلم البارز في تاريخ الابتعاث إلى أمريكا قبل ستين عامًا، وإن التشبه بالكرام لفلاح وأيّ فلاح! والله يزيد ويبارك في القدوات والمقتدين؛ فما أحوجنا للنماذج الطيبة المباركة.
أتظنون أني بلغت النهاية؟ كلا، فإن الرجل الذي فعل هذا كله قد سعى إلى خدمة بلاده ومواطنيه ولغته وأهلها، فكتب عددًا من المقالات حول المستقبل التقني، وألّف عدة كتب عن الحاسب وتطبيقاته بعضها غير مسبوق بالعربية، وطبع من بعضها ملايين النسخ، وهي مما تربع على كتب التخصص وأفاد منها الطلاب والأطفال سنوات عددًا. كما شارك في بناء المناهج التعليمية وتأليفها، وتقديم الاستشارات لعدة وزارات مهمة.
ولم ينغمس في شؤون التقنية والتعليم دون أن يغفل عن الإبداع في هذا المجال الحيوي لخدمة اللغة العربية حتى صار رائدًا في استثمار التقنية لخدمة تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وفتح لهذه الغاية السامية مسارًا تعليميًا انتظم فيه عشرات الآلاف من الطلبة الذين ينتمون إلى أكثر من ثمانين بلدًا، ولهذا فهم يدينون بالفضل للسعودية وأهلها. وسعى لاعتماد برنامج لاختبار معياري للغة العربية على غرار اللغات العالمية الأخرى، فلغتنا جديرة بأن نخدمها، وفي هذه الخدمة منافع ثقافية واقتصادية وتعليمية.
بقي أن أخبركم أن أ.د.عبدالله الموسى قد نال ثلاث شهادات ماجستير لا واحدة فقط، وبعضها تحصّل عليها بمدة قياسية لم يسبقه إليها أنس ولا جان فيما أعلم –وعلمي الأكيد عن الإنس فقط–، وتخصصاته في الماجستير هي المناهج، والإحصاء، واستخدام الحاسب الآلي. وحتى نكتشف مبلغ همة د.الموسى فيكفي أن نعلم أنه راسل الجامعات الأمريكية والبريطانية للحصول على القبول بأكثر من أربعمئة رسالة بالبريد العادي وليس “أيملة” بضغطة زر! ثمّ كتب مئة استمارة لمن أجابه منها مبكرًا، وبعض طالبي الابتعاث يدركه اليأس وهو لم يراسل من الجامعات ما يفوق عدد أصابع اليد الواحدة ربما!
وليس موضع الإعجاب والتجلّة هنا فقط، ذلك أن الفتى الذي حقق في شبابه وكهولته ما مضى وسواه مما لم نعلمه أو يصلنا خبره، قد درس في المعهد العلمي في بلدته الزلفي الواقعة بين الرياض والقصيم، وأكمل تعليمه الجامعي بتفوق لافت بقسم التاريخ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، وبعض قومنا يتورّم أنفه –وكأنك نحرت والديه بيديك– إذا أثنيت على العلوم التأسيسية وأثرها المركزي في تكوين عقل الطالب وقلبه، وإعانته على تحقيق مبتغاه السامي.
أما على الصعيد الشخصي فقد عُرف عن البروفيسور الموسى بره الشديد بوالديه، وهذه خصلة نبيلة وعبادة عظيمة لا تستغرب من كرام الناس، وصلته الوثيقة بجيرانه وأهل مودته الكثر. وبعد أبويه والجيران فله عناية ببلدته وأبنائها، ومن ذلك أنه حين درّس في فرع جامعة الإمام بالقصيم الذي استقل فيما بعد متحدًا مع فرع جامعة الملك سعود هناك لتكوين جامعة جديدة هي جامعة القصيم، سعى للتيسير على أبناء الزلفي الدارسين بالقصيم حتى لا يدركهم العناء مع الأساتذة بعيدًا عن مكان سكن الطلاب؛ فتولى متابعتهم في الزلفي وأراحهم من السفر والانتقال. وقد اتخذ الموسى من مزرعته في الزلفي مقرًا بعد التقاعد يأوي إليه للتأمل والراحة، وعيش فصل جديد من الحياة، عمرها الله بالسعادة والمكارم.
فما أعظم الإنسان الذي يعمل بصدق، وينجز بصمت، ويغادر بسمو، وربما صمت ولم يفاخر، بيد أن أعناق جلائل الأعمال وكريم الصفات تتعالى حتى تصبح مثل المنائر الواقفة بشموخ يراها القريب ويهتدي بها البعيد، وإن المحبة الموضوعة في القلوب، والقبول الراسخ في النفوس، لمن أسرار الغيب التي لا يطلّع عليها أحد، لكننا على يقين أنه ليس بكثير أن يكتب د.العليان مقالته المشار إليها آنفًا تحت عنوان أمجاد عبدالله الموسى!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الثلاثاء 22 من شهرِ ربيع الأول عام 1444
18 من شهر أكتوبر عام 2022م
10 Comments
ماشاء الله شخصية نادرة وكتابتك عنه من الوفاء وأسلوبك الرائع زاده جمالا..
بورك فيك..
الله يشكر سعيك وجهدك🤲🌷
مقال جميل ويستاهل الدكتور
رائع وهذا الرجل يستحق الكثير
لم اجد ابلغ في التعبير والكتابة اكثرمما كتبه القراء الافاضل د عبد العزيز – د ابو مشاري- الدويش – د ابو فراس -عن هذه الشخصية الفذة لله دره . واكثر ما لفت نظري البر الشديد بوالديه وهذه الخصلة النبيلة عبادة لاتستغرب من كرام الناس بارك الله وجزى والديه على تربيته على مكارم الاخلاق . وكثر الله من امثاله . للاقتداء به . وجزى الله خيرا كاتبنا الاديب احمد لما يخطه قلمه من مقالات هادفة ومفيدة
يستاهل ابو عبدالعزيز اكثر واكثر ..
اعرفه نعم الرجل خلقا وتواضعا وخدمة للمجتمع ..
الله يوفقه و اياك ويرحم والديه ووالدينا والمسلمين …..
كم من شخص تولى مناصب ولكن لم يوفق في خدمة مجتمعه الصغير
و ما قصرت حبيبنا أعطيته حقة و هو أهل لذلك
و سبحان الله كتب لهذه المقالة القبول بشكل ما تتصوره
عندي اربع قروبات للاقارب كلها ارسلت فيها هذه المقالة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اسعد الله صباحك بكل خير
قرأت مقالتك عن الدكتور عبدالله الموسى
وتلذذت بكلماتك وطرحك الشيّق المميز
وسالني البعص هل انت من زودت الكاتب بالمعلومات
فقلت ليته طلب مني لكتب ضعف ما كتب
وانا هنا سوف اتكلم عن عبدالله الموسى
الانسان وليس المسؤول
عملت معه سبع سنوات وكنت مدير لمكتبه في البعثات
ووالله ان ما ينفقه في وجوه الخير على الضعفاء والمساكين لتعجب منه
متعك الله بالصحة والعافية حبيبنا
اخوك
عبدالله الدريهم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أبو عبدالمحسن
جزاك الله خير على هذه الكتابة
فقد كتبت شهادتنا به رجل فاضل بار بوالديه و اهله و جماعته و وطنه فنعم الرجل أبو عبدالعزيز الله يوفقه
زاملته لأربع سنوات بجامعة الامام و تخرجنا سويا عام ١٤٠٨ هـ
كان عمدة أهل الزلفي بالسكن الجامعي يحرص على إيقاظنا السكان لصلاة الفجر مبادر لحل مشاكل الاسكان مع ادارة الفرع و ادارة مطعم الطلاب فكان شعلة نشاط بكلية العلوم العربية و الاجتماعية بالقصيم فجزاه الله عنا وعن المسلمين خيرالجزاء
وجزاك الله خير على هذه البادرة منك
تحياتي
أخوك
عبدالعزيز بن عثمان الناصر
هنالك شخصيات مؤثرة ومشرفة في مجتمعنا عندما تتم الكتابة عنهم تتواتر الحقائق عن جميل صنيعهم على المستويين الشخصي والرسمي ، واجزم أنني والألاف من الناس إن زملاء أو من متلقي الخدمة من المحطات التي شغلها البروفيسور عبدالله الموسى لديهم المزيد الذي يكشف كثيراً من المناقب التي ذكرت في هذه المدونة ، وسأورد حالتين كان لي مع أبي عبدالعزيز موقفين فيهما :
١- عندما كنت معداً بالتلفزيون السعودي لبرنامج نقطة ضوء أجريت لقاءً معه عندما كان عميداً لكلية الحاسب حيث تحدث بكل صراحة عن المشكلات خاصة المالية التي كانت تواجه الكلية بسبب شح الوظائف الأكاديميه وتم عرض مقابلته كما هي مما أثار ردة فعل على حديثه .
٢- كان لمواطنة سعودية مقيمة بمسقط رغبة لمواصلة دراستها الجامعية وكانت المقاعد المخصصة في جامعة السلطان قابوس وكليات التقنية قليلة جداً ، ونقلت لسعادة الدكتور الموسى ( بوصفي الملحق الثقافي السعودي بسلطنة عمان ) موضوع المواطنة فلم يتأخر في معالجة طلبها .
شكرا لكم على هذه الإضافة الجميلة.