كيف تنجو الأمم من التداعي؟
هذا جزء من عنوان كتاب طبع حديثًا، وعنوانه الكامل: الإصلاح: كيف تنجو الأمم وتزدهر في عالم يتداعى، تأليف: جوناثان تيبيرمان، ترجمة أشرف سليمان، ويقع في (351) صفحة من القطع المتوسط، والكتاب صادر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت التابعة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ويحمل الرقم (494)، وهو عدد شوال من عام (1443) ومايو من سنة (2022م). وقد طبع منه اثنان وثلاثون ألفًا ومئتان وخمسون نسخة، وأسأل الله أن تصل نسخة منه لمن يستفيد منها ويفيد أكبر عدد ممكن من البشر.
يتكون الكتاب من مقدمة وعشرة فصول ثمّ خاتمة يعقبها الهوامش وقائمة بالمراجع. أما المؤلف فكاتب ومحرر ورئيس تحرير، ولد في كندا وعمل في أمريكا، وشارك في تأليف ثلاثة كتب قبل أن يستقل بهذا الكتاب الاستقصائي التحليلي، وسبق له أن عمل مستشارًا عن المخاطر السياسية، وأصبح كاتب كلمات سفير أمريكا لدى مجلس حقوق الإنسان ومراسلاته. والمترجم هو أ.د.أشرف سليمان ويعمل أستاذًا في علم الاجتماع الريفي بمصر، وله مؤلفات بالمشاركة وأخرى كتبها وحده، إضافة إلى عضويات دولية ومشاركات في مؤتمرات عالمية، مع إجراء دراسات وبحوث في اليابان وغيرها.
تأتي المقدمة في (30) صفحة ومعها (53) هامشًا، وحدّد الكاتب في مقدمته التي عنون لها بأساطير الخريف عشر صعوبات سياسية، واقتصادية، وأمنية، ومجتمعية، ومن الموافقات أن التجارب العشرة الواردة في الكتاب أسهمت في علاجها أو التخفيف منها. بينما يتساوى عدد هوامش الفصلين الأول والثاني البالغ (66) هامشًا مع أن صفحات الثاني تبلغ (22) صفحة أي أقل بصفحتين من الفصل الأول، علمًا أن عنوان الفصل الأول: المكاسب للشعب: كيف توزع البرازيل ثروتها، وعنوان الفصل الثاني: دع الأشخاص المناسبين يفدوا: ثورة الهجرة في كندا، وهما موضوعان أمريكيان عن شؤون السكان ومعالجة الفقر بطريقة مباشرة، وتنظيم الهجرة بما يزيل الفوارق والعصبيات، ويوحد الناس في بلدهم.
أما الفصل الثالث فعنوانه: اقتلهم بالرحمة: كيف سحقت إندونيسيا المتطرفين الإسلاميين واحتوتهم، ومع أن صفحاته تصل إلى (21) صفحة فقط إلّا أنه أكثر الفصول من ناحية عدد الهوامش التي بلغت (82) هامشًا مما يدل على عناية المؤلف بهذا الفصل الحرج، والذي يبدو أن مؤلف الكتاب لا يرى الغلو في العرق الأبيض أو لدى اليهود والنصارى! ويقع الفصل الرابع في (20) صفحة وفيه (61) هامشًا وعنوانه: تعلّم أن تتعايش مع الأمر: المصالحة الموجعة في راوندا، ومن الواضح أن هذين الفصلين يخصان دولتين في آسيا وإفريقيا، وموضوعهما شائك والحاجة له ملّحة، وتقوم على نبذ العنف، وتمكين العدالة قدر المستطاع، وذكاء الحكومة في تبني بعض مطالب المعارضة كي تفقدها مزاياها لدى الشعب.
ثمّ يحلّ الفصل الخامس بعنوان: افترض الأسوأ: كيف تتغلب سنغافورة على الفساد، وهو أقصر الفصول عبر (14) صفحة جلبت (51) هامشًا، وما أقصر الطريق لعلاج الفساد؛ بيد أنه طريق وعر محاط بالصخور والوحوش والحفر. ويجاوره الفصل السادس المكون من (24) صفحة و(67) هامشًا، ويتحدث عن مسألة فيها محاربة جريئة وعملية للفساد والاستبداد، وعنوان هذا الفصل: الماس لا يدوم إلى الأبد: كيف تغلبت بوتسوانا على لعنة الموارد، والموارد نعمة غير أنها تؤول إلى نقمة بالأثرة، وسوء الإدارة، والطبقية، وفساد المشروعات والخطط، وتمكين الأعداء منها، واللطيف أن الفصلين يعالجان هذه المعضلة في دولة آسيوية بلا موارد، وأخرى إفريقية رزقت من كنوز الأرض، فما أعاق النقص الأولى، ولا أترفت الزيادة الثانية وغمرتها بالفساد المنتن.
ويقع الفصل السابع في (22) صفحة بها (67) هامشًا وعنوانه مهم للغاية وهو: هذه الأرض أرضي: لماذا لم تحدث ثورة الصخر النفطي إلّا في الولايات المتحدة الأمريكية، وأهمية هذا الموضوع تنبع من مركزية النفط ومداخيله المالية في عدة بلدان عربية، ومن اعتماد جزء كبير من العلاقات العربية الأمريكية على هذا المورد الحيوي. ولأن الاقتصاد مشتبك مع السياسة، وهو حجر زاوية في أيّ إصلاح، فقد جاء الفصل الثامن بعنوان: اصنع معجزتك: كيف تحافظ كوريا الجنوبية على نمو اقتصادها واستمراره في النمو، وعدد صفحاته (23) صفحة أوجدت (70) هامشًا، ويشترك هذا الفصل مع سابقه في الجانب الاقتصادي، ولكنه يختص بالثناء على بعض زعماء كوريا الجنوبية حتى لو وصموا بالمركزية والضيق بالمخالفين كما هو ديدن أمثلة سلفت؛ ولكنها لم تمنعهم من سماع الرأي الآخر، ومجانبة العنف ضدهم قدر المستطاع، والنجاح في انتشال البلاد من الفقر، ورفع معدل الناتج المحلي.
ومن ألطف الفصول ما ورد في الفصل التاسع من العلو على الطبيعة البشرية في الاستئثار والخداع وسوء الظن، ونجد ذلك في هذا الفصل المكون من (21) صفحة معها (57) هامشًا تنتمي لعنوان جذاب هو: أعطِ لكي تحصل: كيف حملت المكسيك حكومتها على أن تعمل مجددًا، وفيه قصة ملهمة عن شركاء متشاكسين تآلفوا وتعاونوا وصدقوا في العهد. وآخر فصل وعاشرها ليس عن دولة أسوة بما سبق، ويتضح ذلك من عنوانه: دافع عنها بنفسك: مدينة نيويورك وفن التوصل إلى الحلول البديلة، ويقع في (23) صفحة و(55) هامشًا، ويختصّ بمشكلات أمنية واقتصادية في هذه المدينة التي استطاعت حلّها بجرأة واستقلال.
وأخيرًا نصل إلى الخاتمة المختصرة في (13) صفحة وهامش واحد فقط، وفيها كرر المؤلف ثلاثة أسئلة وردت عليه قبل أن يشرع في تتبع هذه التجارب، ومقابلة أبطالها، والقراءة عنها بتعمق، مع محاورة أهل المعرفة والاختصاص، وهذه الأسئلة هي:
- لماذا يزدهر عدد من البلاد في وقت تشيع فيه الاضطرابات؟
- هل يمكن للدول أن تحذو حذوها؟ وهل أسرار نجاحها قابلة للتصدير؟
- هل تقدم دروس نجاحهم مجتمعة أيّ دروس مستفادة تكون أعم وأشمل؟
وقد استبان من خلال السرد الماتع في الفصول العشرة الآنف ذكرها الإجابة التفصيلية عن السؤال الأول عبر عدة تجارب متنوعة، ومشكلات مختلفة، وبلاد متباينة في الموقع والثروات وطبيعة النظام والمجتمع. والإجابة الحتمية الواضحة عن السؤال الثاني بكلمة واحدة هي نعم! أما السؤال الثالث فقد اختصت الخاتمة بالجواب عنه عبر خمسة دروس مهمة وملهمة لمن يروم الإصلاح، ويخشى من التداعي، وتعبر عن جانب عملي وجرئ في فلسفة الحكم والإدارة، وهي:
- قوة التفكير المتنوع:
وخلاصتها التحذير من الاتساق المبالغ فيه بين أعضاء فريق العمل، والدعوة للتخلص من أيّ قيد أيديولوجي يمنع الإفادة من طاقات الناس وخبراتهم وآرائهم، مع الرفض الشديد في أن يستثمر الحزب الحاكم السلطة لصالحه فقط، ويحول دون قبول اقتراحات الآخرين، أو يسعى لتضييق نطاق مشاركاتهم، ووصف المؤلف هذا الدرس ببراغماتية البحث عن حل للمشكلات بعقل دون عاطفة، لدرجة تصل إلى تنفيذ الإجراء المضمون نجاحه بغضّ النظر عن اسمه وانتسابه ووسمه.
- احتواء الأزمات:
لم يصنع القادة في الفصول العشرة تلك الأحوال القاسية التي صادفتهم؛ لكنهم جميعًا أدركوا مساحة الحرية النادرة التي منحتها لهم هذه الصعوبات المتراكمة، وكان لديهم الشجاعة لاهتبال هذه الفرصة النادرة وما فيها من هذا القدر الكبير من الحرية لضمان ألّا تواجه شعوبهم وبلادهم هذا المأزق مرة أخرى، وقد أفلحوا في تحويل الشدائد إلى مزايا، وأعادوا صياغة القواعد من جديد بلا تقليدية رتيبة.
- ارض جميع الناس في بعض الأوقات:
وهذا مطلب يستلزم من القيادة الفعالة الجرأة، وضبط النفس، وعقد صفقات تنطوي على مساومة، والتصرف بشهامة بالغة بمجرد ما يبدو لهم أنهم في أقوى أحوالهم، ويرى المؤلف من خلال هذه النماذج العشرة أن الإرضاء صار وسيلة ناجعة لحسن الإدارة خاصة عند حل النزاعات.
- أحكم وضع الحدود:
فمن سمة رجل الدولة الواقعية، وتوقع حدوث الخطأ البشري، والمبادرة للسيطرة عليه وحصاره، وتمثل ذلك في قادة لم يستجيبوا لإغراء السلطة، وشهوة المنصب، وبريق المال، ولم يفترضوا في الوقت ذاته إمكانية تحسين السلوك البشري، ولذلك سعوا إلى تمتين النظام، وبناء قواعد قانونية راسخة، والالتزام بها مع إلزام الآخرين بها؛ حتى قضوا على الفساد، وحاربوا الانفراد بالقرار، وأتاحوا المشاركة للكافة حسب الاستطاعة.
- اصنع المعجزة من خلال التطور:
ويقتضي ذلك تشجيع التغيير بطرق إنسانية مع تجنب أخطاء الأسلاف، إضافة إلى التخلي عن أيّ مسعى للانتقام من الماضي وعثراته، وإبداء التسامح الفردي والجماعي، وتوسيع مدى التصالح لردم الثارات، وقمع إحياء النعرات.
ويجزم مؤلفنا بأن هذه الإجراءات لا تحتاج إلى قادة موهوبين على نحو فريد، وإن كانت الموهبة ظاهرة في الأمثلة التي درسها، بيد أنها موهبة نجمت مع التطبيق والإصرار. كما أن الحلول الواردة لا تتطلب قوى خارقة لأدائها، وجميع ما سبق بيانه يمكن محاكاته بشيء من الحكمة والجرأة والشجاعة، مع انتهاك بعض المعتقدات السياسية الراسخة بفعل الزمن وطول العهد، والإقدام على بعض التضحيات حتى لو كانت مؤلمة، مع الصبر على أذى الاستخفاف والاستهزاء الذي قوبل به الزعماء المصلحون، ويواجه أيّ مصلح عبر التاريخ.
أشير أخيرًا إلى أني تعمدت الاختصار دون إسهاب في عرض الفصول، ووضحت عدد صفحاتها وهوامشها وعناوينها مع مختصر يسير عن محتواها، والسبب يعود إلى أمرين، أولهما لعل القارئ الأثير أن يسارع إلى قراءة الكتاب المتوافر ورقيًا وإلكترونيًا عبر موقع السلسلة وفي منافذ البيع ووكلائه إذا كان موضوعه يعنيه، علمًا أنه يمكن قراءته منجمًا حسب الحاجة؛ وهو كتاب يزف البشرى بالقدرة على تجاوز المعضلات. والسبب الثاني هو أن كل فصل يحتاج إلى كتابة خاصة، ولا مناص من وقت وجهد، وهما أعز من الكبريت الأحمر حاليًا، ولعل الله أن يوفق لذلك لاحقًا واحدًا من عباده لذلك؛ ففي الكتاب فأل وخبرة وعبر.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 25 من شهرِ محرم عام 1444
23 من شهر أغسطس عام 2022م