إدارة وتربية عرض كتاب

الكرم والكرماء: مآثر لا تبلى!

الكرم والكرماء: مآثر لا تبلى!

من الوفاء أن يؤرخ الكتّاب القادرين سير فضلاء الناس حتى ينتصب الواحد منهم شاهدًا شامخًا لمن رام الاقتداء، ومن الجميل إبراز الأخلاق الحميدة والخصال الباسقة حتى يهتدي لها الموفق من عباد الله. وبين ناظري كتاب جمع بين هاتين الميزتين، وحاز هذين الخيرين؛ ففيه أناس فعلوا وأحسنوا، وآخرين قالوا أو نقلوا فصدقوا. وفيه أخبار زكية عن صفة نبيلة ومن نبلها أنها تطمس أيّ خلل؛ حتى أن العرب في قديمهم وحديث أيامهم تناسوا جرم النهب إذا كان الناهب ممن يبذل المعروف، ويديم العطاء، ولا تنقطع منه الهِبات والهبّات للنجدة والغوث.

وهو نسخة إلكترونية شرعية من الطبعة الثالثة من هذا الكتاب اللذيذ وعنوانه: مآثر الكرام: قصص وأشعار من التراث القديم والشعبي، وهو من تأليف: خالد بن عبدالله العسّاف. وقد صدر الجزء الأول من هذه الطبعة الثالثة عام (1443=2022م) ويبلغ عدد صفحاته (392) صفحة، مكونة من مقدمة وستة فصول، ثمّ ملحق قصير لكرماء الشعوب الذين سيفرد لهم جزء ثان فيما بعد، وبعد ذلك المصادر والمراجع التي بلغت (34) كتابًا فالفهرس.

يتحدث الفصل الأول عن الكرم، وخير ما يُبدأ به الثناء على كرم مولانا وربنا الذي له من الأسماء الحسنى ما يرتبط بالكرم مثل الكريم والوهاب والمعطي والرازق والرزاق وغيرها، وما أجمل العيش مع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى، من خلال الآيات القرآنية وتفسيرها، أو بقراءة الكتب التي وفق الله مؤلفيها للكتابة عن معاني هذه الأسماء وتلك الصفات وما فيها من جوانب عقدية، وتعبدية، وأخلاقية لتزيد من الإيمان، وتعين الأرواح على التحليق في ملكوت الله نحو بارئها. ولقد حث الله العزيز على الجود، وأحبّ أهل الجود والكرم من عباده، وتجاوز عن المقصر منهم بسبب كرمه وصفحه عن الآخرين من المعسرين، ولا غرو فربنا هو الأكرم.

كما يحوي هذا الفصل حديث المحب المقتدي بسيرة النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام الذي كان أجود بالخير من الريح المرسلة وأجود ما يكون في شهر رمضان، وهو الذي يعطي عطاء من لا يخشى الفقر أو يحذر من الفاقة. وقد أعلى رسولنا من صفة الكرم بأقواله وأفعاله وتقريراته وثنائه على كرماء قريش والعرب حتى مع شركهم وكفرهم. ثم بلّغ لنا تشريعات وأحكامًا تكسر البخل والشح، وتقود إلى الفلاح بالعطاء هبة وصدقة وزكاة، وهي أعمال تقصي معرة البخل التي لا تجتمع في مؤمن مع الكذب، وبئس الخلتين هما. وختم كاتبنا هذا الفصل بتجلية شأن الكرم في الإسلام من خلال أحكامه وآدابه.

ولأن البخل نقيض الكرم فقد جعل المؤلف الفصل الثاني للحديث عن هذه الخصلة وما قيل عنها، وهي خلة يزيد قبحها من بيان فضل الكرم وفضائله. وروى الفصل الثالث أقوالًا عن الكرم والحث عليه، وهي متنوعة ما بين نصوص مقدسة، وأشعار وكلمات لقدماء ومعاصرين، تصب جميعها في الثناء على الكرم والمنح ذلك أنه هو الذي يبقى كما قال الفاروق لأبناء أحد الأثرياء الذين مدحهم الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى؛ إذ فنت الأموال الموهوبة للشاعر، وبقيت قصائد الشعر الخالدة في مدح ذلكم الكريم وإعلاء شأنه واسمه.

ثم وقف الفصل الرابع مع صور مشرقة من كرم الأنبياء والصحابة، وأشار لأضياف الخليل إبراهيم عليه السلام الذي كان من مبلغ كرمه أن قرب الطعام للضيوف ولم يلجئهم للقيام إليه، وإن جميع أنبياء الله ورسله هم الأفضل والأكمل في أقوامهم ومن جاء بعدهم. وختم العقيد المتقاعد العسّاف هذا الفصل بسرد شيء من كرم الصحابة، ويكفينا مراجعة سيرة الكرم لديهم في حياة عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما من باب التمثيل وإلّا فكلهم ذووا مناقب جمّة باهرة، ولم يترك القادر منهم وقف شيء من أملاكه وحبسها على الانفاق في سبيل الله، حتى صار الوقف سمة في حضارتنا، رضوان الله عليهم جميعًا.

عقب ذلك أمتعنا الفصلان الخامس والسادس بإيراد شيء من قصص الكرم أولّا، ثمّ رواية قصص شعبية عن الكرم ثانيًا، وهما أطول فصول الكتاب، وفيهما قصص قديمة وحديثة، لكرماء من بلاد وجهات مختلفة، وقبائل عديدة، وعصور متعاقبة، ومجتمعات متنوعة، كي لا تحوم حولها شبهة عصبية لزمان أو مكان أو إنسان أو تكوين قبلي أو بلداني، ولا غرو فالعربي كريم أينما كان، وعلى أيّ حال، ولولا ثقة العربي بكرم أخيه العربي لما قطع مفاوز الصحراء بلا ماء ولا زاد، فتلك الصحارى مهالك على التحقيق لولا قاطنيها وعمارها من الكرماء الأوفياء النجباء. وفي هذا الفصل إشارة سريعة من أبي عبدالله لجده يحيا، ووالده عبدالله، وأعمامه وإخوانه، رحم الله الراحل منهم، وأبقى الحي وأمتع به؛ فهم من منارات الكرم، وأهل المجالس وحميد الشيم، وبمرآهم تسعد العين، وبأخبارهم تنشرح النفس، وهكذا يكون شأن أفذاذ الأسر العريقة.

فإذا أردت أيها القارئ الكريم مادة مناسبة عن الكرم والكرماء؛ فدونك هذا الكتاب المختصر الحاوي، الذي صيره مؤلفه متاحًا للنشر الإليكتروني مجانًا، وقد غدا موجودًا عبر المواقع التي تحفظ النسخ الشرعية من الكتب الإليكترونية في تلجرام وغيره من المنصات، وهو بين يديك لتقرأ منه، وتحدث به من تحب، فإن أحاديث الجود والسخاء والكرم أحاديث بهية رفيعة سامية، مثلها لا يمل على كثرة الترداد، ولا يخلق مع توالي الإعادة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

السبت غرة شهر الله المحرم عام 1444

30 من شهر يوليو عام 2022م

Please follow and like us:

One Comment

  1. فضفضة يا ا/أحمد على أديم صفحتك الإلكترونية، أرجوك لا تزرع الحريق في عصب الحرف، إني أثمل مع قراءة مقالاتك و كتاباتك، تركت ما كان بين يدّي من انشغال لأعلق على موضوعك، ألا ترى معي أنه من الوفاء أن يؤرخ بعض الكتّاب وربما القراء…زمن اكتسابهم لصفة البخل، هل هي متأصلة متجذرة فيهم و لم تطفو على السطح إلا للتو، ام هي صفة عارضة مؤقته مصابة بحمى وسوف تعود و تتعافى!
    ياسيدي إن صفة الكرم صفة نبيلة ومن نبلها أنها تطمس أيّ خلل؛ جرم النهب إذا كان الناهب ممن يبذل المعروف، ويديم العطاء، ولا تنقطع منه الهِبات والهبّات للنجدة والغوث، فإن كرم حرفه ونبض قلبه، وصدق مشاعره تحسب لتاريخه، ولا غبار على ذلك، لكن مما أرغب أن أضيفه، بصيغة أو أخرى!
    أن ابشع صفة ليست البخل! بل البخل بعد اعتياد الكرم!
    هل كان بخيلًا في الأصل والوصل! لكن يتذرع تحت ذريعة الكرم وحينما سنحت له الفرصة اظهر امتعاضا و انعتق من مشهد البذل، فأخرج ما في جعبته من جفاء ونفور!
    هل أجد بين ثنايا كتاب العساف بإيراد شيء من قصص الكرم بين العشاق! حينما كان يتنافس كلاهما على الإغداق على صاحبه بكلمة تقتلع جذور الهمّ، و تبّل يباب الصدور، أم أن حكايتهم سيطرت عليها ريح الواقع عبر الاهتراءات والهزائم المتوالية، البخل بالمشاعر بعد كرم الحب ليس إلا “الهوّة التي تُوتر الوجدان وتهزّ الذات فتصاب بالرعدة”،هلمّ معي يا كاتبي المفضل الأثير، لأخذك بلقطة حكائية باردة! تصور أنه لم يعد باستطاعته أن يكتب لها كلمة واحدة يهدهد بها قلبها، لم يعد يقوى أن يبعث لها كما في السابق، اشتقت إليك! او حتى أحبك!
    بل أصبحت كلماته تخرج من أرض ضيقة، استدعى ذلك في ذاكرتي مشهد الوداع للشاعر ابراهيم حسن حينما وصف” لوعة العصفور”، ذلك العصفور الذي امتلك بدقة حدس عالي قراءة ذرات الغبار، متوجساً، خائفاً، مشتاقًا للاحتضان، موقنًا بمصيره، عصفورا يغصّ من الألم ، في لحظة أغمض عينيه، وكان السؤال الأكثر مأساوية حينما سأل الشاعر سؤال يستحق التبجيل! هل تلك الإغماضة كانت؛ إغماضٌ عن قسوة المصير؟ ام هو إغماضٌ عن الذخيرة!
    ليأتي السؤال محملًا بالجواب سريعاً؛ “من يدرك لوعة العصفور” في هذا الموقف الذي لا يحسد عليه ، فيكون الجواب ” ومن يدرك ذلك غير العصفور” نفسه!
    لا أطيل لكن رجفة طالت حروفي وكلماتي، سأقرأ هذا الكتاب الذي ذكرت، لعل أجد غايتي الضالة عند عقيد العساف المتقاعد، فهو من اسرة عريقة مشهود لها بمكارم الأخلاق، وأنا مثله تماماً أنتمي لأسرة أشد كرماً أسرة تحرث بشراسة في الكرم والوفاء! لعل ألتقي بين سطور كتابه، سطرا تائهًا يجعل قلبي يهب -الكرماء البخلاء- صك الغفران، لمن نكصوا بالرحيل بعد كرمهم واستأثموا بالغلظة والجفاف!
    شكرا لهذه المقالة التي استحثتني بعد عقم وإمحال في الكتابة، وما أود قوله ختامًا؛ البخيل الذي يفيض بالعجز، هو من يفطم المحتاج إليه على مضض!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)