الرحالة العبودي في آخر رحلة!
طويت اليوم الجمعة آخر ورقة من رحلة العالم البلداني الرحالة الشيخ محمد بن ناصر العبودي (1345-1443) عن عمر يناهز المئة قضاها في طلبٍ وتعلم وعمل ونشر علوم ومعارف ودعوة وعون في التعليم والتقريب بين المسلمين، والتعريف بهم بعد التعرف إليهم، وتسهيل ارتباطهم في أقاصي الدنيا بإخوانهم في الدين والعقيدة، إضافة إلى بناء المساجد وتشييد المراكز، وكان الناقل الأمين للمساندة المالية والمعنوية والعلمية لمن وفد إليهم ممن كان رائدهم، مع طيب نفس، وحسن علاقات، وحكمة في التصرف كبيرة.
أمضى الشيخ العبودي عمره المديد في جدية بالغة، فلم يهجر القراءة أو الكتابة، وكان من ثمرة هذا الانصراف الذي صرم عمره فيه أن أصدر كتبًا بالمئات في عددها وعناوينها، مع تنوع وتفرع ي الأجزاء، ونفع في المحتوى، وربما أن المخطوط والمسموع من تراثه إذا طبع سيجعله في المرتبة الأولى للتأليف سعوديًا، أو حتى عربيًا، مع المنافسة عالميًا، وليس تصنيفه من الحشو والتكرار والنقل، بل فيه بحث، وتحقيق، وتتبع، ورواية، وإسناد، ورأي، وجدة، وظرف ولطف.
امتاز الشيخ بحلاوة الأحدوثة، وحسن الصوت، وجمال النغمة، والأداء الآسر؛ ولذلك اصطفاه سماحة الشيخ القاضي الكبير عبدالله بن محمد بن حميد (1329-1402) ليكون رفيق علم وعمل، وسمير أنس ورحلات، وليقرأ عليه ويحدثه، ولم يكن انتقاء الشيخ صاحب البصيرة النافذة خاطئًا أو كيفما اتفق، فشواهد تميز العبودي التي بز بها الأقران أصبحت لنا ظاهرة ترنو إليها العيون المحبة، وترمقها بقية العيون دون أن تقوى على تجاهلها بإعراض أو استراق من طرف خفي، والحمدلله على آلائه.
ومما يروى عنه أنه لم يترك يومًا يعبر وتغرب شمسه أو ينبلج فجر ليله دون قراءة أو كتابة، ولم يخلد للنوم قبل تدوين شيء وإن كان يسيرًا، وحين يسمع معلومة يكتبها مباشرة فيما معه من دفاتر أو أوراق، ولا يعتمد على الذاكرة مع أن ذاكرته قوية تصويرية، وفوق ذلك لم يضع الشيخ وقته في لهو ومباحات، مع أنه يستقبل الناس في مجلسه، ويستمتع بطيبات الحياة الدنيا، بيد أن الجدية أصل في منهجه، والمتعة مطلوبة لكنها عنده وعند الحكماء أمثاله حاشية في الهامش، لا تزيد رقعتها فتقضي على المرء وعلى عمره، وتودي بالأصل إلى قعر موحل سحيق لا فكاك منه ولا خلاص.
ولأجل ذلك بارك الله في عمره وعمله وطريقته، وأصبح الشيخ الخالي من القوة الزائدة في الجسم أو السلطة أو المال قوة ناعمة لبلاده وأمته، واشتهر رجل الدولة بالرحلات، والرواية التاريخية، والعلم البلداني، والمعرفة بالأنساب والأسر والسير، هذا غير علوم اللغة والشريعة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فما ألذ الحياة مع الكتب التي صاحبت الشيخ طوال حياته وفي لياليه وأيامه، حتى أني سمعته مرة يقول بعد صلاة الظهر كلامًا حاصله أو معناه: تحدثت مع وزير الثقافة، وأبديت له مخاوفي من يتم الكتاب المطبوع إذ لا يجد راعيًا ولا حاميًا ولا مدافعًا.
ومما ينهض شامخا في سيرة الشيخ تلك العلاقة الحميمية والعلمية المديدة مع المحامي د.محمد بن عبدالله المشوح، الذي تولى عبر مكتبته الثلوثية وديوانيته الشهرية كل ثلاثاء تقديم الشيخ وعلومه وتقريبها للناس عامتهم وخاصتهم، بصورة واضحة، وإتاحتها كي تغدو سهلة البلوغ والمنال، ولو حظي العلماء والمؤرخون والأدباء بمثل هذه العلاقة لما ضاعت فنون وعلوم وأخبار وسمت وهدي وأدب، ولوجد أولئك الكرام من الاحتفاء مثل ما وجده العبودي الذي عقدت عنه ندوات محلية وعربية يستحقها وأزيد.
إن شيخنا الموسوعي لعلامة مضيئة جديرة بالافتخار، وأتمنى أن تحرص الجامعات على تخصيص نصيب من دراسات طلاب الماجستير والدكتوراة عنه وعن آثاره، وآمل ألّا تتأخر وزارة الإعلام في نشر برامجه الصوتية الرائقة اللافتة، وأن تولي وزارة الثقافة مكتبة العبودي عنايتها. ولربما أن الثلوثية، أو ذرية الشيخ، أو غيرهم من المحتسبين الذين يرجون الثواب، سوف يسارعون لاغتنام مقاطع الشيخ المرئية والمسموعة ومواده التي يمكن اختصارها، وتحويلها إلى أجزاء صغيرة لتكون مما يجود المعروض والمطروح في تطبيقات التواصل الاجتماعي ويحسنه ويبارك فيه ويرتقي به عبر تطبيقات مثل تويتر، وسنَبشات، وتِك تُك، وكل ما يأتي من جديد ومستحدث.
وها نحن نودع شيخنا محمد الناصر العبودي في يوم الجمعة راجين أن يكون يوم رحيله علامة على حسن الختام، ونبتهل في هذه الأيام العشر المباركة بأن ينال المزيد من الدعاء وصالح العمل من آله ومحبيه. وستكون الصلاة عليه ظهر يوم غد السبت في جامع الجوهرة البابطين قبل أن يدفن في مقبرة شمال الرياض، وتلك لعمركم آخر رحلة للعبودي ولكل بني آدم في الدنيا قبل البرزخ، والآخرة، والله يجعل لروحه خير رحلة إلى الجنان ففيها نعم المستقر، رحمه الله، ووالدينا، وجيرانه في المقبرة، ومن يقرأ ويؤمن وينشر، وجميع المسلمين والمسلمات.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 02 من شهرِ ذي الحجة الحرام عام 1443
01 من شهر يوليو عام 2022م
3 Comments
رحم الله الشيخ الرحالة محمد بن ناصر العبودي واسكنه فسيح جناته . وبارك الله له في اولاده وفي ذريته . وكثر الله من امثاله فالامة الاسلامية بحاجة شديدة لمن امثاله اقتداءا وعملا .
اخت له في الله
رحمه الله وتقبله في الصالحين ولاحول ولاقوة الا بالله
رحمه الله رحمة واسعة ووالدينا ووالدي كاتبها ووالدي قارئها ووالدي من نشر أو دعا و تفضل و أموات المسلمين..
آمين.