شريعة وقانون عرض كتاب قراءة وكتابة

الصياغة القانونية: علم وفن!

الصياغة القانونية: علم وفن!

فرغت من قراءة كتاب عنوانه: الوجيز المرشد إلى الصياغة القانونية، تأليف: الدكتور محمد بن عبدالله بن محمد المرزوقي، وصدرت عن مكتبة التوبة الطبعة الثانية منه عام (1442=2020م)، ويقع في (106) صفحات مكونة من تمهيد، وأربعة أقسام، فخاتمة ثم الفهارس، وأخيرًا تعريف بالمؤلف وخبراته العلمية والعملية في دراسة الفقه والأنظمة، والعمل في هيئة الخبراء بمجلس الوزراء، وفي مجلس الشورى، إضافة إلى التدريس في الجامعات، والإشراف على الرسائل العلمية، ونشر عدة كتب أحدها عن المصطلحات الدستورية من منظور الفقه الإسلامي.

ابتدأ الكتاب بتمهيد مختصر فيه خمسة محاور، وانتقل المؤلف بعدها إلى أقسام كتابه؛ إذ يختص القسم الأول بالصياغة التأسيسية وفيه أربعة فصول، بينما يدرس القسم الثاني موضوع الصياغة التنظيمية عبر فصلين اثنين، ويبين القسم الثالث الصياغة الوقائية خلال خمسة موضوعات، ويوضح رابع الأقسام الصياغة البيانية بواسطة فرعين اثنين. ومن مزايا هذا الكتاب الاختصار، والوضوح، وإيراد الأمثلة والتطبيقات، وأجلّ المزايا توقير الشريعة وجنابها، والتأكيد على مرجعيتها الحاسمة عند كل مسلم.

ذهب القسم الأول بخمسي الكتاب تقريبًا، ولا غرو فالصياغة التأسيسية هي الأهم والأساس كما يشير اسمها؛ ولذلك فهي أهم ما يلزم العناية به، لاعتماد بقية أنواع الصياغة عليها في الفهم والتطبيق والاحتماء والاستناد والبيان. ولأجل ذلك يعرّف الفصل الأول الصياغة التأسيسية بأنها إخراج القاعدة القانونية إلى حيز التطبيق العملي إخراجًا يفصح عن جوهرها، ويكشف عن مضمونها بما يحقق الهدف من فرضها.

ولتكوين القاعدة القانونية عدة مراحل هي:

  1. نشوء فكرة تستدعي فرض معالجة لحاجة حياتية.
  2. اعتمال هذه الفكرة في الأذهان حتى تكتمل جوانبها.
  3. تستند هذه الفكرة إلى أمور واضحة تستدعي التنظيم، وأهداف يراد تحقيقها.
  4. سياسة التشريع وهو تصور الفكرة وتمحيصها، وهو فن يستحق أن يستقل بذاته، وفرق بين سياسة التشريع، أو التشريع السياسي.
  5. يتطلب هذا الفن إدراكًا واعيًا لمتطلبات الحياة المجتمعية، وما يستوجب التدخل بتنظيمه، وتأثيرات ذلك على المجتمع والأفراد.
  6. البحث عن المعالجة من أحكام الشريعة وضوابطها؛ فالشارع يقصد مصالح العباد في أحكامه وأوامره ونواهيه.
  7. لا يكتفى في سياسة التشريع بتقدير الحاجة لتقرير القاعدة، وإنما لا بد من تقدير الأعباء والتأثيرات على المجتمع والأفراد.
  8. يجب أن يكون إصدار القواعد القانونية وسيلة لتنظيم الحياة ليصدق عليه وصف السياسة التشريعية لا أن يكون وسيلة لإضفاء الشرعية على رغبات النافذين وهو ما يعرف بالتشريعات السياسية.
  9. تظهر القاعدة القانونية التي قامت على فرض وحكم إلى العلن بصياغة مدركة ووافية.

أما أهمية العناية بصياغة النص القانوني فتبدو فيما يلي:

  1. تضييق مداخل الفساد، ومنع عبور الأهواء والمصالح الخاصة من ثغرات الصياغة.
  2. تحقيق الأمن القانوني والتشريعي بالاستقرار والثبات النسبي والخلاص من الحيرة في التفسير والتطبيق.
  3. تمكين العدالة التي تكون بتطبيق القانون على وجه المساواة بلا تفاوت في الأفهام.
  4. الانسجام في التطبيق ومنع التعارض والاضطراب.
  5. منح الهيبة للقواعد القانونية.
  6. تيسير الفهم وتوحيد التفسير.
  7. إتاحة الترجمة الواضحة.
  8. التسهيل على جميع أطراف العلاقة بالنص القانوني.
  9. ترشيد عدد القواعد القانونية بحسن الصياغة الذي يغني عن كثرتها.

كما درس الفصل الثاني معايير صياغة القاعدة القانونية، والقاعدة هي المضمون الذي يظهر عبر نص كاشف، ولهذا النص معايير عامة من ثلاثة أنواع تتعلق بالنص، وبمستعمله، وبسياقه. أما المتعلقة بالنص فأهمها التماسك بنوعيه اللفظي والمعنوي، ويتحقق التماسك اللفظي بروابط شكلية مثل علامات الإعراب، وعلامات الترقيم، بينما يقوم التماسك المعنوي على ضبط العلاقة بين منظومة مفاهيم النص بما يحقق الترابط الدلالي له مثل السببية، والتفصيل بعد الإجمال، والتقابل، والاستثناء، والتخصيص، وغير ذلك.

ثم أجاد المؤلف في توضيح أهمية حسن السبك، وذكر عدة قواعد مع التمثيل لها، وهذه المسألة تستلزم معرفة لغوية فيها قدر من العمق والمهارة، وأثرها على النص القانوني عظيم جدًا؛ لأن المعنى ينبني عليها، ولذلك فما أحرى أن تعين لجنة من أهل اللغة لمراجعة النصوص القانونية لغويًا قبل إقرارها، وما أحسن كتابة دليل للصياغة حسبما اقترح المؤلف، كي يعين الصائغ على الإحسان واجتناب مكامن الخلل أو الاحتمال المؤدي للاختلاف في التفسير والاضطراب في التطبيق.

أما المعايير المرتبطة بمستعملي النص فتتمثل في أمرين أولهما وضوح القصد لدى الصائغ، وطالب التقنين، وثانيهما القابلية لدى متلقي النص وعند معتمده إن كان غير الصائغ، وتستوجب القابلية مراعاة حال المخاطب دون هبوط بمستوى النص. وتراعي المعايير سياق النص في ثلاثة جوانب هي مراعاة الحال، وواقعية الافتراض، والعلاقة بين النصوص، فيكون النص مراعيًا لأحوال المجتمع، ويعالج وقائع يمكن حدوثها، وينسجم مع النصوص النافذة الأخرى من داخل النظام ومن خارجه، وفي أنظمة محلية أو دولية معتمدة، ومن الضرورة أن يتواءم مع البناء التشريعي للبلد، ومع إستراتيجيتها العامة.

 وثمت معايير خاصة بالنص القانوني هي العمومية والتجريد، وتنظيم السلوك، والإلزام والجزاء. وسرد المؤلف بعدها المرجعيات العامة للنص القانوني وفيها إحدى عشرة مرجعية على رأسها الأحكام الشرعية، وفيها المبادئ النظامية المستقرة، والإستراتيجية العامة للدولة، والقيم الاجتماعية، والسوابق القضائية، ومنها المعاهدات الدولية، واستطلاع آراء الناس، وغيرها، ومن المهم أن ينظر لهذه المرجعيات مع صياغة النص وقبل إقراره منعًا للتناقض، على أنها مرجعيات تتفاوت في القوة والتأثير.

عقب ذلك وضع د.محمد المرزوقي هيكلًا عامًا مقترحًا للصياغة التأسيسية في الفصل الثالث على افتراض أن النظام الذي يصاغ كبير الحجم كثير الأحكام، وبالتالي يمكن للأنظمة الأقل إغفال بعض مكونات هذا الهيكل المقترح. فمن مكونات الهيكل العنوان، والتعريفات التي تضبط استخدام المصطلحات داخل النص وتوحدها، ثم بيان الأهداف، وبيان نطاق التطبيق، والأحكام الرئيسة وهي صلب النظام، وبعدها الأحكام الانتقالية، فالأحكام الختامية، والملاحق، وتاسع المكونات وآخرها اعتماد الصياغة التأسيسية من سلطة عامة لها اختصاص، وإصدار الصياغة مكتوبة ونشرها.

ووقف الكتاب المختصر في الفصل الرابع من القسم الأول عند أنواع الصياغة التأسيسية، وهي بحسب المدلول صياغة جامدة تهدف إلى معالجة فرض معين، ووضع حكم ثابت لا يتغير لا مجال فيه لاجتهاد أو مراعاة الأحوال، وهذه الصياغة تحقق العدل المجرد. والنوع الثاني صياغة مرنة تسمح بالاجتهاد وتهدف لتحقيق العدل الواقعي. وللصياغة التأسيسية أنواع أخرى بحسب المرتبة وهي قواعد دستورية، وقواعد قانونية عادية، وقواعد قانونية فرعية، وتتلاقى هذه القواعد في ضوابط الصياغة وإن تباينت أهميتها.

فالقواعد الدستورية مثلًا تتميز بقلة الألفاظ وتكثيف المعاني؛ لأن من أهم سمات القاعدة الدستورية الجمود والثبات إلى أطول مدة ممكنة من غير تعديل. ومن مميزاتها كذلك أن صياغتها لا تقوم على الافتراض، ولا تتجه إلى آحاد الناس، وتنظم سلوكًا سلطويًا ولا تحمل تهديدًا بجزاء مباشر يقع على الفاعل بل يترتب الجزاء فيها على الفعل. أما القواعد القانونية العامة فصياغتها مفصلة، وتتجه لتنظيم مجال محدد ولا تتصف بالجمود، والقاعدة القانونية الفرعية لا تأتي بأحكام جديدة، وعباراتها تفصيلية، ويغلب عليها الطابع الإجرائي.

ثمّ بحث القسم الثاني الصياغة التطبيقية مثل صياغة الأحكام القضائية، وأحكام التحكيم، والقرارات الإدارية. وعرج على بيان الصياغة القضائية بفروعها الثلاثة: الديباجة، والأسباب، والمنطوق مسهبًا في الثاني منها لأهميته في الحكم. ولم يطل الكلام عن التحكيم لمشابهته للقضاء، بينما أوضح جوانبًا في صياغة القرارات التي تمثل صورة من صور العمل التطبيقي الملزم لتنفيذ القاعدة القانونية، وجعل لصيغة القرار هيكلية مكونة من تسعة أجزاء منها صفة المصدِر، ومستنده النظامي، وموضوع القرار، ومنطوقه، ورقمه، وتاريخه، وغيرها.

يأتي بعد ذلك القسم الثالث عن الصياغة الوقائية وأبرز تجلياتها في العقود، وأفاض د. المرزوقي فيما يحتف بالعقود مبينًا أهمية صياغتها، ومقومات صياغة العقود، ومرتكزات صياغتها، والتصميم الهيكلي للعقد، وأنواع العقود حسب حرية الصياغة. وجاء رابع الأقسام وآخرها عن الصياغة البيانية التي تتمثل في صورتين هما لوائح الاتهام، ومذكرات الترافع، وجرى التأكيد فيهما على ضرورة التوثيق، والدقة، والوضوح، مع أهمية سعة الفهم، والقدرة على الإفهام والاحتجاج والإقناع والنقض، مع الإشارة إلى تأثير الثروة اللغوية والثقافية، والمهارات البيانية.

إن هذا الكتاب على اختصاره- وهو اختصار يُثنى عليه- مهم لأهل الاختصاص ولغيرهم، وعسى أن يكون مع إخوانه -وهم عدد غير قليل- في متناول العاملين في مطابخ صناعة الأنظمة، وبناء القوانين والقواعد واللوائح والقرارات، إضافة إلى أطراف الرواق العدلي الواسع جدًا في المحاكم، وإدارات التحقيق والادعاء والنيابة، وعند المحامين، ودارسي الشريعة والأنظمة والقانون، فمكتبة هؤلاء لا مناص من سعتها، وحيويتها، وتحديثها. وعلى الله قصد السبيل لمن شاء الإصلاح دون اجتراح شيء يخالف شريعة رب الأرض والسماء، أو يخرج بالمجتمع عن صفاته الراسخة المرتبطة بدينه ولغته وتاريخه وأعرافه السليمة وعوائده الصحيحة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الجمعة 15 من شهرِ شعبان عام 1443

18 من شهر مارس عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)