مزنة الراجحي: ديمة لا تنقطع!
توفيت ظهر أمس الجمعة امرأة ذات مناقب وإن لم تحمل أرفع الشهادات، وصاحبة آثار وإن لم تشغل أرقى المناصب، ومالكة صيت وإن لم تنافس على موطن شهرة أو وسيلة ظهور. ورحلت عن حياتنا الدنيا المرأة الصالحة مزنة بنت محمد الراجحي، فقدمت لشهود جنازتها في المقبرة فمن وراءهم درسًا قصيرًا يلخص حياتها وشخصيتها، فحين أرادوا رفع جثمانها طلب أحد أنجالها أن يسترها محارمها عن الأعين بناء على وصيتها حتى وهي عجوز مسجاة على شفير قبر بلا حراك، ولا حضور لأي داع للفتنة، والوقت مظلم بليل ما بعد المغرب، وهذا هو لباب سيرة السيدة المزون بما فيه من عفاف وتصون وقدوة صامتة في فعل الخير وصنع المعروف وانتهاج ما تراه الصواب حتى لو كان الشائع على خلافه.
إن أولئك النسمات المباركة في البشر مثل الراحلة في الإبل التي يعرفها أهل الخبرة بالنجابة وتمام الخلق وحسن المنظر، وعلى همة أولئك الأخيار ومسالك هؤلاء الأفذاذ تقوم الحياة ويقام أودها ويستقيم اعوجاجها، ولذلك فلا عجب أن يفوق إنسان واحد شركاءه في العصر، وأقرانه في الآدمية، ذلك أن المسك بعض دم الغزال على ما قال المتنبي! وما أجدرنا بمعرفة السيرة الحسنة لهم، واقتفاء مسيرتهم الرضية؛ عسى أن نكون من المفلحين وممن تشبه بهم.
يبرز في حياة هذه المرأة الوفية فضيلة الصلة للأقارب والجيران، سواء بالصدقة أو الطعام أو التعاهد أو الزيارة، ولذلك تزور أسرتها الكبيرة في القصيم سنويًا وتسلم عليهم وتقضي حوائج ذوي الحاجة منهم، وتحث أبناءها وبناتها على مزيد البر لأبيهم الشيخ المحسن سليمان العبدالعزيز الراجحي، مع صلة إخوانهم غير الأشقاء وأزواج أبيهم فهنّ لهم خالات لهنّ حق التوقير والتحية. ومن أهمية هذا الأمر لديها أنها حين يدخل عليها جميع أبناء زوجها وبناته للسلام خاصة في الأعياد تدعو الله بصوت رفيع أن يديم بينهم الوداد والألفة، وأن يقطع دابر الشيطان وأيّ سبب للفرقة؛ ولعلّ الله قد استجاب دعواتها حين هدى زوجها لتوزيع أمواله وهو حي يرزق منعًا لأي ناشئة تعكر الصفو.
ونتيجة لهذه الصلة بادلها الذين حولها المحبة والتقدير، فيذكر أحد أحفادها أنه حج في حملة آل الراجحي الخيرية، وسلم على رجل مسنٍّ من الأسرة يناهز عمره التسعين، وقيل للرجل: هذا حفيد الشيخ سليمان فكان سلامه على الفتى عاديًا، وحين قيل له: إن مزنة جدته جذب الفتى وقربه إليه وأبدى الاحتفاء الشديد به لدرجة تصف المبالغة. وبعد العودة من الحج علم الحفيد أن هذا الرجل سقط من نخلة قبل نصف قرن تقريبًا، ومكث في المستشفى زمنًا فتكفلت جدته مزنه بوجباته طيلة لزومه الفراش، ولم ينس لها موقفها الذي لا يقوى عليه أي أحد.
كما يظهر في مسيرة حياة أم صالح ولعها الشديد بالعطاء والهبة والصدقة دون استقصاء عن حال السائل فهي تتعامل مع الله. ولا يقولن قائل هذه زوجة الثري الكبير وهذا الأمر طبيعي منها؛ فكم من ثرية الأب والأم والزوج والولد وهي أبخل البخلاء شحًا وحرصًا وجمعًا ومنعًا، إضافة إلى أن شيختنا لم تكن ممن يتوافر معهن المال السائل دومًا لتكون يدها ندية بالمنح، ولا تستغربوا إذا علمتم انها تبيع بعض حاجاتها الشخصية من أجل إغاثة ملهوف أو إجابة صريخ، ولا تستعظموا أن يكون مطبخها شبه خالٍ لأنها لا ترد أي سائل يقف ببابها ولو أن تعطيه تفاحة وشيئًا من رز وعلبة زبادي، ولذلك يفرغ مطبخها من خيراته قبل غيره من البيوت، ويتندر بنوها وحفدتها بأن الذاهب لبيتها قد يبيت طاويًا، ولا يجد طعامًا! ولربما مازحها بعضهم بتمثيل دور سائل يقف عند الباب فتهب لتحضير ما يغيثه ويسره.
ومن أعظم العبر أن ظاهرة العطاء الذي سكنت به حتى خالط منها مشاعرها وملك عليها التفكير والسلوك قد تجاوز الإنسان إلى الحيوان والطير، فمن عادة الناس أن يضعوا شبكًا على التمور وهي في النخيل قبل نضوجها أو قبل خرافها حتى لا يعبث بها الطير، بينما عمدت مزنة إلى قطع هذه الشباك وحين سألها زوجها عن السبب، قالت له: للطير رزقه من الله ولك رزقك منه سبحانه، ولن ينقص رزق مكتوب لأحد البتة!
ليس هذا فقط؛ بل إنها من عظيم رحمتها للطيور أن تهيئ لها الرز بسلقه وتجهيزه كأنه سيطبخ حتى يأكله بعض الناس، وعندما استفهم منها أحد أبنائها عن سر هذا الصنيع أجابته بأنها تصلح الرز للطيور كي لا تأكل جموع الطير في باحة منزلها الرز الناشف فيتعب بطونها! وهذه خصيصة أخرى فمع الكرم رحمة وحنان، تلك الرحمة التي شهد بها وعليها جميع الضعفة حولها، حتى أنها أوصت بإدامة العطاء لجميع من عمل في مسكنها من خدم وسائقين وأضرابهم حتى لو غادروا البلاد قديمًا.
وحين سمعت بحاجة حارس مسجدهم الهندي لمال وإجازة كي يزوج ابنته بادرت إلى رزمة جديدة متراصة من المال وأرسلتها له حتى كاد أن يغمى عليه عندما رأى خمسين ألف ريال تقريبًا تطرق بابه بيسر ودون احتساب منه. وعندما سافر عامل لديهم كي يحج تعاهدت زوجه وأطفاله بالوجبات يوميًا إلى أن رجع أبوهم من أداء النسك مع أن هذا ليس مطلوبًا منها ولا منتظرًا. ولرحمتها البالغة صارت مأمنًا يأرز إليه الخائف، ويطمئن فيه الوحيد، ولا يجد القادم إليه فيه وحشة أو غربة.
ولها مع العبادة شأن وأي شأن، إذ تصف الراحة حينما تدخل في الصلاة ولا تكاد أن تسلّم؛ فمن ذا يترك وقت الانشراح والأنس بقرب مولاه ومناجاته؟ وهي صوامة قوامة كثيرة الحج والعمرة إذا أمكنها ذلك، ولا تنفك عن سماع إذاعة القرآن وبرنامج نور على الدرب خصوصًا. وقد وقر في قلبها صفاء العقيدة، وحب الدين والتدين، وإجلال العلماء مثل الشيخ ابن عثيمين الذي بكته بكاء ثكلى يهيج البواكيا، وتفخر بطلبة العلم حتى أنها تقول لمن حولها: إن أسرتنا تفاخر بالشيخ عبدالعزيز الراجحي، ولم تذكر القامات التجارية والخيرية في أسرتها مع قربهم لها ومنها وعظيم آثارهم الحسنة في المجتمع.
أما خبرها مع الوقف فأمر يشبه الخيال مع أنه عين اليقين، وخلاصة الخبر أن زوجها قسم أمواله بين أزواجه وأولاده وفقًا للنصاب الشرعي المفروض حسب علم المواريث، فدخل عليها حفيدها د.خالد بن عبدالرحمن الراجحي وعندها بناتها وقال لها: هل تعرفين يا جدتي كم نصيبك من جدي؟ فقالت: خمسة آلاف! فقال هو وعماته بل أكثر، وهي تزيد في المبلغ وهم يخبرونها أن الرقم أكبر فلا تزيد على قولها: لا حول ولا قوة إلّا بالله. وعندما أعلموها عن الرقم الذي صارت تملكه أحاطت رأسها بيديها ونادت بحزن: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثمّ أمرت حفيدها أن يخبر والده وأعمامه بأن مالها كله وقف لله رب العالمين.
فذهب الحفيد من فوره إلى مجلس والده وأعمامه وأخبرهم فلم يتوان أحد منهم، وكتبوا الورقة بصيغة شرعية ونظامية محكمة، ووقع عليها أنجالها من أبناء وبنات، وعلى إثرها أنشئت مؤسسة مزن الخيرية، التي تركز على فعل الخير خاصة ما ينجد الضعفة مباشرة ويسعدهم من إطعام وإسكان وملبس وعلاج، هذا غير مجالات الخير الأخرى التي يكون فيها ابتكار وجدة مثل إنشاء جود للإسكان، وفي كل خير وقبول بإذن الله، ولعله قد أسعد قلب هذه المرأة المجبولة على الإنفاق مع سخاء النفس بلا تكلف، والهبوب نحو الإحسان بدون تصنع، ولا انتظار جزاء -نحسبها والله حسيبها-. ومن لطائف وقفها أنها مازحت زوجها أحد أعلام الوقف في حاضرنا وفي تاريخنا قائلة: أريد أن أنافسك بوقفي!
كذلك من لطائف حياتها التي لا تخلو من دروس وعبر أنها تفرح بالحفظة من أحفادها وأسباطها وتكرمهم، وتصلي خلف الأئمة منهم، وتقول بفقه: أنا مستفيدة من حفظكم في الجنة بإذن الله. ومن طريقتها أنها ترفض أن يبقى أي طعام في الصحن حتى لا يرمى، وتلك من سنة زوجها وأشقائه حتى أن صحون آل عبدالعزيز الراجحي في المناسبات تكون خالية لا من كثرة مأكولهم وإنما لأنهم أخذوا على قدر الحاجة فقط بلا سرف ولا انكباب مهول على مراكمة الأطعمة كما يفعل كثيرون.
ومنها أنه لا يدخل عليها أحد في بيتها إلا وتعطيه شيئًا من مال ولو كانت الداخلة موظفة كبيرة في المصرف ولها راتب ضخم، ولا يتزوج أحد الأحفاد أو الأسباط من الجنسين إلّا أهدت له ولزوجه هدية ثمينة، وتحرص على إشعار أزواج أبنائها وبناتها أنها في مقام الأم لهم وهم عندها كأنهم أبناء بطنها وبناته. ومن فرائدها أنها ترسل شيئًا من طعامها الذي صنعته لجيرانها وتلك عبادة غدت منسية بسبب تباعد الجيران وخفوت حقوق الجيرة.
ومن أخبارها أن طفلًا ليس من أحفادها شعر بما تغمره به من محبة وعطف، فقرر أن يهديها شيئًا، واشترى لتحقيق ذلك مجسمًا للمسجد الحرام يباع في أسواق مكة بخمسة عشر ريالًا وأعطاه للمزن الحنون؛ فأبدت إعجابها وابتهاجها، وأخذت الهدية معها لمنزلها، ووضعتها في مكان مناسب، وأخبرت زوارها أنه هدية من فلان. ومن مسلكها التعبدي أنها لا تكف عن السواك في كل آن فأكرمها الله ببقاء أسنانها بصحة وألق خلافًا للمعتاد من كبار السن.
ومع أن هذه المرأة التقية والدرة البهية لم تتلق من التعليم ما يؤهلها لقراءة أو غيره؛ إلّا أنها سارعت بتعليم نفسها من خلال السماع والاستماع والسؤال، وتطلب ممن حولها ان يقرأوا لها من كتاب صور من حياة الصحابة للدكتور عبدالرحمن رأفت الباشا ثمّ تعلق على المواقف وفي تعليقها محبة وإجلال للصحابة رضوان الله عليهم. ومرة دخل عليها حفيدها وهي تبتسم وتقول يا مِلْح عائشة رضي الله عنها وأرضاها حين سمعت خبر مسابقتها جريًا مع الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام. وبعد أن عرفت أن الجنة لا صلاة فيها قالت لمن حولها: هاو! سأصلي حياء من ربي!
كانت تلك شذرات من حياة امرأة عاشت أزمان الكد وعصور الرخاء دون أن يتبدل معدنها الطيب، وقضت آخر ثلاثين سنة من عمرها وهي تعاني من أمراض لم تقعد روحها عن البر والتقوى وجميل المآثر. وهي نبذ من خبر امرأة أحسنت الظن بالكافة، وحرصت على دعوة غير المسلمين إلى دين رب الأرض والسماء، وبالغت في نصيحة ذويها بالتقوى والخير والابتعاد عن الظلم والجفاء، ووصلت أقاربها وجيرانها ببرها وحسن خلقها حتى شاركوا في وداعها، وبكوا على رحيلها كما لو كانت لبعضهم أمًا.
وقد كانت هذه المزنة الهاطلة بكل حسن بنت أكرم والد، وزوج خير محسن، وأم النجباء وخالتهم، وجدة الفضلاء، فلا غرو عقب ذلك أن تصبح هي الضخمة في الأثر والأحدوثة، وهي المثال الوضاء في عالم تزداد ظلماته، وهي الديمة المباركة المدرار التي لا تنقطع عن الغيث، ولا تتوقف عن العطاء، وفي شأنها كله لا تضر أحدًا، وإنما تنفع الأرض وما ومن سار عليها، وتؤكد فوق ذلك كله على عراقة المجتمع والإحسان فيه، وتضيف لهذا القرن سيرة زكية يرويها من يأتي بعدنا.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 11 من شهرِ رجب الحرام عام 1443
12 من شهر فبراير عام 2022م
3 Comments
رحم الله الفقيدة مزنة الراجحي وجعل مثواها جنة الفردوس الاعلى .مع اهلها واحبائها ، سيرة عطرة ونموذج يقتدى بها . جمعت بين الزوجة الصالحه . والام الصالحة . والمسلمة المومنة . وليس لي الا ان اضيف لها رحمك الله العلي القدير ورحم والديك ووالدين والديك . لما للاهل الفضل الكبير . في تربية وتوجيه الابناء للطريق الصحيح . ولااهلها {احسن الله عزاكم ..وجبر مصيبتكم ..وغفر لميتكم}
اللهم آمين
اللهم اغفر لها وارحمها ولجميع موتى المسلمين اللهم امين