سير وأعلام عرض كتاب

نعيمة الشايجي في الطريق الدولي

نعيمة الشايجي في الطريق الدولي

هذا جزء من عنوان سيرة ذاتية صدرت مؤخرًا، وعنوانها الكامل: في طريقي إلى الأمم المتحدة: وقفات في مرفأ ذكرياتي، تأليف: نعيمة عبدالرحمن الشايجي، من منشورات ذات السلاسل، ظهرت الطبعة الأولى منها عام (1442=2021م)، وتقع في (334) صفحة مكونة من مقدمة وتسعة فصول ثمّ الختام مع وقفة وكلمة. يحكي الفصل الأول أخبار أيام الطفولة في البحرين والشباب في الكويت، ويختص الثاني بالإدارة البيئية، أما الثالث فحول مسيرة التخطيط، ويذهب الرابع إلى الصندوق الدولي للتنمية الزراعية، والخامس يخوض في شؤون المرأة ومؤسسات المجتمع المدني، ويروي السادس ذكريات المؤلفة إبان الاحتلال البغيض، وعن معاهد علمية وهيئات كويتية عامة يتحدث الفصل السابع، ويتضمن الثامن أحداثًا ومواقف لابد من تدوينها، وتختم الشايجي سيرتها بالفصل التاسع عارضة سيرتها الذاتية وإضافات أخرى. ولما في مسيرتها من فوائد وطرائف رأت تدوين ذكرياتها وسرد تجربتها طبقًا لما ورد في المقدمة.

من مجمل السيرة يتضح لنا أننا أمام امرأة جادة للغاية، وهبت عمرها للعمل أكثر من اللازم، وتعبت على إعداد نفسها، واجتهدت لتتعلم وتفهم بالقراءة والسؤال والبحث وتدوين الملاحظات؛ فلا تحضر في مؤتمر أو تشارك في لجنة إلّا وقد أعدت للأمر مايستوجبه فأضحت مشاركاتها إضافة لها قيمة، وأصبح رأيها موضع نظر وتقدير حتى لدى أمراء البلاد ورؤساء الوزارة مثل الشيخ جابر والشيخ سعد والشيخ صباح. كما سنحت لها فرص كثيرة محلية وإقليمية ودولية، وضاعت منها فرص واستحقاقات أخرى. وبعد تطوافها في دول وعواصم آبت إلى بلدتها إذ لا مناص من الاستقرار والسكون، فلكلّ طائر عش إليه يومًا سوف يؤوي.

كذلك تبين لنا هذه الذكريات الانهماك الشديد في العمل وشؤونه وإنما تحلو الحياة بالتوازن، وتصف خفايا المنافسة على المكاسب الدنيوية التي تجعل القيم والمبادئ في منزلة قصية كما فعلت زميلة للمؤلفة عندما سطت على وظيفتها وهي منتدبة إلى روما. ومن دروس السيرة أن الوعود الإدارية الشفهية سريعة التبخر سواء كانت الأجواء حارة مثل الكويت أو حتى باردة مثل روما التي أخفى موظف أجنبي فيها معلومة عن المؤلفة ليمنع خيرًا لن يلحقه هو ضرر لو فازت به.

ولا تخفي السطور وما خلفها آثار الغيرة خاصة بين النظراء، وخشية بعض الزملاء ممن يذهب لمحفل دولي أو برنامج تدريبي ثم يعود ممتلئًا بعلم وخبرة، ولا يغيب عن بال قارئ السيرة أن المناصب تتجاوز المؤهلين إلى غيرهم فجأة أو بخطأ إداري أو لموقف. وفي المقابل حفظت مرافئ ذكريات الشايجي الثناء العاطر لشخصيات كويتية وعربية وأجنبية كثيرة بمواقفهم النبيلة وآرائهم الجريئة، وأبانت عن اختلاف الشعوب وأهل البلد الواحد؛ فمنهم من يخفي مفتاح البيت عن الساكنة فيه بأجر، ومنهم من يعيد تنظيم المنزل ليستضيفها مع زوجته وبناته مجانًا.

وقد أثنت الكاتبة على التعليم في البحرين، وأفصحت عن محبتها للبلد وأهله لدرجة تكاثر صداقاتها هناك حتى أن امرأة من آل خليفة تقول لها إذا قابلتها في مؤتمر أنت لنا ولست للكويت! ومن خبر الطفولة أن والدتها تحرص على جمع الكتب مع أنها لا تقرأ لكنها تطلب من أولادها القراءة لها، ولأمها الراحلة مبكرًا فاطمة بو حمرة موقف عظيم مع شاب عماني يعمل لديهم إذ كلفت أولادها بتعليمه حين لمحت شغفه بالعلم، وسهلت له الدراسة المسائية، وصار فيما بعد ضابطًا في بلاده بيد أن صلته بالأسرة الكويتية لم تنقطع وفاء منه حتى أيام الاحتلال. وأما والدها الذي عاش بعد رحيل زوجته فكان خير داعم لابنته في تعليمها وعملها.

كما تحدثت عن دراستها في الكويت وابتعاثها لبريطانيا مع حرصها على التقاليد والعادات ورفع رأس أسرتها وبلدها. وذكرت تفاصيل خبر وفاة والدتها دون علمهم حرصًا من والدها على أن تكمل هي وأخواها دراستهم في الخارج دونما تنغيص، حتى علم أخوها بالخبر وهو في الطائرة المتجهة من أمريكا لبريطانيا من أجل مقابلة أخيه وأخته والسفر معهما للكويت، ثم تولى هو إبلاغ أخيه بالنبأ المفجع تمهيدًا لإخطار شقيقتهم التي آلمها الخبر وزاد تأخير إبلاغهم إياها في مضاضته ومرارته.

وحين رجعت إلى الكويت عملت في شؤون البيئة والزراعة والمياه والتخضير والتخطيط، وتزاملت مع وزراء وعدد من كبار رجال الدولة في الكويت، ولها في تلك الحقبة خبرات وتجارب قادتها إلى التميز وتدريب موظفين في شركة النفط وجامعة الكويت، مع مشاركات محلية وإقليمية ودولية جلبت لها الثناء والإشادة من رموز علمية عالمية، ووصل صدى هذه الإشادة إلى الكويت والمؤسسات الدولية التي عملت فيها لاحقًا. ولأجل ذلك نالت الترشيح لمناصب وعضويات بيد أن بعضها لم يكتمل لأسباب غريبة إداريًا، أو لسوء فهم عرضي أو مقصود.

تلك المؤسسات التي انغمست فيها بداية من الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد) في روما بين عامي (1980-1987م) إذ أمضت السنوات الأربع الأولى مع السفير عبدالمحسن السديري رئيس الصندوق وأول سعودي وخليجي يدير منظمة دولية، وهو الذي يصفها بأنها وزيرة خارجية الصندوق. وأيضًا عملت أو أصبحت عضوًا في مجالس عليا مثل المجموعة الاستشارية الدولية للبحوث الزراعية في واشنطن، ومع المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا) في حلب بين عامي (1983-1989م)، وفي لاهاي مع معهد الخدمات الدولية للبحوث الزراعية الوطنية (إسنار) بين سنتي (1989-1995م) ومن منجزاتها التي لا تنسى إدخال اللغة العربية إلى ملخصات المجلس التنفيذي له، كذلك شاركت في المعهد الدولي لإدارة المياه والري في كولومبو بسيريلانكا (إيمي) بين عامي (1990-1995م)، وتعاونت مع الأمم المتحدة في برنامجين أحدهما إنمائي والآخر بيئي، وهذه الخبرة المجتمعة لدى الأستاذة عميقة كان يجدر اغتنامها في الكويت والخليج والبلاد العربية.

أما أحد أهم مواطن السيرة فهو جهود الأستاذة نعيمة فيما يختص بالمرأة ومؤسسات المجتمع المدني. وموضوع المرأة وحقوق الإنسان يتداخل فيهما الحق والباطل والأغراض السياسية والانتخابية والحضارية. ومن الخير لنا أن نفيء إلى تعاليم ديننا وإرث حضارتنا وثقافتنا التي لم تظلم رجلًا ولا امرأة ولا طفلًا ولا جنينًا ولا مجتمعًا-وحاشا شرع ربنا أن يفعل- فحقوق الجميع وواجباتهم واضحة مكفولة بشرع رب الأرض والسماء، ولا يمكن نسبة الأخطاء الفردية والمجتمعية للمرجعية الشرعية البريئة منها.

ولا يحسن الوثوق المطلق بالحراك الدولي لأجل النساء وعامة الحقوق؛ لأنه حراك أعور أو حتى أعمى يغضُّ الطرف عن المشكلات الواضحات والحقوق الضائعة، ولا يركز إلّا على ما يحقق أهدافه التي لا يطمئن إليها عارف بتلك المنظمات وما ورائها، ولأجل هذا انسحبت المؤلفة البصيرة من عضوية منظمة دولية يابانية مقرها في كوريا تسعى لاستدراج الشباب والنساء وسلخهم من دينهم تحت شعار التآخي، واسمها الاتحاد الدولي ما بين الأديان للسلام العالمي (IIFWP)، وهي من أفكار “بان كي مون” -أظنه الأمين العام السابق للأمم المتحدة الذي كان كثيرًا ما يشعر بالقلق نحو الجرائم البشعة دون أن يحرك ساكنًا-.

ويحسب للمؤلفة أنها حين كلفت بمرافقة نوال السعداوي خلال زيارتها للكويت طلبت من السعداوي إقصاء آرائها الجانحة، وتجنب الخوض في مسائل شائكة أو شاطحة تعبر عن وجهة نظرها هي ولا تناسب المجتمع الكويتي، وهذه حكمة وروية عرفت عن نعيمة ويشهد لها بهما. ومن الملاحظ دخول نساء الطبقات المؤثرة في الكويت بالعمل النسائي ذي الصبغة الأممية، وهذا الدخول كما يبدو لي -ليس في الكويت وحدها- يرجع إما لطلب التفاخر والتقليد، أو للاحتماء بهن من أطراف ضعيفة تعمل في الخفاء، أو لتجميل الأوضاع بوجودهن وتزيين ذلك لدى دول الغرب والمنظمات الدولية. ولا ريب أن لقسم منهن نية صادقة ينقصها التخلص من التبعية الدولية، فمصالحنا وإصلاحنا ذاتي منبعث من رحم ثقافتنا وبيئتنا ولا يستند على شيء خارجي أبدًا، ومن الانصاف تقدير المخلصات منهن.

وبالجملة فإن حقيقة جزء من الأعمال الدولية الخاصة بالأسرة يتمحور حول إشاعة الفجور وهدم كيان الأسرة، وتشريد الطفولة، ومنع التربية والمسؤولية، وإن اهتمام الغرب بهذه المسائل إنما هو في غالبه للضغط والابتزاز السياسي ولجر مجتمعاتنا إلى مستنقعات علقوا بها وعانوا من آثارها، ولن يرضى أولئك القوم بالتنازل تلو الآخر من بلاد المسلمين؛ لأن الهدف أعظم من مجرد تغيير في نظام أو إجراء. ومن الجلي أن المؤلفة العاقلة تقف ضد هذه التوجهات المريبة ومعها جمهور عريض من نساء المسلمين وإن سار بعضهن-بسبب المظالم أو سوء التفسير- في ركاب المطالب العالمية محسنات الظن بها، أو يتخذنها مطية للسعي من أجل نيل حقوق مسلوبة هي في أصلها شرعية أو من المساحة المقبولة أو القابلة للتداول.

أيضًا في الكتاب أخبار طريفة ومؤلمة وخبرات مكثفة بجمل، مثل استقبالها في مطار أمريكي وتصويرها من قبل مندوبي الصحف والتلفزيون لأنها باحثة قادمة من بلاد بعيدة وبعض الناس لا يعرف الكويت، ومنها إخراجها من سيارة في المغرب بعد حادث شنيع استلزم تحطيم أبواب السيارة. وفيها رواية عن تنازع وفدي العراق وإيران على مسمى الخليج، وعلى الترشيح لمناصب في مؤسسات إقليمية، وهذا التنازع قبل الحرب الطاحنة بينهما التي استمرت ثماني سنوات وكانت بعض الظنون تتوقع سرعة نهايتها، بيد أن نيرانها تزايد اشتعالها كي تضمن تشغيل مصانع السلاح في الغرب؛ فلم تخمد الحرب إلّا بعد سنوات عجاف وبلا مكاسب وإنما بخسائر بشرية ومالية وتنموية وغيرها.

ولاحظت المؤلفة في اليابان ندرة النساء فيما زارته من أعمال، وحضرت مسرحًا في طوكيو جميع ممثليه من الرجال وبعضهم يؤدي دور امرأة، وأجزم أن مثقفي اليابان ليس فيهم من يستنقص مجتمعه لأجل ذلك. ومن الخبرة المكثفة قولها: لا أقول الرأي بصيغة الجزم إلّا عقب الاستيثاق التام منه، وتخبرنا بوجود أموال ضخمة تهدر، وأعمال مهمة لا تُتابع، وعقود لخبراء أجانب بمبالغ باذخة تُجدد دون تقييم منجزاتهم. ومنها أن إهمال الكفاءات بلاء ماحق، والتعلق بوهج الشهادات العليا يحرم البلاد من قدرات فائقة، وأخيرًا فما أكثر ما يُكذب على المسؤول الكبير، والكَذَبَة حوله من موظفيه ومستشاريه، وغيرها من العبارات المستجمعة للمعاني وهي متوافرة في الوقفة الختامية من الكتاب.

أخيرًا، وبعد جولات عالمية تجاوزت ستين بلدًا في إقامة طويلة أو قصيرة، وعبر ترداد دائم أو منقطع، شمل البحرين وبريطانيا وأمريكا وإيطاليا، ثمّ نيروبي ونيويورك وجنيف وفيينا وحلب ولاهاي وكولومبو، وبلاد أخرى كثيرة، عادت الخبيرة الدولية والموظفة الأممية إلى بلدها الكويت، لتنعم بالأهل والجوار ورائحة المكان، ولتعطي من خدماتها وخبراتها لأهلها ووطنها، وكان من ذلك إصدار هذا الكتاب الذي عرضت طرفًا منه، وهو في مجمله على شهادة على عصر وأناسه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأحد 04 من شهرِ ربيع الأول عام 1443

10 من شهر أكتوبر عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)